التوازن بين السلطة والحرية وأثره على حقوق الإنسان
د. علي سعد عمران
2017-12-18 05:30
لطالما كان موضوع وجود السلطة وضرورتها من المسائل الهامة في المجتمعات البشرية، ولاسيما تلك السلطة التي توجه أوامر ونواهي لأفراد المجتمع، والتي تعمل على تنظيم شؤونهم الحياتية، ونقصد بها السلطة السياسية في الدولة، والتي هي من ضرورات الحياة في أية دولة.
وفي المقابل لهذه السلطة نجد الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد المتواجدين على أرض الدولة سواء أكانوا من مواطنيها أم من الأجانب، ولذا أضحى من الضروري إيجاد التوازن بين هذه السلطة بما تملكه من وسائل وأدوات قانونية (التشريع) ومادية (القوة البوليسية والعسكرية)، والحقوق والحريات الفردية والعامة والتي قد تتغول عليها السلطة السياسية عند تنظيم أحوال المجتمع عن طريق ما يعرف بالضبط الإداري وتحقيق المصلحة العامة للدولة.
ولذا طرح السؤال الآتي: هل السلطة في حالة صراع مع الحرية؟ أم إنهما يحتاجان إلى التوازن فيما بينهما؟
لقد كانت الإجابة عن التساؤل المتقدم متفاوتة في المجتمع الإنساني إلى درجة كبيرة، إذ ساد ويسود العالم اتجاهين متناقضين، الأول ديمقراطي يتجه إلى إحداث التوازن بين السلطة والحرية، والثاني ديكتاتوري استبدادي يذهب إلى إعلاء كفة السلطة السياسية في مواجهة حريات الأفراد وحقوقهم، وكان من نتائج الاتجاه الثاني أن تقلصت إلى حد كبير مساحة الحقوق والحريات، لذا انقدحت الأفكار الفلسفية والنظريات الجدلية التي تنادي بضرورة حماية هذه الحقوق والحريات وتقييد سلطة الدولة، وظهرت لأجل ذلك النظريات العديدة ومنها (القانون الطبيعي) التي أكدت إن للإنسان حقوقا لصيقة به منذ أن جرت في عروقه الحياة، لا يمكن التخلي عنها وأي افتئات عليها يكون غير مشروع مستحقا للمقاومة، لأنها هبة من الله تعالى أو هي هبة من الطبيعة للإنسان – وذلك بحسب الاختلاف العقائدي لمن تبنى هذه النظرية.
لذا انتهى الفكر القانوني السليم إلى ضرورة أن يعهد إلى تنظيم المعادلة بين السلطة والحرية إلى دستور الدولة ذاته –وذلك بعد ان ظهرت فكرة الدسترة في القانون الوضعي- الذي يتولى بدوره تنظيم السلطة السياسية في الدولة من حيث تكوينها وبيان اختصاصاتها، وينظم في الوقت ذاته الحقوق والحريات العامة والفردية التي يجب أن يتمتع بها المواطن والأجنبي في الدولة، وبالتالي يكون الدستور هو أداة التوازن بين السلطة والحرية وبذلك تتحقق الفلسفة الدستورية.
وقد ظهرت آثار ذلك على هيكلية الدستور نفسه ولاسيما الدساتير التي كتبت في منتصف القرن العشرين والقرن الواحد وعشرين، إذ نجد إن المشرع الدستوري في دول العالم قد دأب على ذكر الحقوق والحريات ابتداء في الوثيقة الدستورية ثم يعالج موضوع السلطة السياسية (السلطات الحاكمة في الدولة)، ويورد القيود التي ترد عليها حفاظا على نظام الدولة مع بيان الضمانات الكفيلة بحماية الحقوق والحريات.
ولعل هذه الفلسفة الدستورية سعى إليها المشرع الدستوري العراقي في عام 2005 عند وضع الدستور فأبتدئ بباب الحقوق والحريات ثم انتقل بعد ذلك إلى بيان السلطات الاتحادية في المادة (47) وما بعدها من الدستور، لاسيما بعد أن تجرع المجتمع غصة الديكتاتورية في الأنظمة السياسية التي توالت على حكمه، فقد صودرت واغتصبت كثيرا من حقوق الإنسان وحرياته السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
لذا نجد ان الدستور الحالي قد ذكر بشيء من التفصيل والعناية الحقوق والحريات ابتداءً من الديباجة ثم جاءت المادة الأولى من الدستور في الباب الأول الموسوم "بالمبادئ الأساسية" وقضت بان "جمهورية العراق... نظام الحكم فيها...ديمقراطي" ولا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية ولا مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الدستور بحسب المادة الثانية من الدستور، وقد أشارت المادة ذاتها وبوضوح إلى إن الإسلام مصدر أساس للتشريع ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.
ومن ما سبق تتضح الخطة الدستورية للمشرع في أحداث جانب من التوازن بين سلطة الدولة في التشريع وسن القانون وبين حماية الحقوق والحريات. ثم أردف المشرع من بعد ذلك في الدستور إيراد الباب الثاني بفصليه ليعنونه بالحقوق والحريات، ففي الفصل الأول ذكر الحقوق والتي قسمها على حقوق مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وفقا للتقسيم الفقهي الحديث.
أما الفصل الثاني فقد أورد فيه الحريات المتعددة على أن تكون ممارسة هذه الحقوق والحريات في حدود النظام العام (الأمن العام والصحة العامة والسكينة العامة والآداب العامة) وفي حدود ما تقضي به القوانين والتشريعات النافذة في العراق، على انه لا يجوز أن يكون تنظيم أي حق أو حرية أو تقييدها فيه انتقاص أو مساس بأصل وجوهر الحق أو الحرية، وهو ما صرحت به المادة (46) من الدستور.
ذلك إن إطلاق الحقوق والحريات دون ضابط قانوني مميز يؤدي إلى تحول المجتمع إلى فوضى فتسود فيه شريعة الغاب، ولذا يأتي هنا دور كل من القانون والإدارة (الحكومة الاتحادية والمحلية على حد سواء) في تحقيق التوازن المنشود بين السلطة والحرية فلا يمكن أن يضحى بسلطة الدولة ونظامها الاجتماعي بحجة المدافعة عن حقوق الإنسان ولا يضحى بهذه الحقوق والحريات بحجة حماية النظام في الدولة. فيكون على مشرعي القانون ورجال الإدارة عند قيامهم بواجباتهم الالتزام بالضوابط الدستورية والقانونية المذكورة.
أما الضمانات التي نظمها المشرع الدستوري لحماية وضمان عدم تجاوز السلطة على حقوق الإنسان فهي عديدة، ويمكن لنا القول بان هذه الضمانات إذا أريد لها الخروج عن الإطار النظري البحت فإنها ستتمثل بضمانتين أراهما مهمتين: الأولى الإعلام وما قد يؤديه من دور في حماية الحقوق والحريات على أن يكون إعلاما مهنيا نزيها مؤديا واجباته المهنية بصورة دقيقة غير منحاز إلا إلى الحقيقة، وذلك من خلال تسليطه الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان من قبل السلطات الحاكمة، ولذا خص الدستور ذكر الإعلام في المادة (38) بالنص على أن "تكفل الدولة.... ثانيا: حرية الصحافة... والإعلام والنشر" فالإعلام بوسائله المسموعة والمقروءة والمرئية يلعب دورا في تنبيه الرأي العام إلى أن هناك خلل في التوازن المبحوث عنه.
وأما الضمانة الثانية فتتمثل برقابة القضاء وهي من أهم واجمع الضمانات في هذا المجال ذلك إن القضاء يعد حصن الحريات العامة -كما وصف من قبل بعض الفقهاء- غير إن القضاء كقاعدة عامة يعد ساكن غير متحرك، بمعنى إن على صاحب المصلحة المهتضم حقه أو حريته أن يتجه إلى القضاء ليرفع دعواه ويبين فيها مظلمته، ولأهمية استقلال القضاء وضرورة حياديته في عمله فقد نص عليه الدستور في باب الحقوق والحريات بوصفه واحدا من الحقوق المدنية التي نص عليها دستورنا في المادة (19/أولا) بالقول إن "القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون". عليه نجد إن إعداد القاضي بصورة علمية مهنية رصينة يعد واحداً من أهم متطلبات الحكم العادل الرشيد في الدولة.
وختاما لابد لنا من التنبيه إلى:
1. السلطة ليست امتيازا لأصحابها بل هي مسؤولية تقع على أصحابها.
2. الحقوق والحريات ليست نصوص تذكر في الدساتير والقوانين، بل هي تربية اجتماعية.
3. تحقيق التوازن بين السلطة والحرية ولو بصورة مقبولة وليست مثالية، يؤدي إلى نتائج هامة على صعيد نظام الدولة لعل من أهمها إشاعة روح المواطنة بين أفراد المجتمع، فالمواطنة هي ليست حق الحصول على الجنسية بل هي الآمال والآلام التي يشعر بها المواطن تجاه بلده، فيجد بالعمل على تحقيق الآمال والقضاء على الآلام التي تحيط ببلده وأبنائه عن طريق التزام العمل المفيد والصالح لبلده.
.....................................