ثقافة تعليق الجثث
مسلم عباس
2019-12-16 04:45
بات من الصعب ابداء الرأي في ظل انقسام المجتمع العراقي الى معسكرين، معسكر مؤيد للتظاهرات ويتهم الاراء التي تعارضه بانواع التهم، ومعسكر مضاد للتظاهرات ومقرب من الحكومة ويكيل مختلف التهم ضد المتظاهرين ومؤيديهم، وما بين المعسكرين هناك نسبة كبيرة من الشعب العراقي لا مع هذا ولا مع ذلك لكنها تعاني من حالة قمع الرأي سواء بالتخوين او بالقتل في حال كان الشخص المعبر عن رأيه شخصية مؤثرة.
في ظل هذا الوضع القمعي وان تم وصفه بالانفراجة في التعبير يمكن ان يقتل الشخص لمجرد معارضته قضية معينة، والاخطر انه قد يتهم بمعارضته لقضية لا يفهمها اصلا، وقد يزج به في القضية من حيث لا يدري، ليجد نفسه في النهاية ضمن الضحايا، كما تنعدم المعلومات الصادقة في هذه الاوضاع من اجل تعويم القمع الفكري من قبل المعسكرين المسيطرين في الساحة العراقية.
ولان المعلومة ضائعة، يمكن القاء الضحية وسط الفوضى، وارتكاب ابشع الجرائم بحقه دون وجود مجرم واضح، وهذا بالضبط ما حدث في ساحة الوثبة، حيث قتل مراهق وتم تعليق جثته في عمود الاشارة المرورية وجموع كبيرة من المتظاهرين يصورون ويرفعون شعارات دينية ووطنية وكأن هناك نصر مبين، الجريمة ارتكبت بحجة ان المراهق من المعسكر الاخر، ولان هذا المعسكر مجرم حسب ادبيات الصراع الجاري، يمكن فعل كل شيء تجاه هذا الشخص، لكن بعد ساعات اعلنت ساحات التظاهر التبرؤ مما حدث، لتعود الحكومة واعلامها باتهام المتظاهرين، ودخلنا في دوامة من الادانات والتبريرات لم تتوقف حتى الان.
ورغم شحة المعلومات، فان ما اكتشفناه بشكل واضح جملة من الامور الخطيرة التي نوجزها في الاتي:
1. هناك حاجة ماسة الى الفصل بين الاختصاصات، وان يكون هذا واضحا لدى الناس، فلا يمكن للمواطن اخذ دور الشرطي ولا يمكن للشرطي اخذ دور القاضي، ولا يمكن للموظف اخذ دور المدير وهكذا، فمن اعتقل المراهق وقتله ثم علقه اخذ دور الشرطي ودور القاضي ليصدر الحكم خلال لحظات ويقوم بالعقاب دون الرجوع الى أي نص قانوني او عرف اجتماعي، انها جريمة خطيرة ومؤشر على وجود قابلية للاجرام لا سيما وان هناك جموع غفيرة تصور وتهتف على حدث لا تعرف تفاصيله.
2.قامت جميع الأطراف بتعويم الجريمة عبر اتهام طرف وهمي، وهذه الطريقة سيئة وتؤثر على تعقيد الأمور اكثر من حلها، فتعويم الجريمة يمكن ان يخفي القاتل، ويمكن ان يفلت من العقاب، لكنه لا يلغي فعل القتل المتجذر شعبيا ورسميا، لان المجرم يعرف ان باستطاعته الهروب عبر الجعجعة الاعلامية والتشويش على الاخبار من اجل تضليل الجمهور، ومن هنا تظهر الحاجة الى اعلام مهني قادر على إعطاء الجمهور الحقيقة كما هي، بحيث يصعب على من يرتكب جريمة ان يفلت من العقاب لانه يعرف بوجود جيش كبير من الصحفيين الذين سوف ينبشون السجلات واشرطة التسجيل لتحديده وفضحه امام الرأي العام.
3.التغطية المكثفة للجريمة من قبل بعض وسائل الاعلام فعل فاضح، ويبعد الاعلام عن وظيفته كناقل للحقائق، كما ان تبرير بعض وسائل الاعلام لجريمة القتل بحجة ان هناك من يغض الطرف عن جرائم مشابهة يشبه ما قامت به الفضائيات الحزبية، فوظيفة الاعلام هي الحقيقة وليس التبرير مهما كانت الجريمة واثارها، لان الحقيقة هي الأهم دائما وبها يتم بناء الوطن. بالمجمل أصبحت لدينا هناك حالة تبرير للجريمة بحجة وجود ٥٠٠ شهيد، وهناك في الجهة الثانية حفلة ادانات، وأقول حفلة ادانات لان القنوات الفضائية التي تدين الجريمة تريد ان تستخدمها سياسيا لا اكثر.
4.لا توجد بين الطرفين اي مساحة للرأي الثالث، فانت اما مع المتظاهرين بايجابياتهم وسلبياتهم، او مع الحكومة بايجابياتها وسلبياتها، وثقافة محور الخير ومحور الشر لا تبني الوطن، بل تعيد انتىاج ثقافة التهميش والفكر الاقصائي.
5. على كل من كان يحمل السلاح خارج الدولة، ويعتبر نفسه مستثنى من القواعد عليه معرفة ان حمله للسلاح يدفع الاخرين لحمل السلاح وارتكابه للجريمة يدفع الاخر للقيام بافعال اكثر اجراما، وما حدث في الوثبة هو نتيجة حتمية لاستغلال بعض الجماعات لقوتها العسكرية ومحاولتها فرض الامر الواقع بالترغيب او الترهيب، ما دفع الاخرين الى استخدام أساليب مضادة، وكما يقال الدم يجر الدم، والثأر يجر الثأر، لندخل على بوابة الحرب الاهلية.
ما لم تؤخذ جريمة الوثبة والجرائم التي ارتكبت سابقا، وحصر السلاح المنفلت خارج اطار الدولة، فلا يمكن للإصلاحات ان تسلك طريقها الى ارض الواقع، لان البناء لا الأخطاء لا تعالج بالاخطاء، والدولة التي لا تحتكر العنف بيدها يتحول العنف فيها الى حالة اعتيادية، ويصبح تعليق جثة انسان في عمود الإشارة المرورية لا يختلف كثيرا عن تعليق جثة الحيوانات المذبوحة في محل القصابة.