عندما تكشف التماثيل عن عمق الصراعات
عبد الامير رويح
2020-09-14 05:36
تعد التماثيل والنصب التذكارية، التي تنتشر في الساحات والميادين العامة لجميع مدن العالم، من اهم المعالم التاريخية التي تمجد بطولات واعمال الحكام والقادة والعلماء او شخصيات اخرى، كان لها دور مهم في صنع بعض الاحداث والثورات والتي يعتبرها البعض شخصيات وطنية، فيما يرها البعض الاخر شخصيات دكتاتورية فاسدة وهو ما دفعهم الى إزاحتها او تحطيمها، وقد شهدت الفترة الاخيرة وكما نقلت العديد من المصادر ابعاد ونقل وتحطيم العديد من النصب التذكارية في الكثير من الدول.
كان اخرها ما حدث في بريطانيا والولايات المتحدة، إثر مقتل الشاب الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد، على يد شرطي أبيض. حيث تم تدمير وتشويه الكثير من النصب التذكارية التي تعد شاهد تاريخي للعنصرية والاستعباد، وشهدت هذه الفترة إسقاط تمثال برونزي لتاجر الرقيق البريطاني إدوارد كولستون في مدينة بريستول بإنجلترا، وتشويه تماثيل في بوسطن وميامي وفيرجينيا لكريستوفر كولومبوس وقادة ولايات الكونفدرالية إبان الحرب الأهلية الأمريكية.
تلك التصرفات دفعت الولايات المتحدة الى اتخاذ اجراءات جديدة لحماية التماثيل، فقد أعلنت وزارة الأمن الداخلي الأميركية في وقت سابق، إنشاء قوة عمل خاصة جديدة لحماية المعالم التاريخية في جميع أنحاء البلاد، التي تعرض بعضها للتخريب بسبب تمجيدها الماضي العنصري للبلاد. وقال وزير الأمن الداخلي بالنيابة تشاد وولف في بيان إنه سينشر "فرق انتشار سريع" في أنحاء البلاد لحماية المعالم الأثرية والتماثيل.
وامتدت الاحتجاجات إلى الرئيسين جورج واشنطن وتوماس جيفرسون، وكلاهما كانا من مالكي العبيد وفي بعض الحالات، قررت الحكومات المحلية تحت ضغط شعبي إزالة التماثيل نفسها. وأعرب الرئيس دونالد ترامب عن غضبه عندما حاول متظاهرون سحب تمثال أمام البيت الأبيض مباشرة للرئيس أندرو جاكسون، وهو مالك آخر للعبيد ترأس عملية الطرد الجماعي للأميركيين الأصليين من أوطانهم في ثلاثينات القرن التاسع عشر. وطالب ترامب سلطات إنفاذ القانون الأميركية باعتقال ومحاكمة أي شخص قام بإتلاف نصب تذكاري وسجنه لمدة أقصاها 10 سنوات.
قوانين جديدة
وفي هذا الشأن أقر أعضاء مجلس النواب الأميركي مشروع قانون ينص على إزالة تماثيل شخصيات خدمت الكونفدرالية خلال الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر من مبنى الكابيتول. وبينما صوّت 305 نواب مقابل 113 لصالح الإجراء في مجلس النواب الذي يهيمن عليه الديموقراطيون، إلا أنه لا يزال بانتظار إقراره من قبل مجلس الشيوخ الذي يشكّل الجمهوريون غالبية أعضائه.
كما سيتعيّن على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي عارض بشدة إزالة تماثيل شخصيات تاريخية، التوقيع على المشروع ليصبح قانونا. وينص مشروع القانون على إزالة تماثيل أشخاص خدموا الكونفدرالية طوعا من "كابيتول هيل"، مقر الكونغرس. ويذكر أن ولايات جنوبية عدة حاولت الانفصال خلال الحرب الأهلية (1861-65) لتشكّل جمهورية مستقلة مؤيدة للعبودية. كما ينص المشروع على إزالة تماثيل ثلاثة أشخاص أيّدوا إما العبودية أو نظرية تفوّق العرق الأبيض.
ويرى ناشطون والعديد من الأميركيين من أصول إفريقية في أعلام معارك ونصب الكونفدرالية رموزا للعنصرية، بينما يعتبرها آخرون خصوصا البيض في جنوب البلاد إرثا تاريخيا. وفي منتصف حزيران/يونيو، أزيلت من مبنى الكابيتول لوحات لأربعة نواب كبار من القرن التاسع عشر خدموا الكونفدرالية. وتمّت إزالة لوحات الرجال الأربعة الذين ترأسوا جميعا مجلس النواب في الماضي بأمر من رئيسة المجلس الحالية نانسي بيلوسي. بحسب رويترز.
ويحتدم النقاش في الولايات المتحدة بشأن إرث العنصرية والعبودية في البلاد منذ مقتل الأميركي من أصول إفريقية جورج فلويد على أيدي شرطي أبيض في مينيابوليس بتاريخ 25 أيار/مايو. وأفادت النائبة عن كاليفورنيا كارين باس التي تترأس كتلة السود في الكونغرس "بنى أجدادي الكابيتول، لكن لا تزال هناك العديد من النصب المقامة من أجل الأشخاص ذاتهم الذين استعبدوا أجدادي". وأضافت أن هذه التماثيل تمثّل "القبول بنظرية تفوّق العرق الأبيض والعنصرية".
من جانب اخر غيرت جامعة برينستون اسم كلية السياسة العامة وكلية ويلسون بعد أن خلصت إلى أن التفكير العنصري والسياسات العنصرية للرئيس الأمريكي وودرو ويلسون تجعل إطلاق اسم على الكلية أمرا غير مناسب. وقال رئيس جامعة برينستون كريستوفر آيسجروبر لدى إعلانه هذه الخطوة إنها تتصل بموت جورج فلويد وبريونا تيلور وأحمد أربري ورايشارد بروكس وهم الأمريكيون السود الذين ماتوا بأيدي الشرطة خلال الشهور الأخيرة. وكان ويلسون رئيسا لجامعة برينستون قبل أن يصبح حاكما لولاية نيوجيرزي ثم رئيسا للولايات المتحدة من عام 1913 حتى عام 1921.
الى جانب ذلك شن أفراد أجهزة إنفاذ القانون الاتحادية حملة على المحتجين في مدينة بورتلاند بولاية أوريجون الأمريكية بموجب الأمر التنفيذي لإدارة الرئيس دونالد ترامب بحماية النصب التذكارية الأمريكية فيما وصفته الحاكمة الديمقراطية للولاية ”بمسرحية سياسية“. وأظهرت عدة مقاطع مصورة بثت على الانترنت ضباطا يرتدون ملابس مموهة دون شارات واضحة لتحديد الهوية مستخدمين القوة ومركبات لا تحمل علامات مميزة لنقل المحتجين الذين تم اعتقالهم. وقال شخص بعيدا عن الكاميرا أثناء اقتياد رجال الأمن محتجا ” إنها عملية خطف“.
وقالت متحدثة باسم هيئة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية إنه تم إرسال أفراد إلى بورتلاند لدعم وحدة شكلت حديثا من وزارة الأمن الداخلي ومكلفة بفرض تطبيق الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب لحماية النصب التذكارية والمباني الاتحادية. ولم تعط المتحدثة تفاصيل وقالت إن ذلك قد يعرض للخطر سلامة أفراد الهيئة ولكنها قالت إنه تم تدريبهم على العمل في ”أجواء تسودها الفوضى“.
وإضافة إلى أفراد حماية الحدود قالت وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الأمريكية إن أفرادا من الوكالة يساعدون هيئة الحماية الاتحادية التابعة لوزارة الأمن الداخلي التي توفر الأمن للمباني الاتحادية. ووصفت كيت براون حاكمة ولاية أوريجون ذلك الإجراء بأنه“ اساءة صارخة لاستخدام الحكومة الاتحادية سلطاتها“. وأضافت على تويتر إن ”هذه المسرحية السياسية من الرئيس ترامب ليس لها صلة بالسلامة العامة“.
وقالت تقارير لوسائل الإعلام إن أفراد الأجهزة الاتحادية اعتقلوا 13 شخصا ولكن لم يصدر تأكيد رسمي من السلطات. وتجمع متظاهرون يحتجون على العنصرية ووحشية الشرطة حول مبنى المحكمة الاتحادية بصفة يومية في بورتلاند منذ موت جورج فلويد الأمريكي المنحدر من أصل أفريقي، وأظهر مقطع مصور على الانترنت أحد أفراد إنفاذ القانون يدخل محتجا في سيارة فان صغيرة داكنة. وقالت المتحدثة باسم هيئة الجمارك وحماية الحدود إن الهيئة لديها معلومات بأن هذا الشخص يشتبه بتعديه على موظفين اتحاديين أو تدمير ممتلكات عامة وإن ”حشدا ضخما وعنيفا“ اتجه صوب أفراد انفاذ القانون لدى اقترابهم من المشتبه به. وقالت المتحدثة ”من أجل سلامة الجميع نقل أفراد هيئة الجمارك وحماية الحدود بشكل سريع المشتبه به إلى مكان أكثر أمانا لاستجوابه بشكل أكبر“.
حديقة أبطال الأمة
على صعيد متصل أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعليمات بإنشاء "حديقة وطنية لأبطال الأمة" للدفاع عما سماه "روايتنا الوطنية العظيمة" في مواجهة من يخربون التماثيل. وطلب ترامب، في أمر تنفيذي، تقديم خطط تتضمن موقع الحديقة المقترحة. وأصر على أن تكون التماثيل "واقعية" لا تجريدية ولا تنتمي إلى مدرسة الفن الحديث. ويذكر أن عددا من التماثيل الأمريكية قد أزيل منذ مقتل جورج فلويد على يد شرطي في شهر مايو/أيار. وقد استهدفت بشكل خاص التماثيل التي ترتبط برموز الكونفدرالية الذين تملكوا العبيد خلال الحرب الأهلية في أمريكا.
ودافع الرئيس ترامب عن رموز الكونفدرالية كجزء من الموروث الأمريكي. ودان في خطبة ألقاها بمناسبة يوم الاستقلال في ماونت رشمور المحتجين المناهضين للعنصرية الذين أزالوا التماثيل. وقال إن الموروث الوطني الأمريكي في خطر، في تعبير يستهدف التأثير على المشاعر الوطنية. ويتوقع أن يثير اختيار ترامب للشخصيات التاريخية التي يرغب بتخليدها الجدل. ويتوقع أن تتضمن تلك الشخصيات الآباء المؤسسين مثل جورج واشنطن وتوماس جيفرسون والواعظ المسيحي بيلي غراهام ورونالد ريغان وأبطال الحرب العالمية الثانية ومنهم دوغلاس ماكآرثر وجورج باتون.
وستكون هناك تماثيل لنشطاء الحريات المدنية الأفرو أمريكيين مثل هارييت توبمان ومارتن لوثر كينغ. وتتضمن القائمة التي اقترحها ترامب أشخاصا غير أمريكيين "كانت لهم إسهامات تاريخية مهمة في اكتشاف أمريكا أو استقلال الولايات المتحدة المستقبلي"، مثل كريستوفر كولومبوس وماركيز دي لافييت. ولا يعتبر سكان أمريكا الأصليون كولومبوس والبعثة الكاثوليكية الإسبانية أبطالا بل العكس، لأن اكتشافاتهم أدت لاستعباد السكان الأصليين واستغلالهم على أيدي المستعمرين البيض. واعتمد التطور المبكر لأمريكا على العبودية مما يجعل بعض الأبطال الوطنيين التقليديين مكروهين من الأفروأمريكيين.
وقاد ماركيز دو لا فاييت وهو أرستقراطي فرنسي وقائد عسكري، القوات الأمريكية ضد البريطانيين خلال الثورة الأمريكية. وألقى ترامب خطابه في أجواء ذات مغزى إذ وجهها من ماونت راشمور في ساوث داكوتا حيث توجد ثماثيل لوجوه أربعة رؤساء أمريكيين، كان اثنان منهم وهما جورج واشنطن وتوماس جيفرسون من ملاك العبيد. بحسب رويترز.
وتوجد هذه التماثيل في أرض انتزعتها الحكومة الأمريكية من لاكوتا سيو، من السكان الأصليين، في القرن التاسع عشر. وشجب الرئيس ترامب ما سماه "ثقافة الإلغاء" التي يمثلها من أطاحوا بالتماثيل في الاحتجاجات المناهضة للعنصرية التي جرت مؤخرا. واتهم ترامب الاحتجاجات بأنها "حملة قاسية لمحو تاريخنا وتشويه سمعة أبطالنا ومحو قيمنا وتسميم أفكار أطفالنا" وأضاف "لن نلتزم الصمت".
تماثيل اخرى
في السياق ذاته قال مسؤولون بالحكومة الكندية إن محتجين يطالبون بوقف تمويل الشرطة أسقطوا تمثالا للسير جون ماكدونالد أول رئيس للوزراء في البلاد بوسط مدينة مونتريال. حدث ذك في نهاية مسيرة سلمية عندما تسلقت مجموعة من المتظاهرين النصب وجذبوا التمثال إلى الأسفل مما أدى لانفصال الرأس، حسبما أظهر مقطع فيديو نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي. وتتزايد الدعوات إلى وقف تمويل الشرطة في أنحاء الولايات المتحدة وكندا بعد سلسلة من وقائع العنف التي شاركت فيها الشرطة. وغطت رسوم جرافيتي تمثال ماكدونالد مرارا في السنوات الماضية وكثيرا ما كان يُطلى باللون الأحمر.
من جانب اخر تحقق الشرطة البريطانية في حادث تحطيم تمثال لزعيم إثيوبيا الأسبق منغستو هيلاسيلاسي في متنزه كانيزارو بارك. ويقول شهود عيان إن التمثال النصفي حطم بأيدي مجموعة من الأشخاص يقارب عددهم المائة. ويبدو أن الحادث مرتبط بالاضطرابات التي تشهدها إثيوبيا حاليا بعد قتل المغني المحبوب هاشالو هونديسا بالرصاص.
وشهدت المظاهرات التي اندلعت عقب موته تحطيم تمثال ، راس ماكونن وولدي ميكال، والد هيلاسيلاسي آخر امبراطور وُلّي على إثيوبيا وذلك في مدينة هارار شرقي البلاد. وكان هاشالو يركز في أغانيه على حقوق عرقية "أورومو" في إثيوبيا، وبرز صوته بوضوح في الاحتجاجات ضد الحكومة التي أدت إلى تغيير القيادة في البلاد عام 2018. وقال أندرو موريس أحد شهود العيان لوكالة أسوشيتدبرس إنه رأى مجموعة من الأشخاص معظمهم من الذكور يحملون لافتات عن أورومو عندما كان يتمشى في المنطقة مع كلبه. وأضاف موريس "سمعت صوت التمثال يُحطم، لكن لم أشهد ذلك بعيني".
وتقول شرطة ميتروبوليتان إن التحقيقات في الحادث جارية، وإنها لم تلق القبض بعد على أحد. وأقام هيلاسيلاسي في حي ويمبلدون عام ١٩٣٦ منفيا عقب الغزو الإيطالي لبلاده. والتمثال من نحت هيلدا سيليجمان أثناء إقامة هيلاسيلاسي في بيت أسرتها، ونصب فيما بعد في متنزه كانيزارو بالحي نفسه.