الحروب والذكريات.. عالم لا يتبقى منه إلا ضحاياها
عبد الامير رويح
2016-03-23 08:30
كانت الحروب والمواجهات العسكرية ولا تزال محط اهتمام واسع بسبب اضرارها الوخيمة على المجتمعات، وقد تكون الدوافع للحرب مختلفة بين أولئك الذين يأمرون بالحرب وبين الذين يموتون فيها. وللقيام بحرب لا بد أن يكون هناك دعم من قيادتها وقواتها العسكرية، وشعبها. ويرى بعض الخبراء ان هناك دول ومنظمات تعمل وبشكل مستمر على تأجيج واثارة الفتن وخلق الحروب، تحت مسميات ونظريات مختلفة من اجل تحقيق مكاسب مادية واقتصادية كبيرة.
وفيما يخص بعض اخبار الحروب والمواجهات العسكرية، التي انتشرت بشكل واسع في العديد من مناطق العالم فقد صرح مدير العمليات في اللجنة الدولية للصليب الاحمر دومينيك ستيلهارت ان اختلال عمل منظومة الامم المتحدة مسؤول عن "العدد غير المسبوق للنزاعات" المسلحة التي يشهدها العالم حاليا. وقال ستيلهارت "نشهد عددا لا سابق له من النزاعات المسلحة المتزامنة التي تنتج عنها احتياجات انسانية لا تنفك تتزايد". واضاف ان السلام في العالم مهدد بسبب "عدم وجود سياسة دولية مشتركة" بشأن الازمات التي يعاني منها العالم، مؤكدا ان "الحلقة المفرغة" التي تدور فيها هذه النزاعات هي التي تؤدي الى "اطالة امدها وانتشارها اقليميا".
وتابع ستيلهارت "اذا اخذنا مجلس الامن الدولي مثلا نجد انه عمليا، ليس هناك اليوم اي مسألة او نزاع يجتمع حوله للتوصل الى حل سياسي". واورد المسؤول في اللجنة الدولية للصليب الاحمر ازمة سوريا مثالا على ما يقول، مؤكدا ان هذه "الازمة تؤثر على مجمل الشرق الاوسط. سوريا اصبحت حتما اسوأ ازمة انسانية نواجهها مع نزوح نصف السكان" عن ديارهم، سواء داخل البلاد او خارجها. وسلطت الحرب الدائرة في سوريا الضوء على عجز مجلس الامن، اذ ان روسيا والصين استخدمتا في مجلس الامن حق الفيتو الذي تتمتعان به بصفتهما عضوين دائمين في المجلس لتعطيل صدور اي قرار ضد نظام الرئيس بشار الاسد.
من جانب اخر قتل أكثر من تسعة آلاف شخص في شرق أوكرانيا منذ بدء النزاع في نيسان/ابريل 2014، بحسب حصيلة جديدة نشرتها الامم المتحدة. وأعلنت المفوضية العليا لحقوق الانسان في الأمم المتحدة في تقريرها الفصلي أن عدد القتلى في النزاع يبلغ 9098 شخصا على الأقل فيما أصيب 20732 بجروح. وتتضمن هذه الارقام مدنيين وعناصر من القوات المسلحة بالإضافة إلى عناصر من المجموعات المسلحة. وهدأ النزاع في شرق اوكرانيا الى حد كبير بعد التوصل في ايلول/سبتمبر الى هدنة جديدة تم الالتزام بها عموما خلال شهرين تقريبا. لكن منذ بضعة اسابيع تكثفت المواجهات وقتل عدد من الجنود الاوكرانيين.
جنود حفظ السلام
الى جانب ذلك تبنى مجلس الامن الدولي بصعوبة قرارا يتعلق للمرة الاولى بالتجاوزات الجنسية التي ارتكبها جنود لحفظ السلام وتعد مشكلة متكررة لكنها تفاقمت في جمهوريتي افريقيا الوسطى والكونغو الديموقراطية. وينص القرار الذي اقترحته واشنطن على اعادة وحدات باكملها الى بلدانها في حال الاشتباه بحدوث انتهاكات جنسية او استغلال جنسي. وفي حالة لم يتخذ بلد ما اي اجراء ضد جنوده المذنبين، يمكن استبعاده تماما من عمليات حفظ السلام.
وتم تبني القرار بأغلبية 14 صوتا وامتناع عضو واحد هو مصر عن التصويت، وذلك بعد رفض مجلس الامن تعديلا اقترحته. واثار القرار الاميركي منذ طرحه تحفظات من جانب العديد من الدول بينها روسيا والسنغال ومصر. وعبرت مصر عن "ادانتها بلا لبس" للانتهاكات الجنسية لكنها رأت ان القرار يفرض "عقوبة جماعية" على جرائم يرتكبها "بضع عشرات" ممن يخالفون او ينتهكون النظام والأعراف. وقال السفير المصري عمر عبد اللطيف ابو العطا ان المقاربة التي يقوم عليها القرار قد يكون لها "اثر خطر على معنويات القوات وتلطيخ سمعة" بلدان تمد الامم المتحدة بجنود لقوات حفظ السلام.
وكانت اربع دول هي روسيا والصين وفنزويلا وانغولا دعمت اولا طلب التعديل المصري قبل ان تؤيد المشروع الاميركي في نهاية الامر. وقالت السفيرة الاميركية في الامم المتحدة سامنثا باور ان التعديل المصري "كان سيسيء للهدف من هذا القرار" وهو "التصدي لسرطان الانتهاكات والاستغلال الجنسي الذي يقع ضحيته اناس منحوا ثقتهم لراية الامم المتحدة". في المقابل اعتبر مساعد السفير الروسي بيتر ايليتشيف انه "يتعين الاستماع لصوت الدول المساهمة (بقوات) وعدم تاليب مجلس الامن ضد هذه الدول". وتعتبر روسيا ايضا ان المشكلة ليست من اختصاص مجلس الامن.
وقال السفير الفرنسي فرنسوا ديلاتر ان "الامر لا يتعلق بلوم جماعي" بل "بتوجيه رسالة واضحة الى الجميع من جنود حفظ السلام الى الشرطيين والطواقم المدنية والقوات الدولية". وتضم عمليات حفظ السلام للامم المتحدة البالغ عددها 16 في العالم اكثر من مئة الف شرطي وجندي من 122 بلدا. لكن هؤلاء جاؤوا خصوصا من دول ناشئة او نامية مثل الهند وباكستان وبنغلادش (اكثر من سبعة آلاف رجل من كل منها) واثيوبيا (8300 رجل) ورواندا (ستة آلاف) وبوركينا فاسو (ثلاثة آلاف) ومصر (2800).
وتمول الولايات المتحدة 28 بالمئة من الميزانية السنوية الهائلة لعمليات حفظ السلام، التي تبلغ 8,3 مليارات دولار لكنها لا تنشر على الارض سوى ثمانين رجلا. وافاد التقرير السنوي الاخير للامين العام للامم المتحدة بان كي مون ان 69 حادث اعتداء او استغلال جنسي ارتكبت من قبل جنود لحفظ السلام في 2015، مشيرا الى "ارتفاع واضح" عن 2014. وسجل اكثر من نصف هذه الانتهاكات في بعثتين هما مهمة الامم المتحدة في جمهورية افريقيا الوسطى ومهمة الامم المتحدة في جمهورية الكونغو الديموقراطية. وتضمن التقرير للمرة الاولى اسماء 21 بلدا جاء منها الجنود المتورطون في هذه الحوادث.
ويبدو ان هذه المشكلة المزمنة ليست جديدة ولا تشهد اي تحسن. فمند بداية العام تم تسجيل 26 اتهاما جديدا. لكن وحدها الدول التي تؤمن جنودا لبعثات حفظ السلام مخولة فرض عقوبات جزائية على المذنبين وتقوم بذلك بتحفظ كبير. لذلك يهدف القرار الى دفع هذه البلدان الى التحقيق بسرعة ومعاقبة المخالفين بقسوة. وسيسمح القرار باعادة وحدات كاملة من جنود حفظ السلام "عندما تكون هناك ادلة موثوق بها" لانتهاكات جنسية على نطاق واسع من قبل هذه الوحدات. وكانت الامم المتحدة قامت بخطوة من هذا النوع مع وحدات من الكونغو الديموقراطية والكونغو برازافيل كانت متمركزة في افريقيا الوسطى. بحسب فرانس برس.
ويسمح القرار للامين العام ايضا "باستبدال كل الوحدات العسكرية و/او قوات الشرطة" لبلد مرسل للقوات اذا لم يتخذ اي اجراء لاحالة المسؤولين عن الانتهاكات الى القضاء. ويدعو القرار القوات الدولية التي لا تخضع لقيادة الامم المتحدة لكنها مفوضة من المنظمة الدولية، -- مثل القوة الفرنسية سنغاريس -- الى "اتخاذ الاجراءات المناسبة" لمنع الانتهاكات الجنسية ومعاقبتها. ويخضع جنود فرنسيون من سنغاريس متهمون باغتصاب اطفال في جمهورية افريقيا الوسطى، لاجراءات قضائية في فرنسا.
أقدم حرب
على صعيد متصل قال العلماء إنهم توصلوا إلى أقدم الشواهد على نشوب حروب بين البشر عبارة عن حفريات لمجموعة من الناس قتلوا بأيدي فرقة من المهاجمين بأسلحة منها السهام والهراوات والحجارة ذات الحواف الحادة بعد التنقيب على شواطئ بحيرة في كينيا. وترجع هذه الحفريات الى عشرة آلاف عام. واكتشفت في منطقة تسمى ناتاروك تبعد 30 كيلومترا الى الغرب من بحيرة توركانا بشمال كينيا حفريات تخص 27 شخصا من العصر الحجري الذي شاعت خلاله حضارة الإنسان الذي عاش آنئذ على الصيد وجمع الثمار.
وعثر على حفرية رجل ولا تزال ترقد بجمجمتها صفيحة حادة من الزجاج البركاني الأسود الذي يسمى أوبسيديان ووجدت جروح برجل آخر ناجمة عن ضربتين في الرأس ربما كانتا بهراوتين ما أدى الى تهشم جمجمته. وعثر أيضا على امرأة في شهور الحمل الأخيرة يبدو انها كانت مقيدة الأيدي والأقدام. وأصيب الضحايا أيضا بجروح ناجمة عن تعرضهم للضرب بأجسام حادة في العنق والجمجمة والأيدي والركب والضلوع.
وقالت مارتا ميرازون لار عالمة الأحياء القديمة بجامعة كمبردج إن هذه الشواهد توضح ان هؤلاء الأشخاص كانوا يصيدون الحيوانات والأسماك ويجمعون الثمار القابلة للأكل وقد تعرضوا للذبح في هجوم عمدي على أيدي مهاجمين ربما كانوا من منطقة أخرى. وقالت ميرازون لار "إنه اعتداء بدني وحشي قاتل بنية قتل هؤلاء الأفراد ممن كانوا قد أبدوا دفاعا أو شنوا هجوما مضادا أو ربما كان لا يعنيهم أمرهم في شيء سواء كان رجلا أم امرأة في شهور حملها الأخيرة وسواء كانوا صغارا أم كبارا".
ونشأ الجنس البشري قبل 200 ألف عام في افريقيا وكان معظم العلماء يرى ان الحرب نشبت لأول مرة قبل وقت انتشار جماعات ناتاروك وعندما بدأ الانسان في تشكيل مجتمعات مستقرة بدلا من القبائل الرحل وأنشطة الصيد وجمع الثمار. وأضافت ميرازون لار ان حفريات ناتاروك "تثير أسئلة عما اذا كانت الحرب جزءا من التجربة الانسانية في وقت أقدم مما كان يعتقد من قبل". وقالت إن تدبير هجوم مزمع يشير الى ان الموارد التي كانت لدى شعب ناتارك -وربما كان بينها الماء واللحم المجفف والأسماك والمكسرات وأيضا النساء والأطفال- تعتبر ثمينة. بحسب رويترز.
وقالت إنه عثر على حفريات 21 بالغا وستة أطفال -معظمهم دون السادسة من العمر- ولم يعثر على بالغين أكبر سنا "سواء نجحوا في الهروب أو وقعوا في الأسر وهو ما لا يمكن ان نعرفه". وأضافت "في نهاية الأمر كانت جميع المذابح بشعة. كم من الأمثلة لدينا من تاريخنا الحديث والمعاصر؟ لكن العثور على بقايا مجزرة بين الهياكل العظمية لأناس من الصيادين وجامعي الثمار أمر في غاية الإثارة".
معركة فردان
من جهة اخرى احتفلت مدينة فردان الفرنسية بذكرى المعركة التاريخية الحاسمة التي وقعت فيها اثناء الحرب العالمية الاولى، واحتشد مئات الاشخاص من الفرنسيين والالمان تحت زخات المطر في غابة تقع على بعد 15 كيلومترا من فردان (شرق)، حيث اضاؤوا الشموع، وقرأوا وثائق تاريخية ونفذوا مسيرة احياء لذكرى هذه المعركة. ويقول احد المشاركين في المسيرة بين الضجيج الكبير الذي يبث محاكاة لصوت القذائف التي امطرت المنطقة اثناء معركة فردان "قبل مئة عام على التمام، بدأ القصف الجنوني الذي يصم الاذان، وقد شعر به من كانوا يعيشون على بعد 150 كيلومترا من هنا".
وبدأت المعركة بشن الالمان هجوما خاطفا عليها، واستمرت 11 شهرا وانتهت بتراجع المانيا. ويشارك في هذه المسيرة جنبا الى جنب مواطنون فرنسيون يرتدون الزي الازرق ويمشون الى يمين الطريق، ومواطنون المان يرتدون لباسا كاكيا ويمشون الى اليسار. ويقرأ احد المشاركين بعض الرسائل التي كتبها آنذاك احد الضباط الفرنسيين المسؤولين عن فرق المواقع المتقدمة والذي اصبح من اوائل ابطال هذه الحرب. ويتوقع الضابط في رسالته الا يبقى الكثير من مقاتليه على قيد الحياة "بين ثمانية ايام وخمسة عشر"، وبالفعل قتل الضابط نفسه في الثاني والعشرين من شباط/فبراير وهو يقاتل لكبح سرعة هجوم الاف المقاتلين الالمان الخاطف.
ويقول وزير الدولة الفرنسي لشؤون المحاربين القدامى والذاكرة جان مارك تادوشيني "من المهم ان نكون هنا لنكرم اولئك الذين فقدوا حياتهم، وايضا لتعزيز الصداقة الفرنسية الالمانية في وقت تتصاعد فيه القوميات". شارك في صنع "ملحمة" معركة فردان مئات الالاف من الجنود الفرنسيين، اكثر من ثلاثة ارباع الجيش، الذين ارسلوا الى خط الجبهة هذا، توفي آخر الباقين منهم على قيد الحياة في العام 2008. بحسب فرانس برس.
وهذا العام، تجري الاحتفالات بذكرى المعركة على نطاق واسع في فرنسا، متركزة على اشاعة رسائل السلام، انطلاقا من هذه البقعة التي قضى فيها اكثر من 300 الف جندي من طرفي القتال. وبعد انتهاء المسيرة في الغابة، تقام صلاة في دوامون حيث يرقد جنبا الى جنب اكثر من 130 الف جنديا فرنسيا والمانيا سقطوا في المعركة. وفي التاسع والعشرين من ايار/مايو، يشارك اربعة الاف شاب من البلدين برفقة المستشارة الالمانية انغيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في نشاط مشترك. ويرمي هذا النشاط الى حمل رسالة سلام، بعد 32 عاما على المبادرة التاريخية التي قام بها الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران والمستشار الالماني هلموت كول حين تصافحا امام مقبرة دوامون.
الحياة البرية في كشمير
في السياق ذاته ينتصب صف مزدوج من الحواجز في المنطقة الفاصلة بين الشطرين الهندي والباكستاني من كشمير، عند حدود تشهد انتشارا عسكريا هو من الاكبر في العالم، ليقسم الى قسمين هذه البيئة الطبيعية الغنية، ويمنع الحيوانات البرية من الانتقال الحر بين ارجائها، وشيدت الهند هذا الحاجز الحدودي المنيع في العام 2007 بطول مئات الكيلومترات، لمنع المقاتلين الانفصاليين في كشمير من التسلل من باكستان المجاورة، لكن هذا الحاجز لم يمنع توغل المقاتلين فحسب بل حبس الحيوانات البرية عند جانبيه، وحال دون هجرتها الموسمية، وادى الى تدهور نمط حياتها وتراجع اعدادها بحسب الخبراء.
فلما صار انتقال الحيوانات مستحيلا في الهملايا، صارت الدببة والفهود العالقة في الشطر الباكستاني مضطرة في تنقلها الى الاقتراب من القرى، وهو امر غالبا ما يكلفها حياتها. وفي قرية ارانغ كيل الواقعة على ارتفاع اكثر من 2500 متر، يقول السكان ان لا خيار لديهم سوى القضاء على هذه الحيوانات المفترسة، خوفا على قطعان الماشية. ويقول روشان خان البالغ حوالى ستين عاما "الاغنام والماعز وابقار في خطر، واحيانا تهاجم هذه الحيوانات المفترسة الانسان ايضا، لذا نقتلها".
ويقول يوسف قرشي المدير السابق للجهاز الحكومي الباكستاني المعني بحماية الطبيعة في كشمير ان هذه الحيوانات "مضطرة الى الاقتراب من المناطق المأهولة بحثا عن الطعام، وهي تتعرض للقتل حين تهاجم المواشي". فقد اجهز سكان القرى في العام 2007 على 35 فهدا وما لا يقل عن خمسة دببة، على ما يقول نعيم دار الذي يعمل ايضا في الجهاز المسؤول عن الطبيعة في كشمير. ازاء ذلك، اختفى عدد من الانواع الحيوانية تماما في الجانب الباكستاني من الخط الحدودي، وفق المسؤولين.
ومن الحيوانات المندثرة نوع من الماعز ذات قرنين طويلين ملتفين يسمى مارخور. ويقول يوسف قرشي "الحاجز الحدودي يحول دون هجرة الحيوانات من الجزء الهندي من كشمير..انها مأساة". والأمر سيان بالنسبة لأيل كشمير المعروف باسم هانغل والذي كان منتشرا بكثرة في الماضي اما اليوم فقد "اختفى تماما" في الجانب الباكستاني. والحاجز الحدودي منيع جدا، فهو مكهرب، ويرتفع في بعض المواقع الى اربعة امتار، كما ان الالغام تنتشر بالقرب منه اضافة الى اجهزة استشعار ترصد حرارة الاجسام وتطلق صفارات الانذار، وانظمة اضواء كاشفة.
وما زالت الهند وباكستان، الجارتان النوويتان اللدودتان، منذ انفصالهما اثر الاستقلال عن بريطانيا العام 1947، عاجزتين عن التوصل الى حل لقضية كشمير التي يطالب كل منهما بالسيادة التامة عليها. وقد دخل البلدان في حربين بسبب هذه القضية، واعلنا وقفا لاطلاق النار في العام 2003، لكن اي حل لقضية كشمير لا يبدو قريبا. ويبدو الجيش الهندي راضيا عن فاعلية الحاجز الحدودي في ضبط تسلسل المسلحين من باكستان. ويقول س.ك. دوا قائد الفرقة العسكرية الهندية الخامسة عشرة في سريناغار ان عمليات التسلل توقفت بشكل شبه تام.
لكن هذا النجاح العسكري لا يقنع المعنيين بالبيئة، على غرار محمد ارشاد المسؤول في منظمة "هملايا ولفير" الذي يقول "لقد اصاب الحاجز الحياة البرية باضطراب وحد من حركة الحيوانات". وليس الحاجز وحده المسؤول عن تدهور الحياة البرية، بل ان طلقات النار التي يتبادلها الجنود من جانبي الخط تصيب الحيوانات بالذعر. ويقول قرشي "حين تغادر الحيوانات موطنها الطبيعي، لا تعود اليه ابدا". بحسب فرانس برس.
والى هذا وذاك، تعاني المنطقة ايضا من قطع الاشجار، اذ ان سكان وادي نيلوم لا يجدون بدا من جمع الحطب للتدفئة. وفي العام 1947، كانت الغابات تغطي 24 % من مساحة كشمير الباكستانية، وقد انحسرت هذه النسبة الآن الى 11 %. ويتركز القلق لدى السكان المحليين على حماية انفسهم ومواشيهم من هجمات الحيوانات المفترسة، اما حماية هذه الحيوانات المفترسة نفسها فهو "يتطلب اقدام الهند وباكستان على السلام في المنطقة وازالة الحاجز"، على ما يؤكد يوسف قرشي.
ضحايا الحروب
الى جانب ذلك قد لا يتبقى من الحروب إلا ضحاياها.. يحملون ندوبها ويخوضون حروبهم الخاصة للتغلب على آثارها والتعايش مع ما خلفته على وجوههم وأجسادهم وفي مراياهم وعيون الناظرين إليهم.. وفي لبنان وجد الكثير من هؤلاء أملا باستعادة جزء ولو يسير من حياة تحولت في لحظات إلى شظايا. "ما عدت قادرة ألعب متل قبل" تقولها سيدرا (9 سنوات) بصوت هامس وعيون واسعة خجولة لا تطيل النظر إليك فربما لا تلاحظ ندوب الحروق التي تركت تجاعيد على وجهها قبل الأوان. وتضيف "ما بركض لأن إجريي (قدماي) بيوجعوني كتير. بس الدكتور قلّي (قال لي) بس إكبر حإرجع متل قبل".
وأصيبت سيدرا قبل عامين في قصف عشوائي بينما كانت تلعب أمام منزل ذويها في إدلب في سوريا.. غطت الحروق جسمها بالكامل ووجهها وأصيبت ساقها، كما قتلت في الحادث شقيقتاها وخالتها وابنة خالتها وأصيبت أختاها الأخريان. وفي مستشفيات وعيادات بيروت، عاصمة الجمال كما باتت تعرف منذ أصبحت مقصد من يريدون استبدال ملامحهم بأنف أجمل وشفاه مثيرة وتقاطيع جسم مثالية، أُفسح بعض المجال لأشخاص يريدون استرجاع أي ملامح تذكرهم بمن كانوا ويسعدون بما يشبه الملامح ويقوم بوظيفتها .. فقط.
وعلى يدي سيدرا اللتين انكمش جلدهما من وجعه تظهر آثار عملية أجريت لها في الآونة الأخيرة لاقتطاع جزء من الجلد وزراعته ليغطي مكان إصابة فخذها. "كانت سميكة (مكان العملية) بس هلق طابت (شفيت الآن)" تقولها سيدرا باستحياء وهي تمدهما وتسارع إلى خلع فردتي حذائها بحماس مفاجئ لتظهر مدى التحسن الذي أحدثته العمليات في قدميها المشوهتين بشكل كبير مما أتاح لها السير عليهما من جديد.
وأضافت "قال لي الدكتور انني أصبحت أفضل. بس إكبر لازم أعمل عمليات وإرجع متل الأول.. الوجع هلق بس بإجري الشمال (مكان الإصابة).. بعد العمليات صرت أحسن بروح على المدرسة وبلعب." وتحب سيدرا التلوين وترسم أطفالا يلعبون بوجوه ضاحكة. عندما تكبر تريد أن تصبح طبيبة أطفال رغم أن دراستها تأخرت بسبب إصابتها وباتت تنسى كثيرا وتحتاج إلى علاج نفسي لتخطي ما مر بها، لكنها رغم ذلك ربما تحلم بأن تُحدث فرقا في حياة أطفال آخرين كما أحدث أطباؤها المعالجون فرقا في حياتها.
ولا تهدف الجراحات التجميلية والترميمية لضحايا الحروب والأسلحة الفتاكة إلى إعادتهم كما كانوا، فهذا مستحيل من وجهة نظر الطب على الرغم مما أحرزه من تقدم. وقال الدكتور غسان أبو ستا رئيس قسم التجميل والترميم في الجامعة الأمريكية "فكرة أن يعود المريض كما كان قبل الإصابة هو أمر مستحيل. إن هدف الجراحة التجميلية هو إعادة الجسد لدرجة من الكفاءة تؤهل المريض أن يكون شخصا مستقلا وفعالا في المجتمع".
وأضاف أبو ستا "الترميم يعتمد على فكرة إعادة العمل للأعضاء أو الأماكن المصابة أكثر من التجميل. التجميل من جهة أخرى أساسي لعلاج التشوهات خصوصا في الوجه للحد من العزلة الاجتماعية التي تصيب المريض بعد الإصابة." وتابع "مع انهيار القطاع الصحي في العراق وسوريا وفي ليبيا واليمن فإن أهمية الخدمات التي يقدمها لبنان والمركز الطبي للجامعة الأمريكية أهلته لأن يصبح المقصد الأول لهذا النوع من الإصابات بسبب تعقيدها وحاجتها إلى العلاج المتكامل".
وبدأت الإصابات تتزايد مع بداية الحرب الأهلية السورية قبل خمس سنوات تقريبا وقبلها مع اشتداد التفجيرات في العراق وبعدها في ليبيا وآخرها الحرب في اليمن. ويقول أبو ستا "برنامج إصابات الحروب الذي أسسناه في الجامعة الأمريكية متكامل ومتعدد التخصصات ... الحالات التي نستقبلها تتراوح بين علاج أربعين وستين في الشهر وهي في تزايد" متوقعا طفرة جديدة في عدد المرضى الوافدين إلى لبنان مع انتهاء الحرب اليمنية.
وعبر أبو ستا عن أسفه كون "80 أو 90 في المئة من الجرحى من سوريا هم أطفال" موضحا أن "هذه الحالات أكثر تعقيدا من غيرها لأن الحاجة إلى جراحات الترميم مستمرة حتى ينتهي نمو الطفل. يحتاجون إلى أن يعودوا في كل مراحل النمو لنعمل معهم على إعادة تأهيل وترميم جلدهم وإصاباتهم." بدوره، أشار الدكتور جورج غنيمة مدير قسم معالجة الحروق المتخصص في مستشفى الجعيتاوي إلى "أن المركز هو الوحيد في لبنان والمنطقة في مجاله. ويقصدنا أشخاص مصابون بالحروق من سوريا معالجين بشكل غير كاف أو يفتقرون إلى العلاج بالإضافة إلى مرضى من العراق."
وأضاف "منذ بداية الحربين العراقية ثم السورية نعالج في المركز ما بين 25 و35 محروقا في الشهر منهم من تستدعي حالته البقاء في المستشفى أشهر ... ما يتخرب في لحظة يحتاج إلى سنوات من العلاج ليس ليعود كما كان بل ليصبح أفضل." وأكّد غنيمة أن "لبنان بات المركز الرئيسي للعلاج في المنطقة. والعدد الأكبر من الإصابات التي نستقبلها ليس من المقاتلين بل من الأولاد الذين يشكلون 70 في المئة من الحالات التي تأتينا من سوريا نصفهم إصاباتهم بليغة". وختم بالقول "نشهد الكثير من الكوارث بالفعل."
تحاول المنظمات الدولية والقطاع الاستشفائي الحكومي والمنظمات غير الحكومية تولي مهمة الإنفاق على إصابات ضحايا الحرب لكن جهودها كانت دوما غير كافية. والحرب السورية لم تكن استثناء لكنها كانت الدافع وراء تأسيس جمعية تقدم نصيبا ولو محدودا من الأمل والمستقبل الأفضل للأطفال المصابين على وجه الخصوص. لاحظت مراسلة قناة "سي.إن.إن" الإخبارية الأمريكية أروى دامون، وهي من أم سورية وأب أمريكي، على مدى عملها في تغطية النزاعات أن تأثير الإعلام لم يعد كبيرا كما كان من قبل على الرغم من أن "أي حرب لم تحظ بالتغطية التي نالتها الحرب السورية" برأيها.
وبدأت فكرة إنشاء جمعية "إنارة" تتبلور في ذهن أروى بعد إعدادها تقريرا لمحطتها عام 2007 عن الطفل العراقي يوسف الذي نجح في استقطاب الرأي العام من جميع أنحاء العالم مما أسهم في إنقاذ حياته وانتقاله مع عائلته إلى لوس أنجليس في الولايات المتحدة حيث يتابع علاجه ودراسته هناك. وقالت أروى "توجد فجوة في المساعدة الطبية لضحايا الحروب. هناك منظمات مهتمة وهناك رغبة لدى الأشخاص الغرباء في أرجاء العالم في المساعدة ففكرت بأننا يجب أن نكون صلة الوصل بين الضحايا وكل هؤلاء".
وتضيف "ففي النهاية إنهم حفنة من الأولاد الذين سيكون لهم فرصة في مستقبل أفضل مما كانت لديهم قبل أن يتعرفوا على إنارة." وعن تمويل "إنارة" تقول أروى "بدأت وحدي في تمويل عدد من الحالات وما زلت أتدخل في بعض الأحيان لتغطية نفقات معينة. لكن الاستمرار في هذا الأمر كان مستحيلا. اليوم نتلقى التبرعات عبر موقعنا الإلكتروني ومن جمعيات عائلية ونقيم شراكات مع منظمات عالمية ومراكز طبية وأطباء كما نقدم طلبات هنا وهناك للحصول على هبات."
وأضافت "لا يمكننا أن نمحو ما تعرض له هؤلاء الأطفال يوما لكن إذا حاولنا أن نجعل وضعهم أفضل ونزيل الجزء المرير من يومياتهم فسيعطون في المقابل وسيؤثر هذا الأمر عليهم مباشرة وعلى كل من يلتقونه في حياتهم." وتابعت "بدلا من أن يكبر الأطفال المصابون كمراهقين ساخطين وحاقدين على العالم ربما سيكبر كل منهم كمراهق بوجه مشوّه في أدنى الحدود لكنه يتعالج بتبرعات أشخاص غرباء من جميع أنحاء العالم لم يلتق بهم في حياته وهو ممتن لذلك وللفرصة التي منحوها له للحياة من جديد." وختمت أروى بالقول "الحياة أخذت منهم كل شيء ويمكننا أن نمنحهم هذا الجزء الصغير."
وفي حالة أمجد (17 عاما) الذي انطفأت عينه وتهشم فكه العلوي في دمشق بسوريا في رمضان الماضي بينما كان ذاهبا ليشتري خبزا لعائلته ساعة الإفطار تتجسد رسالة (إنارة) بكل جوانبها. وقال أمجد "العملية حلم. بسبب هذه العملية حيصير إلي (سيصبح لي) مستقبل وأعمل كل شي ببالي وكل شي بدي ياه (أريده). نفسيتي تحسنت 80 في المئة وإن شاء الله إرجع عيش إنسان طبيعي ولا كأنو في شي. بحسب رويترز.
"حأعمل العملية وبعدين برتاح وبطلع كل شي من جواتي (داخلي). في المستقبل أريد أن أركز على الموسيقى التي أحبها كثيرا فأنا أحب العزف على الجيتار والعود." وتوقف أمجد عن كتابة الخواطر والشعر بعد الإصابة وهرب حتى من مواجهة نفسه وشكله لكن منذ بداية رحلة العلاج استعاد وحيه وتصالح مع شكله الجديد شرط أن يفارقه قريبا. وسيشعر أمجد وسيدرا وكثيرون غيرهما بالألم وربما تصاحبهم ندوبها الجسدية والنفسية طيلة حياتهم لكن قدرهم قد يتغير بهبة من غريب أو طبيب تُحدث وحدها كل الفرق.