قرارات الحكومة بين الحصانة والرقابة القضائية
د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
2020-08-03 04:17
أرسى المشرع الدستوري في العراق ضمانات مهمة لخضوع الحكومة للقانون ولولاية القضاء لتحقيق ضمانة الدولة القانونية، والتي تعد أهم ضمانة للمواطن إزاء ما تملكه الحكومة والسلطات العامة بشكل عام من سلطات يمكن ان تهدد حقوقه وحرياته بشكل كبير وخطير، فالأجهزة الحكومية وعلى كل مستوياتها لاسيما المركزية منها والمحلية تتعامل بشكل يومي مع المواطن وتستصدر كل ساعة لعله العشرات بل المئات من القرارات الإدارية التي تمس حياة الناس وأمنهم والخدمات المقدمة لهم.
ما يثير في الذهن سؤال مقتضاه هل نحن في مأمن من هذه الاختصاصات المتعددة والواسعة؟ لاسيما وإن احتمال التعسف والانحراف قائم والاستبداد بالسلطة صفة تكاد تكون وراثية عند بني البشر، فان لم نكن كذلك فما هي ضماناتنا التي توقف وتصد السلطة الإدارية عن غيها إن تمادت وتجاوزت حدود سلطتها واختصاصها؟
فالدولة القانونية تعني خضوع المؤسسات العامة للقانون، لا ان تضع نفسها فوق القانون، إذ يفترض ان تمتثل جميع الشخوص الطبيعية منها والمعنوية العامة والخاصة لحكم القانون وان يملك الأفراد وسائل محددة لحماية مراكزهم القانونية التي ينشئها القانون ويحميها بنصوصه، فان تعرضت تلك النصوص للاختراق من قبل السلطة العامة أو بعض الأفراد يكون مبدأ الدولة القانونية قد انهار ركنه المتين، ويشترط للقول بقيام الدولة القانونية أن تمتثل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية للقانون وبخلافه يمكن ان نسمي الدولة بالبوليسية، إذ إن الفلسفة مما تقدم تعود لرضا الشعب مالك السلطة الحقيقي ان يحكم وفق قواعد قانونية محددة يضع بعضها بنفسه بشكل مباشر من خلال الاستفتاء الدستوري، ويخول البرلمان ان يسن بقية القواعد الملزمة.
لهذا على السلطة ان تحترم القانون ولا تخرج عن مقتضاه كونه يمثل سيادة الشعب لا سيادة السلطة فالأصل ان السيادة للشعب وهو من يخول ممارستها لهيئات العامة لاسيما التنفيذية والتشريعية، وتقيد السلطة العامة بالقانون في حقيقته ضمانة للحقوق والحريات العامة والخاصة فلو تمكنت السلطات العامة من وضع ما تشاء من قواعد وتطبقها على الأفراد لأفرغت الحقوق من محتواها فيكون القانون أو القرار الحكومي ظالماً، فمما نود التأكيد عليه ان المبدأ الصواب هو السيادة الشعبية والتي يمارسها بالأساليب الديمقراطية التي تنتج الممثلين عن إرادته، وان القانون أو القرار الإداري مظهر للسيادة وليس هو السيادة بحد ذاتها فهو أداة للتعبير والإفصاح عن الإرادة العامة ويتصل بالنظام العام، وحين نؤمن ان الدولة هي التشخيص القانوني للشعب نقول الدولة ذات سيادة كون الصفة جاءت من الموصوف أي الشعب، وهذا ما عبرت عنه المادة الأولى من دستور جمهورية العراق لعام 2005 ((جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة))، والوصف الدستوري المتقدم "بالسيادة الكاملة" محل نظر كون الدولة إما تتمتع بالسيادة أو لا، فلا تكون دولة كما في السلطة الفلسطينية التي تجاهد ليكون لها سيادة ولو صورية على شيء من أرض فلسطين.
أضف لما تقدم فإن ما ورد في المادة الخامسة من دستور 2005 كان محل نظر أيضاً حين انتهى النص الدستوري إلى ان ((السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية)) فالسيادة للقانون الذي يضعه البرلمان ممثل الشعب أم السيادة للشعب الذي انتج البرلمان والقانون، فالنص المتقدم حين يعرف السيادة بأنها قرينة القانون إنما يستند إلى اعتبار تاريخي ساد في فرنسا عقب ثورتها العام 1789 حيث اقنع منظرو الثورة الرأي العام ان السيادة للأمة التي وضعوها بموضع الشخص الواحد أو مثلوها بمنزلة الشخص المعنوي الموجود، والمالك للسلطة والسيادة، ليتمكنوا من زمام الأمر ويفرغوا المبادئ الديمقراطية التي أعلنوها من مضمونها الحقيقي، فبما ان البرلمان يمثل الإرادة العامة فتكون السيادة لما يضعه من نصوص قانونية، لهذا لم يعرف الفرنسيون مسألة الرقابة على دستورية القوانين إلا بعد قرن ونيف من الزمن عقب الثورة الفرنسية.
وهذا ما حرص القانون الأساسي العراقي للعام 1925 على إرساءه حين ورد النص في المادة (19) على ان ((سيادة المملكة العراقية الدستورية للأمة وهي وديعة الشعب للملك فيصل بن الحسين، ثم لورثته من بعده)) والنص بهذه الصياغة يضع الملك فوق القانون كونه يمثل الأمة والسيادة الشعبية مودعة لديه، وهذا الوضع يغازل الأنظمة الحاكمة المستبدة التي لا تتيح للشعب إمكانية التعبير الحقيقي عن إرادته، في حين لو قلنا السيادة للشعب هذا يعني إلزام المشرع الدستوري والعادي بوضع نصوص قانونية في الدستور والقانون تسمح للشعب ان يسترد سيادته من ممثليه في البرلمان، أو وكلائه في الحكومة، ان انحرفوا عن الأهداف التي رسمها الشعب وارتضاها أفراده في عقد تعايشهم السلمي، فالخوف من النتيجة المتقدمة تجعل صائغ النص الدستوري يتلاعب بالألفاظ ليبعد الشعب عن ساحة التأثير المباشر في السلطات العامة.
إذن خضوع الدولة للقانون يعني خضوع السلطات العامة التشريعية والتنفيذية والقضائية لهذا سيادة القانون لن تضيف لنا أي ميزة أو ضمانة حقيقية للحقوق والحريات ما لم توضع ضمانات تجيز للشعب الطعن بالقرارات الحكومية والقوانين الصادرة عن البرلمان، فالقانون يخاطب الأفراد أو السلطات.
ومع ما تقدم يحتم على الجميع النزول عند ذلك، وزيادة في الحيطة ورد في الدستور العراقي نصين ضمنا ما تقدم الأول هو ((المادة 93/ التي بينت اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا ومنها "الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة")) والنص الأخر هو ما ورد بالمادة ((101)) التي بينت تشكيل مجلس الدولة العراقي وورد النص بالصيغة الآتية ((يجوز بقانون إنشاء مجلس دولة يختص بوظائف القضاء الإداري والإفتاء والصياغة وتمثيل الدولة وسائر الهيئات العامة أمام جهات القضاء)) والنصين المتقدمين يجيزان بما لا يقبل الشك الطعن بالقرارات الحكومية أمام جهتين قضائيتين وفق الآتي:
أولاً: الأنظمة: والتي تصدر سواء عن مجلس النواب بموجب المادة (51من الدستور العراقي /يضع مجلس النواب نظاماً داخلياً له لتنظيم سير العمل فيه) أو مجلس الوزراء بموجب المادة (85من الدستور /يضع مجلس الوزراء نظاماً داخلياً لتنظيم سير العمل فيه) وقد سمح الدستور ان يتم الطعن بعدم دستوريتها أمام المحكمة الاتحادية العليا، ليتم تطبيق أحكام قانون المحكمة الصادر بالأمر التشريعي رقم (30) لسنة 2005.
ثانياً: القرارات والأوامر الإدارية والتي يتم الطعن بها أمام محاكم مجلس الدولة العراقي الذي تم استحداثه منذ ثلاثينيات القرن الماضي بمسمى ديوان التدوين القانوني، وتغيرت تسميته إلى مجلس شورى الدولة بالقانون رقم (65) لسنة 1979، وأخيراً تغيرت تسميته إلى مجلس الدولة لتتناسب التسمية مع الدستور بموجب القانون رقم (71) لسنة 2017، إذ تكون محكمة القضاء الإداري ومحكمة قضاء الموظفين هي المختصة بنظر أي دعوى ترفع ضد قرارات وأوامر الحكومة بمختلف وزاراتها إضافة إلى المحافظات والقرارات الصادرة من المحافظين وغيرها من الهيئات العامة والهيئات المستقلة وغيرها والتي تصدر استناداً للمادة (80) من الدستور أو غيرها من المواد القانونية، ومنها على سبيل المثال المادة (7) من قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 المعدل، سواء أكانت القرارات صريحة إيجابية أو ضمنية أو سلبية حيث اعتبر المشرع سكوت الموظف أو الهيئة العامة عن الرد على طلبات الأفراد بمثابة القرار السلبي الذي يجوز الطعن به أمام المحاكم الإدارية المختصة بموجب المادة (7/سادساً) من قانون مجلس الدولة سالف الذكر.
ويشار إلى ان الدستور العراقي نص في المادة (100) على "حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من الطعن" وما تقدم خطوة مهمة بالاتجاه الصحيح للحد من نظرية أعمال السيادة التي قد تتذرع بها الحكومة لتلبس ثوب الحصانة بعض من قراراتها المهمة بحجة إنها تتعلق بالمصالح العليا التي لا تهم أحد على وجه الخصوص بل تعود على المصلحة العامة بالفائدة كرسم السياسة الخارجية والدبلوماسية وإبرام المعاهدات الدولية، أو ما يتعلق بحالة الطوارئ الصحية أو الأمنية، بل قد يتعدى الأمر إلى تعاقدات الحكومة مع الشركات العالمية أو المحلية، وغيرها.
أضف لما تقدم هنالك قرارات تتعلق بالسلطات العامة من حيث تشكيلها أو تنظيم عملها كالدعوة للانتخابات لتعلقه بتشكيل السلطة التشريعية والتنفيذية، أو اقتراح مشاريع القوانين المتعلق بعمل البرلمان أو دعوة مجلس النواب لعقد جلسة استثنائية من قبل رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء، فكل ما تقدم له خصوصية في ميدان عمل الحكومة، ولو طاب لأحد المواطنين الطعن ضد أي من هذه القرارات فمن سيسمع الدعوى وما الإجراءات واجبة الإتباع، ونعتقد ان الأمر يشوبه الكثير من الغموض ما ساهم في عزوف المواطنين عن الطعن ضد هذه القرارات رغم أهميتها بل كونها مصيرية تتعلق بمصير البلد أو بالعمل الديمقراطي، أو تتصل بحقوق الناس وحرياتهم السياسية والمدنية والاقتصادية.
فرغم وضوح النصوص المتقدمة إلا ان المشكلة تتعلق بغياب الرغبة الحقيقية لدى الكثير من أبناء الشعب بالتغيير من بوابة القضاء بوصفه الطريق الرديف للمسار الديمقراطي، بل الضمانة الأهم للحقوق والحريات، ومن هذا المنطق القانوني ندعو أبناء الشعب العراقي كافة إلى المبادرة الطوعية من خلال تأسيس جماعات ضغط أو الاستعانة ببعض الناشطين والمحامين لتبني الحلول الديمقراطية والقضائية في إحداث التغييرات المحورية في مسيرة الدولة العراقية والدعوة قائمة لمنظمات المجتمع المدني والجمعيات والأحزاب الوطنية للنهوض بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية في معارضة كل القرارات الحكومية التي من شأنها ان تنتقص من الحقوق والحريات الفردية والجمعية العامة والخاصة.