مسيرة الأربعين: عتمة وسائل الإعلام لا تحجب مضامين رسائلها الدافئة
د. لطيف القصاب
2025-08-12 06:25
قبل ما يزيد على عشر سنوات من هذا التاريخ كتبت الصحفية البريطانية (ليزي بورتر) مقالا مشتركا بعنوان (الطريق إلى كربلاء)، قالت الكاتبة في سطوره الأولى إن أكثر من عشرة ملايين مسلم يتوجهون كل عام إلى مدينة كربلاء لأداء واحدة من أكبر الزيارات الدينية في العالم، والأقل تغطيةً إعلاميةً في الوقت نفسه!
الحقيقة أن هذا الاقتباس الذي يحمل مفارقة واضحة ما يزال صالحا للاستشهاد به بعد كل تلك السنوات الطويلة، ليس من حيث عدد الزائرين بطبيعة الحال؛ لأن العدد تجاوز الرقم الذي ذكرته (ليزي بورتر) بكل تأكيد، ولكن من حيث بقاء التقصير أو القصور الإعلامي على حاله، ففي حين صارت زيارة الأربعين تستقطب ما يزيد على عشرين مليون زائر من أنحاء مختلفة في العالم ما يزال الحدث يمر مرورًا خافتًا، وخافتًا جدا في وسائل الإعلام الدولية لاسيما الغربية منها، وهو الأمر الذي يثير الاستغراب مؤقتا في الواقع. أقول مؤقتا؛ لأن معظم المؤسسات الإعلامية الغربية ما تزال أسيرة النظرة النمطية للإسلام التي تراه بعين ثقافية منحازة بمعظمها لخلفيات مسيحية علمانية، وليبرالية، ومحافظة.
وهذه الخلفيات على اتساع رقعة الخلاف بينها آيدلوجيا تتوافق على قضية إهمال نقل خبر الزيارة أصلا أو إقصائه من حيّز الأولوية، وحتى إذا وجدت غرف الأخبار في تلك المؤسسات نفسها مجبرة بنحو أو آخر على إيراد تغطية ما فإنها ستستعين حتما بأرشيف جاهز لا يمنح المناسبة حرارتها الحقيقية، ويكتفي بنشر بعض الصور السطحية، والعناوين المجتزأة...الخ، وستجد هذه الغرف أكثر من ذريعة لتسويغ ابتعادها عن ميدان الحادثة إن دعاها داعٍ لذلك، ومن أبرز تلك الذرائع هو تصنيف العراق في نطاق الدول الأكثر خطرا على الصحفيين الأجانب، وهو التصنيف الجائر الذي توقف الزمن فيه مع الأحداث الدامية التي شهدها العراق عقب تغيير النظام عام 2003.
لكنه ما يزال يمثل انطباعا راسخا لدى صحفيين أجانب كثر، بل يجد له ترويجا مستمرا أيضا حتى اليوم من مراكز بحثية محلية معنية بالشأن الصحفي العراقي!
وثمة مشكلة أخرى فثمة من يتعامل مع حدث الزيارة السنوي بوصفه أمرا مرتبطا بحركات شيعية سياسية أو مسلحة، لا بوصفه ظاهرة روحية إنسانية فريدة من نوعها تستحق الاهتمام والتقدير، وهنا أيضا ستجد متطوعين محليين يزيدون من رسوخ هذه القناعة الأجنبية، ومن هؤلاء المتطوعين المحليين بعض الأجنحة السياسية التي تستميت في الدخول على خط الزيارة، وتوظيف ما يمكن توظيفه منها في خدمة رموزها، ومتبنياتها الخاصة، ومن دون شك فإن التوظيف السياسي الخاص مسؤول إلى حدّ كبير عن وضع محددات تحول دون وجود تغطية عالمية محايدة أو متوازنة لهذا الحدث العام.
نستطيع أن نضيف إلى ما ذكرناه آنفا مجموعة أخرى من النقاط والحيثيات التي تتشارك المسؤولية بقدر أو بآخر عن حدوث هذا الخلل الذي يلحق ضررا (ملاحظا) بالزيارة من الناحية الإعلامية، ولكن الاسترسال في هذا الأمر لن يُفضي بنا إلا إلى صنع وصفة تشخيص لا علاج فيها!
ومن هنا وجب البحث عن دواء لهذا الخلل عبر المتاح من وسائل الإعلام الحديثة أي الـ (سوشيال ميديا)، فهذه الوسائل صار لها من التأثير الجماهيري – في حال استثمارها الاستثمار الأمثل- ما يوازي أو يفوق الأثر الذي تحدثه المؤسسات الإعلامية الضخمة، وعلى مقدار ما يملكه الراوي، أو صانع المحتوى عموما من وعي إعلامي، وأخلاقي في مخاطبة الجمهورين المحلي والعالمي، وما يتسلح به من دقة، وعمق، ومصداقية، ومهارة فنية في هذا السياق يمكن التنبؤ بنتائج إيجابية باهرة.
وهذه النتائج لا تخرج في مجملها عن فكرة رفع جودة الرسالة الحسينية، وربطها عضويا بالقيم الإنسانية والأخلاقية العامة، وما أكثر القصص التي يمكن رصدها في رحلة الأربعين المباركة، وتصلح لأداء مهمة تبليغ رسائلها على أكمل وجه، وأحسنه لاسيما في مجال العمل الطوعي الذي يجسد السمة الفارقة لهذا الحدث الفريد.
وتزداد أهمية ما يُرى من قصص إنسانية مؤثرة مع تصاعد قسوة الظروف المناخية التي تشهدها أيام الزيارة حاليا حيث درجات الحرارة تسجّل أعلى أرقامها القياسية! وبرغم ضراوة الظرف المناخي القاسي فإن الزخم الإنساني العالي للزيارة ما يزال هو الآخر محتفظا بأرقامه القياسية في مضامير التطوّع، والإيثار، والضيافة، والتفاني النبيل.