ينتصر المصلحون ويُهزَم المستهزئون
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ
2024-05-16 04:34
(إنّ الاستهزاء لا يقتصر على الأنبياء والرُّسل بل هو موجود ضد كلّ المصلحين)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
عندما يهيمن الجهل على نسبة كبيرة من المجتمع، أي مجتمع كان، فإن الفساد يتفشى فيه، ولأننا مسلمون ملتزمون بمنهج أئمتنا المعصومين عليهم السلام، فإن عملية الإصلاح لا تتوقف، وأن المصلحين ينبرون لمواجهة الفساد، ولا يتخلّون عن دورهم المهم في تحقيق هذا الهدف، فيستمر الصراع بين الجهل والفاسدين من جهة وبين العلماء المصلحين من جهة أخرى.
في العادة هؤلاء المصابون بالجهل يعادون المصلحين، ويسخرون منهم، ويستخدمون أسلوب الاستهزاء كي يقللوا من شأنهم، ويشنّون حربا لا هوادة فيها ضد المصلحين، ويحاولون تسقيط دعوات المصلحين وأفكارهم عبر الاستهزاء بهم وبأفكارهم وبمساعيهم الكبيرة التي تسعى لنشر الإصلاح بين الناس، وملء قلوبهم بالرحمة وعقولهم بالوعي، وتصحيح عقائدهم وترسيخ إيمانهم.
وقد سبق للأنبياء والرسل، والمصلحين أن تعرضوا لموجات هائلة ومتواصلة من التسقيط والاستهزاء، واستمرت الجموع الجاهلة في هذه المواجهة مع من يريد أن يصلحهم، على الرغم من أن الغلبة في آخر المطاف ستكون للمصلحين حتما.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في إحدى محاضراته القيّمة، ضمن سلسلة محاضرات نبراس المعرفة:
(من عادة البشر أنّهم غالباً، لا يطيقون كلام المُصلحين ولا يتحمّلون خطاب الأنبياء الديني الذي يدعو إلى الهداية وإلى الخير والسعادة، فيقومون بالاستهزاء بهم وبأقوالهم، بمختلف الأساليب والطرق).
ومن بين أساليب محاربة المصلحين، القيام بتكذيبهم، وتوجيه الشكوك والتهم الباطلة لهم، ولصق السحر والجنون بهم زورا وبهتانا، الهدف من ذلك تشويه المبادئ والمضامين الصالحة التي يأتي بها المصلحون، ويقدمونها للناس على أمل إلحاق الهزيمة بالفساد والفاسدين، عبر مكافحة آفة الجهل التي تستولي على عقول وأدمغة الناس.
مما حدا بسماحة المرجع الشيرازي للقول:
إن (الناس غالباً لا يتحملون المصلحين، وعندما لا يتحملوهم يقومون بتسقيطهم عن طريق الاستهزاء والتكذيب وتوجيه التّهم، بل وينسبون إليهم أشياء مريبة كالسّحر والجنون زوراً وكذباً).
اشتداد المواجهة بين المصلحين وأعدائهم
ولا تقتصر السخرية التي يطلقها الجهلاء على الأنبياء والرسل وحدهم، بل تطال كل العلماء والمصلحين، ويأتي لنا سماحة السيد صادق الشيرازي بمثال من التاريخ المنظور، لمصلح وعالم مشهود له بالكفاح ومحاربة الاستعمار.
فحين استفحل الاستعمار البريطاني في إيران، وانتشر في المدن الإيرانية، ونشر عبر وكلائه من المخابرات كل أساليب التجهيل والرذيلة، وسعى بكل السبل إلى وأد الثقافة الإسلامية الأصيلة في الأمة الإيرانية، تنبّه سماحة الإمام المجدد محمد حسن الشيرازي إلى هذا المدّ الاستعماري الخطير، ووضع خطته الكاملة في مواجهة المستعمرين البريطانيين.
فأصدر الفتوى المعروفة التي فضحت أساليب المستعمر التي حاول أن يمررها من خلال تجارة التبغ التي من خلالها حاول أن يتسلل إلى عقول الناس ويغسل أدمغتهم وينشر بينهم ثقافته الغريبة المخرّبة للدين والعقائد الصالحة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(الاستهزاء لا يقتصر على الأنبياء والرُّسل بل هو موجود ضد كلّ المصلحين وفي كلّ زمان، فترى المستهزئ ينال من سمعة كبار العلماء الماضين الأبرار، فالإمام المجدد السيد محمد حسن الشيرازي (قدس سرّه) الذي طرد الاستعمار البريطاني من إيران قبل قرن ونصف بفتواه الشهيرة، هو واحد من أولئك العلماء البارزين الذين تعرّضوا لمثل هذا الاستهزاء).
وهكذا اشتعلت شرارة المواجهة الكبرى ضد المستعمرين الانكليز، وقاد الإمام المجدد (رحمه الله) هذه الثورة، بعد أن امتد الفساد والعبث إلى معظم المدن الإيرانية وعاثوا فيها فساد بعد أن نشر المستعمرون مئة ألف عنصر من مخابراتهم كي يعيثوا فسادا ويغسلوا أدمغة الناس ويحطّوا من كرامتهم ويجعلوهم بلا قيم ولا أخلاق.
ومن الواضح أن هذا الاستعمار لم يعجبه الدور الذي كان يقوم به العلماء المصلحون، فسعى إلى التخريب، ونشر وكلائه وعملائه الذين قاموا بدوهم بحملات إفساد مستمر وهائل، لتدمير البنية الأخلاقية والعقائدية لعموم الناس البسطاء.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(دخل الاستعمار البريطاني الذي إلى إيران تحت غطاء تجارة التبغ، وعبّأ الطاقات للاستحواذ على ثروات هذا البلد، وشيّد مباني كبيرة في طهران وشيراز وغيرها لترويج ثقافته، هذا الاستعمار لم يرق له دور العلماء في هداية الناس، فقام بتجنيد مئة ألف من الخبراء والمهندسين، عاثوا في إيران بأنواع الفساد الأخلاقي والعقائدي).
وهكذا بلغ السيل الزبى، ولم تعد الأوضاع قابلة للسكوت أو المجاراة، فهبّ سماحة الإمام المجدد الشيرازي وأصدر فتواه ذائعة الصيت التي حرّم فيها (التبغ) بيعًا وشراءً وتدخينا، مما سحب البساط من تحت أرجل البريطانيين المستعمرين وأسقط بأيديهم، إذ فوجئوا بحدّة وقوة المقاطعة الجماهيرية التي شملت الجميع، مما ألحق ضررا اقتصاديا هائلا بهم.
الصبر طريقنا نحو الانتصار
وهكذا كانت الهزيمة المدوّية من نصيب الاستعمار وذيوله وعملائه و وكلائه، فانسحب تاركا مواقعه مهزوما، بعد أن صُدم بالمقاطعة الكبيرة التي ألحقت به هزيمة مرة، وكانت النتيجة هي النصر المحقَّق والكبير لفتوى الإمام المجدد الشيرازي وللجماهير التي وعت وفهمت ما يدور حولها، وتلك الأهداف الخبيثة التي خطط لها المستعمرون المهزومون.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(عندما رأى الإمام المجدد الشيرازي (رضوان الله عليه) هذا الانحراف عن مسار الأمّة ونيّة المستعمر باحتلال هذا البلد، أطلق فتواه الشهيرة التي حرّم فيها استعمال التبغ بيعاً وشراءً وتدخيناً. هذه الفتوى جعلت الاستعمار وبكل قدراته وتجهيزاته وإمكاناته يخرج من إيران مهزوماً مدحورا).
ولعلنا نعرف جميعا أن مثل هذه المواقف القيادية العظيمة، لا سيما في وجه الاستعمار الغربي الخبيث، لا تمرّ مرور الكرام، ولا تتم من دون تضحيات جسِام، وهكذا كانت تضحيات الإمام المجدد الشيرازي كبيرة، حيث تمّ استهداف ابنه الأكبر في مدينة سامراء، وهذه الخطوة بمثابة العقوبة التي وجهها المستعمر البريطاني لخصمه في هذه المواجهة.
ولكن يا لها من خطوة غادرة تعبر عن ضحالة فكر المستعمرين، وضآلة نفوسهم، وكان من الأجدر بهم أن تكون المواجهة بعيدة عن الغدر والتصفيات الجسدية والاغتيالات، فالإمام المجدد حاربهم بفتوى دينية، والناس المؤمنون التزموا بها و وجدوا فيها خلاصهم من مخططات ومآرب المستعمرين المعتدين، نعم كانت التضحية كبيرة جدا، لكن الهزيمة التي تكبدها البريطانيون المستعمرون جعلتهم يذوقون مرارة الخسران إلى الأبد.
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يذكر هذه الواقعة المؤلمة قائلا:
(كان لهذا النصر تضحيات قدّمها المجدد الشيرازي بعضها بنفسه، منها: أنهم قتلوا ابنه الأكبر آية الله السيد ميرزا محمد في مدينة سامرّاء هو ذو مرتبة علمية رفيعة، حتى كتبوا أنه لو كان موجوداً لكان مرشحاً لتسلّم مهام المرجعية خلفاً لوالده المجدد الشيرازي (رضوان الله عليه).
هكذا تجري المواجهة بين المصلحين المنتصرين دائما، وبين أعدائهم من الفاسدين، فالصبر والتوعية وتقوية العقائد والقيم الإسلامية، والثوابت الأخلاقية هي الأمور التي يواجه بها المؤمنون أعدائهم، أما الساخرون المستهزئون المعادون للمصلحين، فإن حصتهم الهزيمة آجلا أم عاجلا، وأن نصيبهم الخسارة والبهتان.
لنصبر ونحتمل الأذى ونواجه المشكلات، ونسعى إلى حلّها، ونخطط لمواجهة الفاسدين، ونقوي عقائدنا ونتمسك بها، وندعم الدين ونتمسك بالثوابت، ونبني أنفسنا وعقولنا وأخلاقنا، ونسعى إلى كل ما يأمرنا به الله تعالى، وما نجده في سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وامتداده من الأئمة المعصومين عليهم السلام، لأنهم خلاصنا ونجاتنا.
وهذا ما يدعونا إليه سماحة المرجع الشيرازي دام ظله حيث يقول:
(المهم أن يصبر الإنسان ويعتمد على الله تعالى ويتحمل الأذى والمشاكل من أجل نشر أحكام الله والترويج للعقائد الإسلامية والأخلاق والفضائل التي يتبناها الإسلام في كلّ مكان وزمان).
هذه هي طبيعة الحياة، حرب سجال بين الجهل و الوعي، بين الشر و الخير، بين الباطل و الحق، بين الظلم والعدل، هذه الأضداد كلها وغيرها الكثير، تتوزع على الخير والشر، فأما أن نتمسك بالمصلحين ونسير في خطّهم فنكون من الفائزين، أما العكس حين نستهزئ بالمصلحين، فهذا يعني الهلاك بعينه، وهذا لا يليق بالمؤمنين المؤتمَنين.