التوازن بين الجسد والروح في الإسلام
قراءة في رسالة الحقوق للإمام السجاد(ع)
السيد نبأ الحمامي
2018-04-29 06:40
خلق الله تعالى الإنسان مؤلَّفا من الروح والجسد، وهما مترابطان ترابطاً وثيقاً، ومتفاعلان تفاعلاً قوياً، لا ينفكّ أحدهما عن الثاني إلا بتصرم العمر، ونهاية الحياة. وسعادة الانسان وهناؤه الجسمي والفكري منوط بصحة هذين العنصرين وسلامتهما معاً. لهذا كان على طالب السعادة ومبتغيها أن يعنى بهما عناية فائقة تضمن صحتهما وازدهارهما، وصيانتهما من المضار.
التوازن بين الروح والجسد حاجة إنسانية وتشريع ديني
لكل من الجسم والروح أشواقه وحاجاته:
فحاجات الجسم هي: المطالب المادية الموجبة لنموه وصحته وحيويته، كالغذاء والشراب والكساء ونحوها من ضرورات الحياة.
وحاجات الروح هي: الكمالات الروحية والنفسية التي ترنو إليها الروح، وتهفو إليها، كالمعرفة، والحرية، والعدل، وراحة الضمير، ورخاء البال، وما إلى ذلك من المثل العليا والأماني الروحية.
ولا مناص من تلبية هذه المآرب والرغائب الجسمية والروحية لتحقيق صحة الجسم والروح، وضمان هنائهما المرجو. وهذا المبدأ متوافق تماما مع توصيات وتعليمات وأوامر الشريعة الإسلامية. قال تعالى: « وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا»(1)
إن أساس الانحرافات التي أصابت البشرية في تأريخها الطويل هو الإخلال بمعادلة التوازن بين الروح والجسد:
1- فبعض توهم أن سعادة الإنسان وكماله إنما يكون في التكامل الروحي، فمن سما بروحه عن الماديات، عن طريق الرياضة الروحية، ومجاهدة كل الشهوات والميول النفسية، فقد نال مبتغاه من السعادة، وارتقى مدارج الكمال. فيرى أصحاب هذا الاتجاه أن تكامل الإنسان وسعادته يتحققان بحرمان البدن، والارتقاء بالروح عن الأمور المادية من المال والملذات والشهوات.
وهذه النظرية نجد بعض تطبيقاتها عند الرهبان والراهبات المسيحيين في ابتعادهم عن الزواج، وفي الانزواء الاجتماعي، ونجد بعضا منها كذلك عند مدّعي الزهد الذين أساؤوا فهم مفهوم الزهد، واعتبروه مساوقا للفقر والاحتياج والابتعاد عن مسؤوليات الحياة.
وفي الحقيقة، ان من يتصور أن كمال الإنسان وسعادته تُدركان بإعراضه عن غرائزه ومتطلبات جسده، فقد جهل حقيقة الإنسان، وغفل عن قانون الخِلقة المتقن، ومنهج الفطرة السليمة; فإن الله تعالى خلق البشر مع هذه الغرائز والاحتياجات الجسدية، وكل ما أودع الله الحكيم في خلقة الإنسان لا بد أن يكون ذا مصلحة، فسعي الإنسان للمأكل والمشرب ولغريزة الجنس وغير ذلك من متطلبات واحتياجات الجسم، متوافق مع فطرته وخلقته، يقول تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(2).
2- أما النظرية الثانية لمنشأ سعادة الإنسان وتكامله، والتي عليها المجتمع الغربي المتمدن اليوم، فتذهب الى عكس ذلك، فترى أن التمسك بالجانب المادي وإشباع الشهوات هو الطريق الحصري للسعادة والكمال.
وفي الحقيقة، ان هذه النظرية أضعف من سابقتها، فهي تسلب الإنسان إنسانيته، وقيمه ومبادئه، وتجعله كائنا لا همّ له سوى إشباع رغباته ونزواته الجسدية، وما نراه اليوم في المجتمع الغربي – بل حتى في بعض مجتمعاتنا - من انتشار الجرائم والخيانة والانتحار وغيرها، ما هو الا بسبب ابتعادهم عن القيم الروحية والمثل الأخلاقية.
3- أما نظرة الإسلام لرقي الإنسان وسعادته وتكامله، فهي تأخذ بنظر الاعتبار جميع جوانبه المادية والمعنوية، الروحية والجسدية.
ويلحظ المتأمّل في تعاليم الدّين الإسلامي أن المنهج الذي يسلكه هو منهج الفطرة الانسانية التي ناغمها وحرّكها والتحم معها، المنهج الذي يعطي الغرائز حقها الكامل بدون إسراف واعتداء، فلم يُطلِقْها ولم يَعْقِلْها، ويدعو إلى السيطرة على الطبيعة واستثمارها بما يحقق التّوازن بين مختلف الجوانب في الحياة الإنسانية؛ بين مطالب الجسد الماديّة من أكل وشرب وزواج وغير ذلك، وبين مطالبه الروحيّة من عبادة لله، وتزكية للنفس، والتماس مكارم الأخلاق والقيم الحقة.
فسعى الإسلام بشريعته الى إشباع حاجات الإنسان الروحية، كما سعى - في الوقت ذاته - إلى سد حاجاته الجسمية المادّيّة، فهو دين الإنسان ذي ن الروح والجسم يخاطب الناس بإنسانيتهم، قال تعالى:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(3).
فالشريعة الإسلامية تقترب مما ترغب فيه الطباع السليمة، وتبتعد عما تنفر منه، وتحل الطيبات وتحرم الخبائث، وكلّ عمل يجاوب وينساق مع الفطرة فقد أحلّته، وما هو على موضع الضدّ منها فقد حرّمته، وندبت إلى الروابط العائلية، وتنسيق الروابط الاجتماعية، كرابطة الولد بوالديه، والأخ بأخيه، والإنسان المؤمن بمثله، كما قد حذّرت ممّا ينافي خُلُقه وإدراكه العقلي، كتحريمها الخمر والميسر والسفاح، لما فيها من إفساد للعقل الفطري والنسل والحرث.
وعندما يعالج الفكر الإسلامي القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والواجبات المناطة به، كونه المحور الأساس للتشريع، والغاية التي من أجلها خلق الله تعالى الأشياء، وسخرها لخدمته، فعندما يعالج تلك القضايا، فإنه يمزج القانون بالأخلاق الإنسانية ليخرج من ذلك الامتزاج وصفة متكاملة للروح والجسد، لا يستغني عنها الإنسان.
فيضمن تطبيق الشريعة الإسلامية تحقق حاجات الفرد الروحية ورغباته المادية بشكل متوازن ودقيق، وبما يضمن كرامته وشخصيته، فإن على قواعد هذه العقيدة يقوم بناء الشخصية، شخصية الفرد والمجتمع، وتتحدّد الحقوق والواجبات، وتتحقق العدالة والمساواة، ويستتب الأمن والسلام، وينشأ التكافل والتضامن، وتزدهر الفضائل والمكارم، ويبنى الإنسان على كافة الأصعدة.
حالة المجتمع الإسلامي عصر الإمام(ع) وخطته الإصلاحية
وحين نلقي نظرة، ولو إجمالية، على الحالة العامة للمجتمع الإسلامي إبان حكم بني أمية، نجده مبتعدا عن قيم ومبادئ وتشريعات الإسلام، ومتخلفا عن سيرته ومسيرته، نتيجة للسياسات الأموية الجائرة البعيدة والمبعدة عن الدين وتشريعاته، ولما اقترفوا من سفك للدماء وانتهاك للأعراض، وانتشار لمجالس اللهو والفجور وشرب الخمور، والإغراق في ملذات الجسد، وانشغالهم بالسلطة والمال حد القتل والتقاتل عليها، كما أخبر عن ذلك أمير المؤمنين(ع)، وهو يستكشف حالهم بمنظار من عالم الغيب المستقبلي، بقوله(ع) " ولَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هَذِه الأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وفُجَّارُهَا، فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللَّه دُوَلًا، وعِبَادَه خَوَلًا، والصَّالِحِينَ حَرْباً، والْفَاسِقِينَ حِزْباً، فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِي قَدْ شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ، وجُلِدَ حَدّاً فِي الإِسْلَامِ، وإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَه عَلَى الإِسْلَامِ الرَّضَائِخُ"(4).
فقد انشغل بنو أمية – وقتذاك - بتنويع الطعام والبذخ في المال، والتماس سبل الرفاهية، والابتعاد عن القيم الأخلاقية، ومتطلبات الروح، من خلال سياسة التسلط والاستعباد ونهب الأموال، فدبّ الضعف والانهيار العقائدي والأخلاقي في نسيج المجتمع الإسلامي، وابتعد الناس عن دينهم، وأرجعوا الناس الى عهد الجاهلية، من جراء تلك السياسات التضليلية، التي حملت معول الهدم على القيم الأخلاقية والعقائد الحقة.
وكان للإمام زين العابدين(ع)، دور عظيم في إعادة بناء المجتمع الإسلامي بناء عقائديا وأخلاقيا، إذ لم يعرف تاريخ الأمم رجلا كالإمام زين العابدين(ع)، قد احتدمت عليه العلل، وتشابكت عليه الهموم، قد استؤصل الرجال من أهله وقرابته وصحبه، وأخذ أسيرا لدى الأعداء مع أهله والمستضعفين من النساء والأطفال، قد صفّدوا بالحديد، وطيف بهم في البلدان، على أقتاب المطيّات، يلفح وجوههم حر الهاجرات، ويتصفح وجوههم القريب والبعيد، والدني والشريف، ثم يُفرض عليه المكث والإقامة الجبرية، ويُمنع من بيان رأيه على ملأ الناس، ومع هذا كله وإذا به يقود ثورة فكرية وأخلاقية كبرى، هدفها إصلاح المجتمع وتثبيت العقائد الحقة وتهذيب الأخلاق بالقول والفعل، وتسوية الاختلال في ميزان القوى، بين كفتي نوازع الجسد، ومراقي الروح.
فتمكن – برغم العقبات والصعوبات – أن ينشر الحياة في جسد الأمة الذي دبت فيه أمارات الموت، بسبب ابتعاد الناس والسلطة، عن قيم الإسلام، والاستسلام لسياسة التجهيل والتضليل الأموي لشل حركة المجتمع الإسلامي، وتعطيل تفكيره، والإخلاد إلى الراحة وطلب العافية.
وكانت الخطة الإصلاحية للإمام زين العابدين(ع) تعطي الأولوية لتدارك ما أصاب الأمة من ابتعاد عن القيم الروحية، وسلوك الاتجاه المادي البعيد عن كل ما يمتّ للآخرة بصلة. وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات والتدابير التي تعيد حالة الأمة الى الوسطية والاعتدال، والتوازن بين متطلبات الروح، ومتطلبات الجسد، وفي جوانبها المختلفة، وهي:
الجانب الأول: جانب إنساني تطبيقي. ويتمثل في اتجاهين:
الاتجاه الأول: كثرة البر والإحسان للمحتاجين، وخصوصا طبقة العبيد، فقد كان(ع) يشفق عليهم، ويصلهم بمعروفه وبرّه، وحفظت لنا النصوص التاريخية صورًا مشرقة في تعامله مع العبيد، وحرصه على تحريرهم من الرق والعبودية، حتى عدّ ذلك ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين(ع). " وكان إذا دخل عليه شهر رمضان يكتب على غلمانه ذنوبهم، حتى إذا كان آخر ليلة دعاهم، ثم أظهر الكتاب وقال: يا فلان، فعلت كذا ولم أوذيك، فيقرّون أجمع. فيقوم وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين، ربك قد أحصى عليك ما عملت كما أحصيت علينا، ولديه كتاب ينطق بالحق، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فاذكر ذلّ مقامك بين يدي ربك الذي لا يظلم مثقال ذرة، وكفى بالله شهيدا، فاعف واصفح يعف عنك المليك لقوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ويبكي.
ثم يقول: اذهبوا، فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني، وعتق رقبتي، فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس. وما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين إلى أقل أو أكثر "(5).
والاتجاه الثاني: تفعليه (ع) للتكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، والتي حثت عليها الشريعة المقدسة. والظاهر أن الفرق بين التكافل الاجتماعي ومجرد مساعدة الفقراء والمحتاجين أو إعتاق العبيد، أن الأول لوحظ فيه الكفالة بمعنى الرعاية والتعهد، وقضاء ما يحتاج إليه الإنسان، كلّ بحسبه.
وهذه الظاهرة الإسلامية التي أكدت عليها الشريعة المقدسة كادت أن تختفي بفعل سياسات التضييق الاقتصادي للحكم الأموي ضد خصومهم، خصوصا أتباع أهل البيت(ع)، لإضعافهم في ساحة العمل السياسي كقوة مقاومة للحكم الأموي.
ونتيجة لهذه السياسات الأموية القائمة على الظلم، والساعية إلى الاستئثار بالحكم، وما رشح عنها من مشكلات اقتصادية عصفت بالمجتمع الإسلامي، تكوّنت طبقة من المحتاجين، خصوصا من شيعة أمير المؤمنين (ع)، لا يجدون لسد رمقهم سبيلا، ولا إلى من يقوّم أودهم كفيلا. وظهرت – في الوقت ذاته - الحاجة إلى تفعيل العطاء المالي، بما يتناسب مع حجم المشكلات الاقتصادية التي أفرزتها سياسة الحكم الأموي الجائرة.
ولا بد أن يكون المبادر لهذه المعالجات أهل بيت العصمة المتمثل بعميدها الإمام زين العابدين(ع)، حتى نقلت عنه كتب السير والتاريخ مواقف في الجود والكرم: يقضي الدين، ويعتق العبيد، ويكرم الفقراء، ويواسي إخوانه المؤمنين. وكان (ع) محط أنظار المسلمين عامة، وشيعة أهل البيت بصورة خاصة، يرون ما يقدمه لإسعاف المؤمنين وقضاء حوائجهم، فكان (ع) الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة التي انتهجها المقربون إليه، وكانت تلك التدابير من الإمام(ع) الرد العملي على السياسة الأموية الجاهلية.
يقول الشيخ الصدوق "كان(ع) يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضراء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، ومن كان له منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه. وكان لا يأكل طعاما حتى يبدأ فيتصدق بمثله)(6).
وحينما أرسل يزيد بن معاوية إلى المدينة قائده مسرف بن عقبة ليستحلها، وينتهك حرمتها، في واقعة الحرة، عال الإمام زين العابدين(ع) أربعمائة عائلة إلى أن تفرق جيش مسرف بن عقبة. وكان يعول أهل بيوت كثيرة في المدينة لا يعرفون من يأتيهم برزقهم حتى مات(7).
الجانب الثاني: الجانب الروحي الديني:
وذلك من خلال:
1) انقطاعه إلى الله تعالى بالعبادة والمناجاة، حتى سمي لكثرة عبادته بـ(زين العابدين) و(سيد الساجدين) و(ذي الثفنات)، ولم يعرف المسلمون في زمانه رجلا أعبد منه ولا أزهد. وظهرت آثار العبادة على جسده الشريف، وكان يطوي كثيرا من لياليه في المسجد الحرام يؤدي نسكه وعباداته، وقد رويت مشاهد كثيرة لعبادة الإمام زين العابدين(ع) أدهشت من حوله، وأعادت إلى الناس صورة عبادة رسول الله(ص) وجده أمير المؤمنين(ع).
وفي إحدى ليالي مناجاته مع ربه، كثر بكاؤه، وعلا نشيجه، حتى خر مغشيا عليه. يقول طاووس اليماني الفقيه "فدنوت منه وشلتُ رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده، فاستوى جالسا وقال: من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟ فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون. أبوك الحسين بن علي، وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله ؟ قال: والتفت إلي وقال: هيهات هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا، أما سمعت قوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح)(8).
وما (المناجاة الخمسة عشر) إلا رشحة من رشحات نفسه القدسية، وفيها من فنون الدعوات، وآداب مخاطبة المعبود، ما لم يكن مألوفا لدى عبّاد ذلك العصر، فضلا عن اكتنازها لمطالب عالية في العقائد والأخلاق.
وقد أثرى الإمام زين العابدين المجتمع الإسلامي، بل الفكر البشري، بكنوز العلم والحكمة عن طريق الدعاء، فحينما مُنع من إلقاء توجيهاته ودروسه عن طريق المنبر، تحول إلى المحراب ليبث علومه ومبادئه في الصحيفة السجادية المعروفة بزبور آل محمد، ولم تلك الأدعية للرهبانية والتصوف واعتزال المجتمع، بل هي كنوز معرفية ترسم للمجتمع الإسلامي البرامج العقائدية والأخلاقية.
الجانب الثالث: الجانب التشريعي الحقوقي:
اتجه الإمام زين العابدين عليه السلام ـ بعد واقعة كربلاء ـ إلى إنارة الفكر الإسلامي بشتى أنواع العلوم والمعارف، فترك للأجيال من بعده تراثاً ضخماً من الفكر والأدب والعلوم الإنسانية، شيّد على أساسها من بعده أئمة أهل البيت (عليهم السلام) - لا سيّما الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام) - مدرستهم الفقهيّة والحديثيّة.
وقد وجد الإمام زين العابدين توجيه المجتمع نحو التسلح بالعلم والفكر والمعرفة خير وسيلة لأداء رسالته الإصلاحية، في وقت كانت الحياة العلمية شبه معدومة، حيث اقتضت مصلحة الدولة الأموية آنذاك إقصاء الوعي الثقافي في الأمة، وإركاسها في منحدر سحيق من الجهل.
ولأجل ذلك، فقد عني الإمام زين العابدين (ع) بتنظيم الجانب الحقوقي للإنسان برفده، بمنظومة نظرية من الحقوق، تستجيب لنداء الانسان، وتتلاءم مع فطرته التي خلق عليها، ويكفل تطبيقها سعادة الانسان، ورقيه إلى أعلى درجات الكمال، ويأخذ بيده إلى ما فيه خيره في عاجله وآجله، ببيان وافٍ، في كل المجالات الحقوقية، حتى عد -بحق وجدارة- في صدارة المصلحين الإلهيين في مجال حقوق الإنسان.
رسالة الحقوق منهج علم وتشريع
كانت (رسالة الحقوق) التي نظمها الإمام زين العابدين(ع) المنهاج الحقوقي الكامل الممثل لحقيقة الشريعة المقدسة، وأوّل رسالة قانونية جامعة دُوّنت في التأريخ البشري، وهي من الذخائر النفيسة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنسان وحقوقه كلّها، فقد أحاطت بشبكة علاقات الإنسان الثلاثة: مع ربِّه، ومع نفسِه ومع مجتمعه، ترسم حدود العلائق والواجبات بين الإنسان وجميع ما يحيط به، وكانت الإنتاج الحضاري للإمام السجاد(ع) لمواجهة ما أصاب المجتمع من ظلم بني أمية، ناهيك عما تحمله من معارف اجتماعية وسياسية وأخلاقية، تمثل دائرة معارف إسلامية كبرى، بسبب تعدد جوانبها وتنوع مضامينها، وهذا التنوع والغنى الفكري أكسب هذه الرسالة موقعاً متميزاً في التراث الإسلامي.
ما المقصود من (الحقوق) في رسالة الحقوق
والمقصود من (الحقوق) في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين(ع)، هي الحقوق، وما يقابلها من الأحكام الشرعية، سواء كانت إلزامية أو غيرها، وذلك لأن الحقوق كالأحكام مجعولة من المشرع، من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحق إنما كان حقا لكونه في مصلحة المكلف وإرفاقا به، وهذا بنفسه ثابت ووارد في الحكم أيضا، ولأن الحق بمعناه اللغوي، بمعنى (الثابت)، وهو صادق على الحكم والحق.
الفرق بين الحق والحكم:
1) الحق: نوع سلطنة تستتبع أثراً وضعياً أو تكليفياً، والحكم: خطاب يتضمن الاقتضاء أو التخيير.
2) الحق يقبل الاسقاط والمعاوضة غالباً، بينما الحكم لا يقبل الاسقاط ولا المعاوضة.
3) يصح أن يضاف الحق إلى المستحق إضافة مالكية، ولا يصح أن يضاف الحكم إلى المحكوم عليه إضافة الملكية.
4) لكل ذي حق اسقاط حقه، ولا يسقط الحكم بإسقاط المحكوم عليه، بل يسقط بإسقاط الجاعل له. (9)
وتنقسم الحقوق الواردة في هذه الرسالة المباركة على ثلاثة أقسام رئيسة، تتفرع منها بقي الحقوق، وهي:
أولا: حقوق الله تعالى
وأهمها: توحيده، وعدم الشرك به، وإخلاص العبادة له من الصلاة والصوم والحج والأذان وإمامة الجماعة، والصدقة وهدي الحج (العبادة المالية الواجبة)، والاستعانة به في جميع الأمور، والاعتبار بالنظر ليصد العبد عن المعاصي.
وبهذا البيان للإمام زين العابدين(ع) ندرك عظمة الحقوق الإلهية، وتفوقها على سائر الحقوق، فهو المنعم الأعظم الذي خلق الانسان، وحباه من صنوف النعم والمواهب ما يعجز عن وصفه وتعداده أحد. قال تعالى «وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا»(10).
يقول(ع) «فأما حق اللّه الأكبر فإنك تعبده، لا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحب منها».
وأما عبادته تعالى، فكفى بعظمتها وجليل آثارها وخصائصها في حياة البشر: إن اللّه عز وجل جعلها الغاية الكبرى من خلقهم وإيجادهم، حيث قال "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"(11). وبديهي أن اللّه تعالى غني عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم، ولا تضره معصية العصاة وتمردهم، وإنما فرض عبادته على الناس لينتفعوا بخصائصها وآثارها العظيمة، الموجبة لتكاملهم وإسعادهم.
والعبادة بعد هذا من أكبر العوامل على التعديل والموازنة، بين القوى المادية والروحية، التي تتجاذب الانسان وتصطرع في نفسه، ولا تتسنى له السعادة والهناء إلا بتعادلها. ذلك، أن طغيان القوى المادية واستفحالها يسترق الانسان بزخرفها وسلطانها الخادع، وتجعله ميالاً إلى الأثرة والأنانية، واقتراف الشرور والآثام، في تحقيق أطماعه المادية. فلا مناص - والحالة هذه - من تخفيف جماح المادة، والحد من ضراوتها، وذلك عن طريق تعزيز الجانب الروحي في الانسان، وإمداده بطاقات روحية، تعصمه من الشرور، وتوجهه وجهة الخير والصلاح. وهذا ما تحققه العبادة بإشعاعاتها الروحية، وتذكيرها المتواصل باللّه تعالى.
ثانيا: حقوق الإنسان على نفسه.
وهي:
حقوق الجوارح: اللسان والسمع والبصر واليد الرجل والبطن والفرج.
وجوارح الإنسان أودعها الله تعالى في الإنسان ليتعرف بها على نفسه وعلى محيطه الذي يعيش فيه، ويتبين الأمور التي تضره والأمور التي تنفعه، ويستعملها في طاعة الله تعالى، لأنه هو الخالق لها، والمتفضل بها عليه، فهي أمانة إلهية. يقول الإمام زين العابدين(ع) في رسالة الحقوق" وحق نفسك عليك أن تستعملها بطاعة الله عز وجل فتؤدي إلى لسانك حقه، وإلى سمعك حقه، وإلى بصرك حقه، وإلى يدك حقها، وإلى رجلك حقها، و إلى بطنك حقه، وإلى فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك "
ولبعض جوارح الإنسان أهمية على غيرها، لأنها محل للابتلاء ومحط للاختبار، كونها تتردد بين الطاعة والمعصية، والفاعلة للأعمال والحركات وهي: اللسان والأذن والعين واليد والرجل والبطن والفرج. وهذه الأعضاء تسمى مملكة البدن، كونها أدوات إدارته، وهي - بالإضافة إلى ذلك - تشهد يوم القيامة على صاحبها وتفضحه على الملأ كما قال الله تعالى: "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون"(12). وقال تعالى "حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(13). ومن هنا نفهم السبب في إيلائها أهمية في رسالة الحقوق وتخصيصها بالذكر دون سائر الجوارح.
ثالثا: حقوق الإنسان على غيره.
وتشمل:
1- الحقوق الاجتماعية الحقيقية.
وقد ذكر الإمام زين العابدين منها في رسالة الحقوق:
(أ) حقوق الأب، وحقوق الأم.
فهما سبب وجود الإنسان، وعماد حياته، وقوام فضله، ونجاحه في الحياة. وقد جهد الوالدان - ما استطاعا - في رعاية أبنائهما مادياً ومعنوياً، وتحمّلا في سبيلهم أشد المتاعب والمشاق. فاضطلعت الأم بأعباء الحمل، وعناء الوضع، ومشقة الإرضاع، وجهد التربية والمداراة. يقول(ع) " ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتَظلك، وتهجر النوم لأجلك"
واضطلع الأب بأعباء الجهاد، والسعي في توفير وسائل العيش لأبنائه، وتثقيفهم وتأديبهم، وإعدادهم للحياة السعيدة الهانئة. يقول(ع) " وأنه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك، فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه "
(ب) حقوق الزوجة.
فقد أولت رسالة الحقوق الزوجة عناية كبرى، ومنحتها حقوقها المادية والمعنوية، إزاء حقوق الزوج عليها، على أساس من الحكمة والعدل، ورعاية مصلحة الزوجين وخيرهما معاً. يقول (ع) " وأما حق الزوجة فأن تعلم أن الله عز وجل جعلها لك سكناً وأنساً، فتعلم أن ذلك نعمة من الله عليك، فتكرمها وترفق بها، وإن كان حقك عليها، أوجب فإن لها عليك أن ترحمها لأنها أسيرك، وتطعمها وتكسوها، وإذا جهلت عفوت عنها"
(ج) حقوق المالك على ما ملكت يمينه، وحق ملك اليمين على المالك.
ان نظام الرقّ والعبودية قد نشأ في العهد الجاهلي وترسّخت مبانيه في أذهانهم، فكان يتحتّم على النظام الإسلامي أن يقابل هذه الحالة السلبية بطريقة مرنة من خلال تثقيف المسلمين وحثّهم على إطلاق سراح العبيد والإماء وتحريرهم، حتّى تتم عملية فكّ رقابهم في المجتمع بصورة غير قسرية وبحالة تدريجية، لكي لا تؤثّر في الموازنات الاجتماعية والاقتصادية بصورة دفعية، فتنتج انقلابات وفوضى لا حدّ لها. وقد عرف عن الإمام زين العابدين(ع) أنه كان يتخذ من إعتاق العبيد منهجا وثقافة في المجتمع الإسلامي، كي تتقلص ظاهرة الرقيق الى أن تتلاشى، من دون أن يؤثر ذلك سلبا على الحالة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي. يقول(ع) مؤكّدًا على حقوق المملوك على المالك" سخّره لك وائتمنك عليه، واستودعك إياه، ليحفظ لك ما تأتيه من خير إليه. فأحسِن إليه كما أحسن الله إليك، ولا تعذب خلق الله عز وجل.. و أن الله عز وجل جعل عتقك له وسيلة إليه، وحجاباً لك من النار، وأن ثوابك في العاجل ميراثُه، إذا لم يكن له رحم، مكافأة بما أنفقت من مالك، وفى الآجل الجنة "
(د) حقوق الولد (سواء كان ذكرا أم أنثى) على الوالدين.
الأولاد الصلحاء هم زينة الحياة، وربيع البيت، وأقمار الأسرة، وأعز آمالها وأمانيها، وأجل الذخائر وأنفسها. ومن الواضح أن صلاح الأبناء واستقامتهم لا يتسنيان عفواً وجزافاً، وانما يستلزمان رعاية فائقة، واهتماماً بالغاً في إعدادهم وتوجيههم وجهة الخير والصلاح.
من أجل ذلك، وجب على الآباء تأديب أولادهم، وتنشئتهم على الاستقامة والصلاح. يقول(ع) " فاعمل في أمره – أي الولد - عمل من يعلم أنه مثاب على الاحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه "
(هـ) حقوق الأخ.
حثّ الإسلام العزيز على توطيد العلاقات الأسرية الإنسانية القائمة على أسس الخير والصلاح، والتي يكون عنصر الربط فيها غير مقتصر على الناحية النسبية، ورابطة الدم، بل تنبع من الروح السامية والقلب السليم والعقيدة الصحيحة، لما في تلك العلاقات من تأثير متبادل بين الأطراف، وخصوصاً الأخوّة. والإخوة هم ثمرات الوالدين، وهم أقرب الأرحام، وألصقهم بالنفس، وأحبهم الى القلب.
ويؤكد الإمام زين العابدين(ع) على توطيد هذه العلاقة والآصرة النسبية الإنسانية من جهة، وعلى تحديدها وتقييدها بقيود العقل والشرع من جهة أخرى، يقول (ع) " وأما حق أخيك، فتعلم أنه يدك التي تبسطها، وظهرك الذي تلتجي إليه، وعزك الذي تعتمد عليه، وقوتك التي تصول بها، فلا تتخذه سلاحاً على معصية الله، ولا عدة للظلم لخلق الله، ولا تدع نصرته على نفسه، ومعونته على عدوه، والحول بينه وبين شياطينه، وتأدية النصيحة إليه "
(ح) حقوق كبار السن، وحقوق صغار السن
من عظمة الإسلام أنه كما اهتمّ بالإنسان صغيراً، ووجّه الأسرة والمجتمع إلى رعايته والاهتمام به، فإنه - كذلك - أمر بحسن رعاية واحترام الكبير. إذ يعدّ احترام الكبير، والعناية بالصغير من القيم المهمة التي تحفظ حياة المجتمعات، وتجعلها أكثر نظاماً وقوّةً؛ لذلك حثّ الإسلام في تربية الصغار على احترام الكبار وتقديرهم، وفيما أوصى به أمير المؤمنين عند وفاته "وارحم من أهلك الصغير ووقر منهم الكبير"(14).
ومن جملة الحقوق التي ذكرها الإمام زين العابدين لكبار السن" توقيره لسنه، وإجلاله لتقدمه في الإسلام قبلك، وترك مقابلته عند الخصام، ولا تسبقه إلى طريق، ولا تتقدمه، ولا تستجهله".
وفي مقابل ذلك الاحترام لكبار السن، يؤكد(ع) على الرفق والرحمة في التعامل مع الصغار، وذلك من خلال " رحمته في تعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له"
(ط) حقوق المسلمين.
حقق الإسلام مبدأ المؤاخاة بين افراده بأسلوب لم تستطع تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ، يقول تعالى « انما المؤمنون إخوة »(15)، وذلك بجعل المجتمع أسرة واحدة تستشعر روح الإخاء، وتتجاوب في عواطفها ومشاعرها، وكان ذلك من أعظم منجزات الاسلام وإصلاحاته وتكافله، فالمسلم معنيّ بشؤون المجتمع، والاهتمام بمصالحه، والعطف على بؤسائه ومعوزيه. فعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم »(16).
وتتحقق تلك العناية والاهتمام بالمجتمع الإسلامي، كما ورد في رسالة الحقوق " بإضمار السلامة لهم، والرحمة لهم، والرفق بمسيئهم، وتألفهم واستصلاحهم، وشكر محسنهم، وكف الأذى عنهم، وتحب لهم ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، وأن تكون شيوخهم بمنزلة أبيك، وشبابهم بمنزلة أخوتك، وعجائزهم بمنزلة أمك، والصغار منهم بمنزلة أولادك ".
(ي) حقوق غير المسلمين من أهل الذمة.
ان المعاملة الحسنة التي يبديها المسلمون لمخالفي دينهم ليست طارئة أو غريبة على نهجهم كمسلمين، بل هي منطلقة من أسس دين الإسلام الذي يقوم على حفظ كرامة الإنسان لكونه إنسانا، وكفالة حرية الاعتقاد.
ذلك أن الأصل التشريعي لحقوق الإنسان الطبيعية في مدرسة أهل البيت(ع)، هو الآيات القرآنية الدالة على تكريمه، وتسخير ما في الأرض له، ومراعاة مصالح النوع الإنساني، وصيانة حقوقه، واحترام ذمته.
ويعني هذا أنّنا في كلّ مورد من الموارد لا نجد فيه نصّاً خاصّاً، أو تعبّداً خاصّاً على الاستثناء أو التخصيص، أو رفع اليد عن هذه الطبيعة الأوّليّة التي هي (كرامة الإنسان) في التشريع الإسلامي، فإنّنا نعتمد على هذه القاعدة في التشريع. والقرآن لم يخصّص المؤمنين أو المسلمين بل قال "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"(17)، وفي تعبير الإمام عليّ (عليه السلام) «إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(18)، أو قول الإمام الحسين (عليه السلام): «إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم»(19).
فالإنسان، بما هو إنسان، يحمل الخصائص الإنسانيّة من العقل والفكر الذي يساعده في الوصول إلى الكمال، هو الذي يكون داخلاً في التكريم. نعم للمسلم مزيد كرامة، كما أنّ للمؤمن كرامة أرفع.
ولأهل الذمة من غير المسلمين حقوق أقرها الإسلام في تشريعاته وآدابه، فكفل لهم الحماية من العدوان الخارجي، والاعتداءات الداخلية، ووفر لهم الضمان الاجتماعي عند الكبر والعجز. يقول(ع) في رسالة الحقوق في بيان بعض أحكامهم " وحق الذمة أن تقبل منهم ما قبل الله عز وجل منهم، ولا تظلمهم ما وفوا لله عز وجل بعهده، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسوله"
2- الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة الاقتصادية.
السياسة الاقتصادية الإسلامية قائمة على مجموعة من الأسس والمبادئ:
(1) السعي الى عدم تكديس الثروات في جانب الأغنياء، وتقليل الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بينهم وبين الفقراء، من دون إجحاف بصاحب الثروة والمال، عن طريق تطبيق القوانين الإسلامية في مجال كسب المال، وتشريع العبادات المالية الواجبة من قبيل الزكاة والخمس والكفارات وغيرها، والمستحبة من قبيل: الصدقات والأوقاف والنذور وما شاكل ذلك. فإن هيمنة الأغنياء على الثروات يمكنهم من إخضاع الناس واستعبادهم، ومن جهة أخرى فإن واقع البؤس والفقر والجوع لدى الناس يعزز الاضطرابات الاجتماعية والصراعات الأهلية، ويزيد من معدلات الجريمة والانحراف.
(2) العدالة في المساواة بالعطاء، والمطابقة لأحكام الشرع الحنيف، والسعي الى إقامة مجتمع عادل ومتوازن لاتقف فيه الاقطاعية أو الرأسمالية موقف التسلط على رقاب الناس، ولا يوجد فيه فقير ومحروم.
(3) التحرج الشديد من التصرف بالأموال العامة، وتحريم التصرفات الغصبية، واحترام الملكية الشخصية.
(4) الأمانة والصدق المطلقين في التعاملات عامة، والاقتصادية بصورة أخص.
ونرى عناصر السياسة الاقتصادية الإسلامية مجتمعة في رسالة الحقوق في مجموعة من الحقوق، منها:
(أ) حقوق صاحب المعروف والفضل، ولها جنبتان: جنبة اقتصادية، بردّ معروفه وإحسانه بمعروف مثله أو أكثر، عند الاستطاعة، وجنبة معنوية، بشكره وتذكّر معروفه. لذلك يمكن أن تدرج في الحقوق الاقتصادية، وفي الحقوق المعنوية.
(ب) حقوق الشريك
(ج) حقوق الغريم.
(د) حقوق المال.
(هـ) حقوق السائل على المسؤول وبالعكس.
3- الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة المعنوية.
وغالبيتها من الحقوق المتبادلة، أي ثنائية الطرف والنسبة.
إن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تنظر للحق نظرة أرحب وأشمل من تقييده وحصره بالحقوق المادية، هي النظرة العميقة التي توازن بين الجانب المعنوي والجانب المادي، وعلى هذا الأساس، نلاحظ أن كثيرا من توصيات وأحاديث الأئمة (عليهم السلام) تنصب على رعاية الحقوق المعنوية، ويظهر ذلك جليا في رسالة الحقوق، من خلال:
(أ) حق المعلم على المتعلم، وحق المتعلم على المعلم.
فان الشريعة الاسلامية كما فرضت على كل مسلم طلب العلم والتحلي به والانتفاع بثماره اليانعة، حتّمت على العالم ان ينشر علمه ويذيعه بين المسلمين ولا يكتمه عنهم. قال الباقر عليه السلام: « عالم ينتفع بعلمه، أفضل من سبعين الف عابد »
فمن حقوق المعلم على تلاميذه: تعظيمه وتوقيره، وستر عيوبه، وحسن الاستماع إليه، وإحضار الفهم واستجماع العقل، ويكون تحصيل العلم خالصا لوجه الله تعالى.
وفي المقابل جعل الإمام المعلم قيما على تلاميذه، واذا امتاز المعلم بسعة الصدر وعدم الضجر من المسألة، زاده الله تعالى علما، أما عاقبة منع الناس العلم مع طلبهم له وحاجتهم إليه فهو استحقاق العقوبة من الله، وسلب العلم وسقوطه من قلوب الناس.
(ب) حق الراعي على الرعية، وحق الرعية على الراعي.
أما حق السلطان على الرعية فعدم التعرض لسخطه، أ و عمل ما يكون سببا في هلاكها، فيكون إلقاء للنفس في التهلكة، وحق الرعية على السلطان أن يعدل فيهم، ويعاملهم بالرأفة والرحمة، كالوالد بالنسبة الى أولاده، ويصفح عما لم يتعمدوا، ولا يكون همه العقوبة
(ج) حقوق الجليس
وأما حق الجليس، سواء كان مجلسا علميا أو غيره، فأن يتصف معه بلين الجانب، والإنصاف في الكلام، ولا يقوم إلا بإذن جليسه.
(د) حقوق الجار.
وحق الجوار من الحقوق العظيمة في المجتمع الإسلامي. وقد روي عن النبي(ص) قال "ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه"(20).
فمن حقوق الجار على جاره: إكرامه في حضوره، وحفظه في غيبته، وستر عيوبه، ونصرته ان كان مظلوما، والتجاوز عن أخطائه وزللـه.
(هـ) حقوق صاحب النعمة والمعروف.
وأما حقوق صاحب النعمة والمعروف فشكره، وإخلاص الدعاء له في السر والعلانية. ولو أتيحت الفرصة لمكافأة معروفه وجب ذلك.
(و) حقوق الصديق.
وأما حق الصديق فمن الواضح جدا أثر الصديق في حياة الإنسان، بل وحتى مصيره، يقول تعالى (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا)(21).والإنسان بطبعه تواق الى اتخاذ الأصدقاء، ليخففوا عنه همومه، ويشاطرونه السراء والضراء.
وجاءت وصايا الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق توكيدا لحقوق الصديق على صديقه، مطابقة لروح الشريعة الإسلامية، ومتناغمة مع حاجة الفطرة السليمة. وكان منها: حسن الصحبة، وإنصافه، وإكرامه، والتودد إليه، وزجره عن المعصية، وإرشاده لما فيه الخير.
(ز) حق الخصم المدعي، وحق المدعى عليه على الخصم.
ولأن الشريعة الإسلامية هي شريعة العدل والإنصاف، فقد وضعت للخصم المدعي حقوقا، وللمدعى عليه حقوقا. وذلك بجعل الحق والعدل هما الأساس في الدعاوى، فيرى كل من المدعي والمدعى عليه، جانب الحق فيرضخا له، ومع تزمت الطرف الآخر، يكون الرفق والحكمة، ومناشدته بالحسنى، أن يكف عن الخصومة هو الطريق الأسلم، مع تجنب حشو الكلام، واللفظ السيء. ولو كان في العفو عن المسيء مصلحة ورضا لله تعالى اتبعها، وإلا كان ما يبتغيه منحصرا في ظهور الحق، من دون ظلم ولا إجحاف.
(ح) حقوق المشير والمستشير.
وحق المشير الصدق في المشورة، مع علمه بجهات الأمور المستشار فيه، وإذا لم يحط بالأمر علما، يرشده ويدله على صاحب رأي ومشورة يوثق به. ولا يتضايق ان لم تقبل مشورته، كما يجب على المستشير الشكر، وعدم إساءة الظن بالمشير.
ومما تقدم يمكن يظهر امتياز الحقوق في هذه الرسالة المباركة بميزتين رئيستين:
الأولى: انتهاء القوانين الحقوقية إلى غايات أخلاقية، فيُنظر إلى الأخلاق على أنّ لها قدسيّة خاصّة، تحكم على القوانين والمبادئ الحقوقية. فقد بنيت القواعد العامة فيها على العدل والحق والرحمة واحترام الإنسان. ويكفي الباحث نظرة إجمالية للنصوص الواردة فيها للخروج بهذه النتيجة.
وهذه الجنبة الأخلاقية في القوانين المنظمة لحياة الإنسان وحقوقه هي نقطة الانقلاب التي يفترق فيها الفكر الإسلامي عن الأفكار المادية التي تتبناها الفلسفات المادية والقوانين الوضعية، ففي تلك القوانين غالبا ما تصطدم حقوق الإنسان بجدار من الأزمات الأخلاقية الناتجة من الصراع بين المصلحة العامة، التي تقتضي التنازل – ولو يسيرا – عن المنفعة الشخصية، والمنافع الذاتية التي تعتبر (الأنا) فوق كل الاعتبارات.
والميزة الثانية: استناد الحقوق وانطلاقها من حق الله تعالى، كونه المنشأ والمنطلق لبقية الحقوق، لتحقيق العدالة الحقوقية بين الافراد. فانّ الحق نحو سلطنة، ولها مراتب كثيرة، أعلاها وأجلها هو سلطنة الحق - تعالى شأنه - وقهّاريته على مخلوقاته، وهو من أعظم الحقوق ولا يتبدل ولا يتغير بحال أبداً، وهو ذاتي متأصل، واليه ترجع سائر الحقوق بل الحقوق كلها له جلّ شأنه وبسلطنته خلق الخلق.
ففي رسالة الحقوق، نرى حق الله تعالى، في صدارة قائمة الحقوق باعتبار تقدمه، وأهميته نسبة إلى بقية الحقوق من جهة، ولأن مراعاة حق الله تعالى تجعل تطبيق ومراعاة الحقوق الأخرى للمخلوقين أمرا ممكنا وسائغا، فإذا راعى الإنسان حق ربه، كان له الاستعداد والقابلية على تطبيق بقية الحقوق، وإلا لم يتوفر فيه تلك القابلية. وبدون جعل المالكية والحق الأوّل لله لن تستتب العدالة بتاتاً في البشر ; لأنّ نظام التكوين يبدأ من الله ثمّ إلى خلقه، فلابدّ أنّ نظام الحقوق ونظام التقنين ونظام التدبير يتطابق مع نظام التكوين، وإذا تطابق فستكتب العدالة، وتتحقق السعادة للإنسانية، وإذا تمّ مخالفة هذا الأصل الأصيل الذي ترتكز عليه العدالة فلن تعيش البشرية السعادة أبداً.