القانون الانتخابي بين إعادة التشريع وإصلاح المنظومة الانتخابية
د. علي مهدي
2019-12-03 07:01
يدور نقاش عام حول النظام الانتخابي المناسب للعراق، بعد طرح مسودة القانون الانتخابي المقدم الى مجلس النواب وهو مطلب نادت به الجماهير المنتفضة والعديد من القوى السياسية التي يهمها تطوير التجربة الديمقراطية وتصويبها من الممارسات التي ادت الى المأزق الذي نحن في مستنقعه.
فقد كانت السلطة التشريعية وطوال الدورات السابقة والقوى المهيمنة فيها تعمل على صياغة قوانين انتخابية تؤبد وجود حضورها وتساهم في تدوير شخوص قياداتها في المشهد السياسي، وغير مبالية اتجاه الاصوات العالية التي تدعو الى التوقف عن صياغة قوانين كهذه تبعد شرائح اجتماعية واسعة عن المشاركة في الانتخابات حتى بدأ الشك يراود الكثيرين حول مدى شرعية النظام السياسي بسبب النسب العالية من حالة العزوف عن التصويت في الانتخابات والتي وصلت الى نسب متدنية جداً.
وان هذا الموقف السلبي من قبل جماهير الشعب، انعكس بحضور ايجابي فاعل من شريحة الشباب بتصدرها ساحات الاحتجاج وقيادة الانتفاضة الجماهيرية في كل محافظات الوسط والجنوب بعد ان اصابها الاحباط واليأس من تسلكات النخب الحاكمة مما دعاها الى عمل ثوري جبار بأخذ زمام المبادرة وانخراطها في عمل سياسي من الطراز الاول وتبنيها العديد من المواقف السياسية الرافضة للواقع القائم وطرحها لمجموعة من الشعارات والتي منها إقالة الوزارة وتشكيل وزارة ذات صلاحيات تطلق العنان للسلطة القضائية وهيئة النزاهة بمحاربة الفساد ومحاكمة سارقي اموال الشعب وتنفيذ الحزم الاصلاحية وتهيئة الاجواء لانتخابات مبكرة في ظل قانون انتخابي عادل ومفوضية مستقلة بحق وحقيقي تدير الانتخابات بشكل حر ونزيه وشفاف والدعوة لإشراف الامم المتحدة.
ولأجل ايجاد قانون انتخابي عادل يساهم في المشاركة الواسعة الذي هو أحد المطالب الاساسية للمنتفضين تم اعداد هذه المادة.
مدخل نظري
ان الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية لإسناد السلطة للحكام، ولها نظام انتخابي يمثل مجموعة من القواعد التي تحدد كيفية تنفيذ وتحديد نتائج الانتخابات. والأنظمة الانتخابية تتضمن مجموعة من القواعد التي تحكم جميع أوجه عملية التصويت: موعد الانتخابات، من يحق له التصويت، من يحق له الترشح، كيفية تمييز بطاقات الاقتراع والإدلاء بها، كيفية عد بطاقات الاقتراع، محددات إنفاق الحملات، وباقي العوامل التي قد تؤثر على النتيجة. وتعمل النظم الانتخابية على تحويل الاصوات التي تم الادلاء بها في الانتخابات العامة الى مقاعد للمرشحين وللأحزاب.
وتوجد انظمة متعددة للانتخابات في العالم، وأهمها نظام الاغلبية ذي الجولة الاولى، النسبي (النموذج البريطاني) والجولتين، المطلق (النموذج الفرنسي) والنظام النسبي ذي القائمة المفتوحة او المغلقة ومن خلال دائرة واحدة للبلاد او على مستوى الاقاليم أو المحافظات، وأشكال مختلطة تأخذ من النظامين.
ومن الجدير بالذكر أنه لم يثر النظام الانتخابي حتى نهاية القرن التاسع عشر نقاشا حاداً كالذي نراه في الوقت الحاضر. فقد كان نظام الاغلبية سائداً في كل مكان، فإنكلترا والممتلكات البريطانية وأمريكا اللاتينية والسويد والدانمارك تأخذ بنظام الاغلبية في جولة واحدة، والقارة الاوربية باستثناء السويد والدانمارك كانت تأخذ بالنظام الفرنسي، اي نظام الاغلبية في جولتين.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر ظهرت الدعوة الى الاخذ بنظام آخر هو نظام التمثيل النسبي، وقد اخذت به بلجيكا عام 1889 والسويد 1908 وعمٌ القارة الاوربية، باستثناء فرنسا بين عامي 1914، و1920 وطبقته فرنسا نفسها عام 1945، أما خارج أوربا فلم يحظ نظام التمثيل النسبي بنجاح ملحوظ، ولوحظ اعتبارا من 1948 عودة الى الاخذ بنظام الاغلبية.
ومع بدء مراحل التحول الديمقراطي في عدد من البلدان في ثمانينات القرن الماضي، جرى تبني النظام النسبي وخاصة في دول شرق أوربا وعدد من الدول الافريقية والآسيوية، وما يزال النقاش محتدما حول الافضلية بين النظامين، وتحاول انظمة كثيرة الجمع بينهما.
النظام الانتخابي والاندماج السياسي الاجتماعي:
تعد العملية الانتخابية في البلدان الحديثة والتي تتسم بالتعددية المجتمعية حلقة مكملة لتشكيل الهوية الوطنية فيها، حيث تساهم في تشكيل الهوية الوطنية من خلال سياسات منهجية تعمل على اقرار قانون انتخابي يضمن تماسك هذه الهوية وبلورتها وإبعاد المؤثرات التي تدعو الى التشظي والانقسام والانكفاء على الخصوصيات الفرعية.
ويعتبر إقرار طريقة اختيار النظام الانتخابي في دول التحول الديمقراطي من القرارات المهمة وهو يخضع لاعتبارات سياسية واجتماعية حيث يساهم في عملية بناء هوية المواطنين، لما لها من دور في تعميق الاندماج السياسي والاجتماعي.
ان النظم التسلطية والقائمة على الانتماءات الفرعية، بشكل عام تدعو الى الأخذ بنظام الاغلبية المناطقي او بصيغة من النظام المختلط مع الميل الى مكونات النظام القائم على الاغلبية الفردية.
وان سبب ذلك نابع من حاجة هذه النظم الى غطاء شرعي لبقائها في الحكم من خلال الانتخابات دون ان يفقدها السلطة لكنها في الوقت نفسه لا تريد ان تسمح لأي اندماج سياسي اجتماعي بين مكونات المجتمع او قيام حياة حزبية حقيقية قائمة على بنية ديمقراطية داخلية وبرامج اجتماعية وليدة تيارات سياسية وفكرية.
النظام الانتخابي النسبي:
هو أكثر النظم استخداماً لانتخاب الهيئات التشريعية الوطنية وهو مستخدم في أكثر من 80 دولة بأشكاله المختلفة.
ان النظام النسبي يتميز بتحقيقه للعدالة فكل قائمة تشارك في الانتخابات تحصل على عدد من المقاعد ما يوازي نسبة الاصوات التي حصلت عليها، والميزة الاخرى هي انه يؤدي الى برلمان يعكس التعددية السياسية والفكرية في المجتمع وتتمثل فيه الاحزاب الضعيفة وتتواجد كل الاتجاهات التي لها حضور ملموس، ويضمن النظام النسبي وجود معارضة قوية داخل البرلمان وهذا أحد معطيات النظم الديمقراطية والميزة الاخيرة هي تشجيع الناخبين بإدلاء اصواتهم ما دامت الاغلبية لم تستأثر بكل المقاعد.
وان النظام النسبي القائم على القائمة المفتوحة يتيح للناخب حرية الاختيار من المرشحين في القائمة وعدم التقييد بالتسلسل الوارد فيها، وهذا ما يقربه الى النظام الفردي حيث يستطيع الناخب اختيار فرد ضمن قائمة دون غيره من المرشحين.
إن النظام النسبي هو الاكثر ضمانا لتحقيق مبدأ التمثيل السياسي وهو يُمكن الاحزاب السياسية من المشاركة في القرارات السياسية بشكل اكثر فعالية مما هو موجود في النُظم الاخرى، وهو يؤسس لنظام سياسي تعددي حقيقي يقوم على المصالح السياسية، والاختلافات السياسية والفكرية بين الاحزاب.
المنظومة الانتخابية في العراق
تتشكل المنظومة الانتخابية من القوانين والنظم والتعليمات الاساسية المرتبطة بالانتخابات ومنها: القانون الانتخابي، قانون الاحزاب وإدارة الانتخابات.
القانون الانتخابي: كان اول قانون انتخابي بعد التغيير عام 2003 قُبيل انتخابات الجمعية الوطنية المناط بها كتابة الدستور العراقي عام 2005، فقد اصدر مجلس الحكم قراره رقم 87 لعام 2004 الخاص بالنظام الانتخابي الذي ستوزع على ضوئه مقاعد الجمعية الوطنية وكان ذلك بتوصية من مكتب الامم المتحدة، وقد اعتبر القرار: إن العراق دائرة انتخابية واحدة، وتوزيع مقاعد الجمعية الوطنية من خلال التمثيل النسبي، واعتمدت طريقة التصويت بالقائمة المغلقة على اساس الدائرة الواحدة، وبخصوص المقاعد المتبقية جرى اعتماد صيغة الباقي الاقوى.
كان من الاجدى والأفضل التمسك بهذا القانون للانتخابات التي جرت بعد ذلك، بدل تعديله عند كل انتخابات، حيث عند قُرب كل انتخابات لمجلس النواب او لمجالس المحافظات يجري نقاش واسع ومحتدم حول تعديل القانون الانتخابي وغالبا ما يتم الاتفاق على قانون يكون مصدر لتذمر وانفضاض الكثيرين من المشاركة في التصويت، ويولد حالة من الارباك والحيرة بين القوى السياسية وعدم تكييف اوضاعها وفق قاعدة قانونية تتسم بالثبات النسبي، وانعكس ذلك على التحالفات غير المستقرة ما بين الكيانات السياسية ما قبل الانتخابات وما بعدها، بحثا عن الكتلة الاكبر التي تدخل الجلسة الاولى لمجلس النواب لأنها هي المعنية بترشيح رئيس مجلس الوزراء حسب تفسير المحكمة الاتحادية العليا للنص الدستوري.
إن النظام الانتخابي القائم على النسبية والقائمة المفتوحة على اساس العراق او المحافظة، وتوزيع المقاعد المتبقية للباقي الأقوى تشكل الإطار المناسب لأي قانون انتخابي عادل لا يفرط بأصوات الناخبين، لكن التعديلات المجحفة التي اجريت عليه من قبل مجلس النواب بالاعتماد على قانون سانت ليغو بصيغة 1.4، 1.7، 1.9، قد اساءت للنظام النسبي وأفرغته من بعض مميزاته الايجابية وهو العدالة في التوزيع.
قانون الاحزاب: فقد تم اقرار قانون الاحزاب السياسية رقم 36 لسنة 2015 تحت ضغط الحركة الجماهيرية في صيف عام 2015، التي كانت احد مطالبها، إصلاح النظام السياسي، وقد شكل اقرار هذا القانون انعطافة تاريخية في التجربة الديمقراطية في العراق ويمثل احد الخطى من اجل استكمال بناء الدولة القانونية، وقد تضمن مجموعة من القواعد التي تؤسس لبناء حياة حزبية ديمقراطية سليمة تستمد اساسها من الدستور، فقد نص القانون على ان يعتمد الحزب السياسي الآليات الديمقراطية لاختيار القيادات الحزبية واشترط ان تكون الاهداف لا تتعارض مع الدستور ووجود برنامج، وكذلك عدم امتلاك الحزب لأي جناح عسكري او شبه عسكري او مليشيات باعتبار ان الدستور اعتنق التداول السلمي للسلطة، ونص القانون على ايداع الحزب لأمواله في المصارف العراقية وتقديم تقرير سنوي بحساباته ويرفع الى ديوان الرقابة المالية للمصادقة عليه. وقد تم ربط تسجيل الاحزاب بدائرة الاحزاب السياسية التابعة للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات لتكون بعيدة عن تأثير السلطة التنفيذية.
المفوضية العليا المستقلة للانتخابات: شُكلت المفوضية بموجب قانون رقم 92 في 31 أيار 2004 لتكون حصراً السلطة الانتخابية الوحيدة في البلاد، واشرف على تشكيلها مجلس الحكم بمعونة الامم المتحدة، وهي المعنية بإدارة الانتخابات التي جرت في العراق قبل تشكيل الجمعية الوطنية عام 2005، حتى الوقت الحاضر، وخضع تشكيل مجلس المفوضية الى المحاصصة الحزبية بين القوى المهيمنة في مجلس النواب وتجريدها من استقلاليتها، وقد شاب عملها الكثير من الخروقات والتجاوزات مما ادى الى صدور قرار بإيقاف عمل مجلسها الاخير عام 2018 وانتداب قضاة بدلاً عنهم، وقد ساهم ذلك في انعدام المصداقية باستقلالية عمل المفوضية وعدم نزاهة الانتخابات التي تجري تحت ادارتها، ولهذا كان من اهداف المنتفضين والقوى السياسية الداعية الى الإصلاح هو إعادة النظر في قانون المفوضية وان يكون تشكيلها خارج اختصاص مجلس النواب الذي اساء استخدام سلطته وعدم ربطها به.
الترابط بين مكونات المنظومة الانتخابية
ومن هذا الاستعراض ان العملية الانتخابية عملية مركبة تشترك فيها مجموعة من العوامل والمؤثرات وكل واحد منها مرتبطة بمجموعة اخرى من المتغيرات، فمثلا لا يمكن عزل نجاح او فشل في اي جزء من المنظومة الانتخابية عن الخلل الموجود في تطبيق القانون وعدم استقلالية القضاء ووجود المليشيات المسلحة والفساد المستشري في اوصال الدولة وغيرها من المظاهر السلبية التي شاعت في الفترات السابقة.
ومع ذلك ليس القانون الانتخابي النسبي وحده من يتحمل مسؤولية نكوص العملية الانتخابية بعزوف الناخبين. انما يتحملها ايضا، عدم تفعيل مواد قانون الاحزاب السياسية من قبل دائرة الاحزاب التابعة للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فقد اشترط القانون انتخاب القيادات بشكل دوري وكشف حساب بالمالية خاضع لمراجعة ديوان الرقابة المالية وعدم وجود اي ارتباط بأجنحة عسكرية، فأين الواقع من التطبيق؟ وعدم وجود مفوضية مستقلة حقا وغير خاضعة الى هيمنة الاحزاب الحاكمة، تدير الانتخابات بشكل حر ونزيه، وقانون انتخابي عادل لا يفرط بأصوات الناخبين ويساهم في الاندماج السياسي والاجتماعي، والاهم من كل ذلك مناخ سياسي ديمقراطي يقوم على اساس الاغلبية الحاكمة والمعارضة، وكل ذلك مرتبط بوجود قضاء مستقل غير خاضع للتأثيرات السياسية.
ومن اهم معايير الانتخابات الحرة والنزيهة هي التكافؤ في الفرص بين القوى السياسية والكيانات الفردية، حيث قسم منها يمتلك موارد مالية كبيرة تستثمر في الحملات الانتخابية وكسب الاصوات، ووجود وسائل اعلام متنوعة مجندة لبعض الكيانات السياسية والتي معظمها مجهولة المصادر والتمويل وغير خاضعة لمتابعة دقيقة من قبل دائرة الاحزاب التابعة للمفوضية العليا وديوان الرقابة المالية.
ومن الجدير بالذكر تضع بعض الدول سقفا ماليا لا يجوز تجاوزه عند الصرف على الدعاية الانتخابية، وقسم آخر تتحمل الدولة جزءا من تكاليف مالية الاحزاب السياسية ودعايتها الانتخابية ليكون هناك عدالة وتكافؤ في الفرص، كألمانيا وفرنسا.
من خلال التجربة طيلة الفترة السابقة فإن الاحزاب السياسية التي تدخل مجلس النواب لم ترتض العمل ضمن مقتضيات النظام الديمقراطي البرلماني القائم على اساس الاغلبية والمعارضة، خوفا من ان لا تحصل على اي شيء من مغانم السلطة، حيث تتم الصفقات على اساس التوافقية التي لها بعض المبررات في الدورتين البرلمانيتين الاولى والثانية، لكن ليس الى ابد الدهر.
الموقف من تصغير حجم الدوائر الانتخابية:
ولابد من التوقف امام الدعوات الى تصغير الدائرة الى مستوى القضاء، وهذا ما يجعل من النظام الانتخابي عملياً التحول الى نظام الاغلبية الفردية والذي من خصائصه، ان يكون الانتخاب على الاساس الشخصي وليس على اساس المفاضلة بين البرامج والأفكار والمبادئ، مع العلم ان الانتخابات هي في الاساس ليست مفاضلة بين اشخاص بقدر ما هي مفاضلة بين برامج سياسية وأهداف مخطوطة، ومن عيوب نظام الاغلبية الفردية هو سهولة الرشوة الانتخابية من خلال شراء الاصوات، وتدخل الادارات الحكومية في مشيئة الانتخابات وهذا ما يصعب القيام به عندما تكون الدائرة الانتخابية كبيرة على مستوى المحافظة او على مستوى البلاد.
حصيلة التجربة في العراق
لقد تم الاخذ بالنظام النسبي واعتبار العراق دائرة واحدة وتوزيع المقاعد المتبقية على اساس الباقي الاقوى وكان ذلك بنصيحة من الامم المتحدة وبالاستفادة من تجربة جنوب افريقيا وبعض دول التحول الديمقراطي، عند اجراء اول انتخابات في العراق بعد سقوط الديكتاتورية. وبدل الاستمرار على هذا النظام وترسيخ القاعدة القانونية وتكييف اوضاع القوى السياسية على ضوئه، اعادت القوى التي هيمنت على سلطة القرار في صياغة القانون بما يثبت من وجودها ويكرس حالة الانقسام المجتمعي، من خلال تقليص مساحة الدوائر الانتخابية والتلاعب بقواعد توزيع المقاعد بما لا يعطي وزنا للقوى الاخرى اذا تمكنت من الوصول الى المجالس المنتخبة.
وعند كل انتخابات، يجري اعادة النظر في القانون الانتخابي لنفس السبب مما ادى الى الشعور بالإحباط واليأس من قبل القوى السياسية الاخرى وجماهيرها من امكانية الفوز في ظل هذه القوانين الانتخابية، وفي ظل إدارة للانتخابات منحازة من قبل مفوضية تسمى بالمستقلة وهي غير مستقلة تتقاسمها القوى المهيمنة في وضح النهار، وكذلك بوجود قانون للأحزاب لم تُفعَّل فقراته، لا من حيث بنية الكيانات السياسية وآليات انتخاب قيادتها واتخاذ القرارات ومصادر تمويلها وارتباطات قسم منها بالمؤسسات العسكرية والأمنية والحشد الشعبي، هذه المؤسسات التي لها ثقل تصويتي مؤثر جدا. هذه الاسباب وغيرها ادت الى تصاعد وتيرة عدد العازفين عن المشاركة في التصويت، لقناعة الكثيرين منهم بعدم الجدوى.
ان المميزات الايجابية للنظام النسبي قد تم مسخها وتفريغ محتواها عند التطبيق في العراق، عندما لجأت الاحزاب المهيمنة الى مبدأ التوافقية والاستغناء عن وجود المعارضة، مما ادى الى وجود احزاب سياسية تتصارع فيما بينها على مغانم السلطة دون اي اعتبار الى مصالح عموم الشعب وبالتالي تفشي الفساد بكل مفاصل الدولة وضعف الخدمات لعدم وجود اي رقابة حقيقية لأداء السلطة التنفيذية التي تشترك فيها كل القوى المهيمنة ووفق نسبة تمثيلها. مما خلق فجوة كبيرة بين الاحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية وعامة الشعب التي عزفت اغلبيتها عن المشاركة في الانتخابات وتبنت طليعتها من الشباب القيام بالاحتجاج والتظاهر والعصيان ومن ثم الانتفاضة على الوضع القائم.
ان نجاح النظام الانتخابي القائم على النسبية يتطلب قبل كل شيء، احزابا سياسية ذات برامج اجتماعية تستطيع الجلوس والانتظار في مقاعد المعارضة عندما لا تحصل على الاغلبية وتراقب اداء السلطة الحاكمة، طيلة فترة الدورة البرلمانية، وليس تقاسم السلطة بين الاحزاب الفائزة في البرلمان، وترك البرلمان خاليا من اي معارضة حقيقية، وبالتالي التغاضي عن مراقبة الاداء الحكومي والانغماس في أخذ المناصب التي تدر الاموال والإتباع والتي توزع بين الاحباب والمريدين وترك عامة الشعب في قارعة الطريق، وهذا ما جرى خلال الخمسة عشر عاماً الماضية.