رحلت الملكة لكن الإرث الاستعماري لم يرحل

وكالات

2022-09-14 05:05

حطمت الملكة إليزابيث الثانية، الأرقام القياسية رقما تلو الآخر فيما يتعلق بالبقاء على العرش، وأصبحت ملكة ورمزا لزمن طويل في بلد مكثت على عرشه 70 عاما، حتى بعد أن تغيرت ملامحه تماما، وفقد إمبراطوريته وتعرض لاضطرابات اجتماعية.

يصف بعض المعلقين عهدها بأنه “عصر ذهبي” يشبه عصر الملكة التي حملت الاسم نفسه إليزابيث الأولى، التي حكمت إنجلترا قبل 400 عام في فترة شهدت تنامي قوة البلاد وازدهارها الثقافي.

من كينيا الى نيجيريا وصولا الى جنوب افريقيا واوغندا، توالت التعازي وفعاليات الحداد الى جانب ذكريات زياراتها الى افريقيا خلال العقود السبعة التي أمضتها على العرش، لكن وفاة الملكة اليزابيث الثانية أعادت أيضا إحياء الجدل الحساس حول الماضي الاستعماري في افريقيا.

جاءت وفاتها في وقت تتعرض فيه الدول الأوروبية لضغوط لتقويم تاريخها الاستعماري والتكفير عن جرائم الماضي وإعادة القطع الأثرية الأفريقية المسروقة التي يحتفظ بها منذ سنوات في متاحف من لندن الى باريس.

وكان الرئيس النيجيري محمد بخاري والرئيس الكيني أوهورو كينياتا من بين الذين قدموا تعازيهم بخسارة "ايقونة".

لكن العديد من الأفارقة توقفوا أكثر عند مآسي الحقبة الاستعمارية بما يشمل أحداث وقعت في العقد الأول من حكمها.

الإرث الافريقي

نالت كينيا استقلالها عن بريطانيا في 1963 بعد تمرد استمر ثماني سنوات خلف عشرة آلاف قتيل على الأقل.

وافقت بريطانيا عام 2013 على التعويض على خمسة آلاف كيني عانوا من تجاوزات خلال انتفاضة ماو ماو، في صفقة قيمتها حوالى 20 مليون جنيه استرليني (23 مليون دولار).

وكتبت "ذي ديلي نايشن"، أكبر صحيفة في كينيا، في افتتاحية في نهاية الأسبوع ان "الملكة تترك إرثا متفاوتا من قمع وحشي لكينيين في بلادهم وعلاقات مفيدة للطرفين".

كانت اليزابيث الثانية تزور كينيا في 1952 حين توفي والدها وأصبحت ملكة.

وأضافت الصحيفة "ما تبع ذلك كان فصلا دمويا في تاريخ كينيا مع فظاعات ارتكبت ضد شعب كانت خطيئته الوحيدة المطالبة بالاستقلال".

وقالت "في حين ان العلاقات مع بريطانيا كانت مفيدة، من الصعب نسيان هذه الفظاعات".

كجزء من أعمال التحسين الأخيرة لعلاقات الماضي، شهدت نيجيريا وبنين المجاورة، قيام فرنسا وبريطانيا بإعادة أول دفعة من آلاف القطع الأثرية التي نهبت خلال الحقبة الاستعمارية.

تم نهب ما تسميه نيجيريا "برونزيات بنين"- وهي لوحات معدنية ومنحوتات تعود الى القرنين السادس عشر والثامن عشر- من قصر مملكة بنين القديمة وانتهت في متاحف في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا.

وقال بخاري إن تاريخ البلاد "لن يكتمل بدون فصل عن الملكة إليزابيث الثانية".

وفيما أشاد البعض بدورها الذي أدى إلى استقلال نيجيريا، أشار آخرون إلى أنها كانت رئيسة الدولة عندما دعمت بريطانيا الجيش النيجيري خلال الحرب الأهلية في البلاد.

توفي أكثر من مليون شخص بين عامي 1967 و 1970 معظمهم من المجاعة والمرض خلال الحرب بعدما أعلن ضباط من اتنية الإيبو الاستقلال في جنوب شرق البلاد.

وقال أوجو آنيا الاستاذ النيجيري الأصل المقيم في الولايات المتحدة، في إشارة على تويتر إلى حرب بيافرا إنه "اذا كان أي شخص يتوقع مني التعبير عن أي شيء غير الازدراء للعاهل الذي أشرف على إبادة جماعية برعاية حكومة... فهو يحلم"، ما أثار جدلا واسعا على وسائل التواصل الاجتماعي.

تم التعبير عن ردود فعل متفاوتة مماثلة في جنوب افريقيا حيث وصف الرئيس سيريل رامابوزا الملكة بانها شخصية "استثنائية".

لكن حركة مقاتلي الحرية الاقتصادية المعارضة كانت أكثر رفضا وتذكرت عقودا من التمييز العنصري الذي كانت فيه بريطانيا، المستعمرة سابقا، في معظم الأحيان سلبية.

وقالت الحركة في بيان "نحن لا نحزن على وفاة اليزابيث لانه بالنسبة إلينا وفاتها تذكر بفترة مأساوية جدا في هذا البلد وتاريخ افريقيا".

إرث اوغندا

في أوغندا، ذهب البعض إلى أبعد من ذلك مستذكرين حاكم مملكة بونيورو أوموكاما كاباليغا الذي قاوم الحكم البريطاني في أواخر سنوات 1890.

تم خلعه ونفيه إلى جزر سيشل ثم جرى دمج المملكة في الإمبراطورية البريطانية.

قال تشارلز روموشانا مدير الاستخبارات السابق وهو الآن محلل سياسي "بقدر ما كانت الملكة قادرة على الحفاظ على تماسك المستعمرات البريطانية السابقة، إلا انها لم تعالج بشكل كاف مواطن الظلم في بعض الدول مثل أوغندا".

الشهر الماضي، دعت جمعية السياحة الأوغندية إلى تشكيل لجنة لقيادة إعادة القطع الأثرية الأوغندية من متاحف بريطانية وأجنبية أخرى، بما يشمل 300 قطعة من بونيورو بحسب البرلمان.

وقال تشارلز أونيانغو-أوبو الكاتب ومنتقد الحكومة الأوغندية على تويتر إن العديد من القادة الأفارقة الذين حكموا لفترة طويلة استغلوا فترة حكم الملكة إليزابيث التي استمرت 70 عاما لتبرير بقائهم في السلطة لعقود.

وأضاف "الآن بعد أن توفيت، هم يسعون جاهدين لتعلم كيفية جعل قضيتهم مقنعة في صيغة الماضي".

طرح موكوما وا نغوغي نجل الكاتب الكيني الشهير نغوغي وا ثيونغ او وهو كاتب روائي أيضا واستاذ محاضر باللغة الانكليزية في جامعة كورنيل، تساؤلات أيضا حول إرث الملكة في افريقيا.

وكتب على تويتر "لو كانت الملكة اعتذرت عن العبودية والاستعمار والاستعمار الجديد وحضت العرش على تقديم تعويضات عن ملايين الأرواح التي سقطت باسمهم، فربما كنت سأفعل الشيء الإنساني وأشعر بالحزن".

وأضاف "بصفتي كينيا، لا أشعر بأي شيء. هذه المسرحية سخيفة".

الإرث القبرصي

أثارت وفاة الملكة إليزابيث الثانية ردود فعل متناقضة في قبرص حيث ارتبط حكمها بماض مؤلم طغى عليه الكفاح ضد القوة الاستعمارية البريطانية وتقسيم الجزيرة الواقعة على البحر المتوسط.

أثارت قبرص التي تقع عند مفترق الطرق بين الشرق والغرب، أطماع الإمبراطوريات المتعاقبة بدءًا من الإغريق وحتى العثمانيين. وفي 1878، أصبحت الجزيرة تحت الإدارة البريطانية ثم مستعمرة للتاج في 1925 قبل أن تحصل على الاستقلال في 1960.

وقال أندرياس (83 عاما) وهو متقاعد رفض الكشف عن اسم عائلته، لوكالة فرانس برس "كانت ملكة جيدة، لكن ليس لقبرص".

ومثله، يعتبر قبارصة آخرون عاشوا الفترة الاستعمارية أن إليزابيث الثانية مسؤولة عن أحكام بالإعدام صدرت بحق تسعة مقاتلين شباب من المنظمة شبه العسكرية القومية القبرصية اليونانية "إيوكا" التي قاتلت ضد الحكم البريطاني بين 1955 و1959 ودعت إلى إلحاق الجزيرة باليونان.

وأضاف أندرياس "لم تصدر عفوا عن الشباب الذين كانوا يقاتلون من اجل قبرص من اجل الحرية وقاموا بشنقهم"، في إشارة إلى السلطة البريطانية.

لكن الصحيفة الرئيسية الناطقة بالانكليزية في الجزيرة "سايبروس ميل" تؤكد أن "الملكة لم توقع أحكام الإعدام"، مشيرة إلى أن "سلطة منح العفو تعود إلى الحاكم (الجزيرة) وليس إلى الملكة".

طفت هذه الجروح القديمة على السطح مجددا في حزيران/يونيو الماضي خلال احتفالات اليوبيل البلاتيني للملكة التي نظمها الجيش البريطاني في قبرص حيث يتمركز في قاعدتين مهمتين له واحدة في جنوب الجزيرة والثانية في شرقها.

ونقل حفل خيري كبير كان مقررا في هذه المناسبة في موقع تاريخي في جنوب غرب الجزيرة، إلى إحدى هاتين القاعدتين بعد أن دان قبارصة هذا الحدث ووصفوا الملكة بأنها "قاتلة".

وفي تشرين الأول/أكتوبر 1993 أثناء زيارتها الأولى والوحيدة للجزيرة، واجهت الملكة أيضًا هتافات معادية أطلقها متظاهرون من بينها "عودوا إلى بلدكم".

وقال مراقبون لشؤون العائلة الملكية إن الاستقبال الذي لقيته في المستعمرة السابقة كان واحدا من أسوأ ما شهدته خلال رحلاتها التي لا تعد ولا تحصى.

وقبرص عضو في الاتحاد الأوروبي ويبلغ عدد سكانها حوالى مليون نسمة. وهي مقسومة منذ غزو الجيش التركي لها واحتلاله ثلثها الشمالي في 1974 ردا على انقلاب كان هدفه إلحاق البلاد باليونان.

وهذا التقسيم يغذي شعورا آخر بالحقد حيال القوة الاستعمارية السابقة التي كانت ضامنة لسيادة الجزيرة بموجب معاهدة الاستقلال واتُهمت بعدم التدخل لوقف الغزو التركي.

لكن بصفتها عضوا في الكومنولث، تحافظ قبرص على علاقات وثيقة مع بريطانيا.

وتضم الجزيرة جالية كبيرا من المغتربين والمتقاعدين البريطانيين بينما اختار عدد كبير من القبارصة منذ فترة طويلة إنكلترا لتعليمهم الجامعي.

وقبرص التي توصف بأنها "جزيرة أفروديت" معروفة بشمسها وشواطئها ومياهها الصافية وتتمتع بشعبية كبيرة بين السياح البريطانيين الذين يمثلون أكبر مجموعة من الزوار.

وعبر الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس في تغريدة على تويتر عن "خالص تعازيه" في وفاة الملكة.

وفي الشارع عبر عدد من القبارصة عن حزنهم.

وبالقرب من شارع ليدرا المزدحم في البلدة القديمة في نيقوسيا التي كانت تسمى "ميل الموت" في إشارة إلى هجمات القبارصة اليونانيين على الجيش البريطاني، قال أليك يوانو لفرانس برس "نحن حزينون (...) نريد أن يكون الملك الجديد مثلها".

وأضاف "عاش الملك!".

ارث الأرجنتين

بين الإعجاب وذكريات النزاع، يعبر الأرجنتينيون عن آراء متناقضة في تقييم إرث إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا البلد الذي يتشاركون معه تاريخا معقدا من بين فصوله حرب طاحنة.

وعلقت الحكومة في بوينوس آيرس بسرعة على نبأ وفاة الملكة وقالت للشعب البريطاني إنها ترافقهم في "لحظة الحزن هذه".

وتناولت صحف الأرجنتين النبأ باحترام واعتبرت الملكة "رمزا للقرن العشرين" وبأنها شخصية "عرفناها أكثر مما عرفنا عماتنا".

لكن في الشارع طغت على الإشادة بإرث الملكة الذكريات المؤلمة لحرب 1982 في جزر فوكلاند والتي تطالب كل من الدولتين بالسيادة عليها.

وقالت ماريا لوهان رودريغيز (51 عاما) لوكالة فرانس برس في بوينوس آيرس "كنت أود لو أعادت الملكة الجزر إلينا قبل وفاتها".

وكانت سيليا كارلن (88 عاما) من بين آخرين وضعوا باقات الزهر في السفارة البريطانية في العاصمة تكريما لملكة "حساسة ورصينة جدا". وبالنسبة للجزر قالت كارلن "أعتقد أن عليهم إعادتها لنا. لكنني أفصل بين المسألتين".

خلال الحرب التي استمرت 74 يوما وأسفرت عن أكثر من 900 قتيل، هم 649 جنديا أرجنتينيا و255 جنديا بريطانيا إضافة إلى ثلاثة من سكان الجزر، كانت إليزابيث هدفا للكثير من الانتقادات اللاذعة التي رأى كثيرون إنها لم تكن في محلها.

آنذاك، كان هواة كرة القدم، التي استوحيت من بريطانيا لتصبح أكثر من مجرد رياضة في الأرجنتين، ينشدون أغاني تشير إليها بعبارة "أغبى الملكات".

يشدد المحلل السياسي روزيندو فراغا على أن الحرب كانت قرارا سياسيا اتخذته حكومة مارغريت ثاتشر.

ولا يتمتع التاج البريطاني بصلاحيات تنفيذية أو سلطة صنع القرار، لكن صورة الملكة كشخصية عامة جعلتها هدفا سهلا للانتقاد.

وتختصر ميرثا لوغران، مقدمة البرامج التلفزيونية المعروفة البالغة 95 عاما والتي تصغر الملكة بعشرة أشهر فقط، المشاعر المتناقضة للأرجنتينيين.

وقالت "المسألة مؤلمة جدا، فقد كنت أتابعها منذ تتويجها بعمر الخامسة والعشرين" مضيفة "كانت ملكة عظيمة، لكن لا أستطيع أن أنسى أنها حكمت خلال حرب فولكلاند. لا أستطيع أن أنسى. كانت لحظة حزينة جدا للجميع".

ويتشارك البلدان تاريخا طويلا من العلاقات المتقلبة.

وبعد عمليتي غزو بريطانيتين داميتين لبوينوس آيرس في 1806 و1807، جاءت فترة استثمارات اقتصادية تدفقت خلالها الأموال البريطانية إلى قطاعات الزراعة والطاقة وأكبر شبكة للسكك الحديد في أميركا اللاتينية.

لكن الحرب عادت لتضرب من جديد.

فقد أرسلت الأرجنتين جنودها لبسط سيادتها على جزر فولكلاند الواقعة قبالة سواحل باتاغونيا ما أثار غضب ثاتشر.

بموافقة الملكة أرسلت ثاتشر نحو 30 ألف جندي لاستعادة الجزر التي تطالب الأرجنتين بالسيادة عليها منذ 1833 وتطلق عليها اسم "المالوين".

وكان نجل الملكة الأمير أندرو البالغ آنذاك 22 عاما، ضمن القوة التي أرسلت وكان طيار مروحية.

خرجت بريطانيا منتصرة لكن الحرب تركت ندوبا عميقة رغم استعادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية عقبها.

وقال "مركز قدامى حرب فولكلاند" ومقره الأرجنتين في بيان إن الملكة إليزابيث الثانية كانت على رأس امبراطورية استعمارية.

واضاف "نحن أمام رحيل وجه لنظام ملكي على مستوى عالمي، اعتلى العرش لسبعين عاما" مشيرا إلى "معاناة الشعوب المقهورة التي خضعت للسيطرة الاستعمارية والاقتصادية طوال فترة حكمها، وهذا نظام عفا عليه الزمن".

وفي نيسان/أبريل هذا العام وخلال مراسم بمناسبة مرور 40 عاما على الحرب شدد الرئيس ألبرتو فرنانديز أن "فولكلاند كانت وستظل الأرجنتين".

وأظهر استطلاع العام الماضي أن أكثر من 81 بالمئة من الأرجنتينيين يؤيدون المطالبة بالسيادة على الجزر.

لكن في استفتاء أجري عام 2013 بين سكان فولكلاند، اختار 97 بالمئة منهم البقاء تحت التاج البريطاني ما دفع بالملكة لإعلان الجزر أحد أقاليم ما وراء البحار.

وأثارت غضبا في بوينوس ايرس بقولها للبرلمان آنذاك إن بريطانيا "ستضمن الأمن والحكومة الرشيدة والتنمية في مناطق ما وراء البحار، بما في ذلك حماية حق سكان جزر فولكلاند (...) في تقرير مستقبلهم السياسي".

وسارعت الحكومة الأرجنتينية إلى الرد بأن "هذا يكشف الطبيعة الاستعمارية للاحتلال غير القانوني وغير الشرعي لجزرنا".

وتشير المعلمة المتقاعدة إليزابيث فارينيز (67 عاما) إلى "علاقة متضاربة نوعا ما مع الشعب الإنكليزي، لكن علينا الاقرار بأنها (إليزابيث الثانية) كانت سيدة محترمة بامتياز".

وقالت "علينا أن نقول: أحسنتِ يا ليليبيت على مدى 70 عاما من حكم إنكلترا".

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي