الرحمة تصنع المدينة الفاضلة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ

2024-05-02 05:03

(المدينة الفاضلة لا تكون إلا بالتراحم، والإسلام كدين بُني على التراحم في كلّ مجالاته)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

منذ أن خُلِق الإنسان وترعرع في ربوع هذا الكوكب، وهو يسعى لبناء مدينة آمنة، يعيش فيها باطمئنان وسلام مع الآخرين، ويصير السلام متبادَلا بين الجميع، وتكون الرحمة هي العلامة الشاخصة في التعاملات والعلاقات بين بني البشر، وهذا ما روّج له الفلاسفة وبحثه العلماء والمفكرون كي يحققوا ما عجز عنه السابقون وهو صنع المدينة الفاضلة.

إن الله تعالى هو الرحمن الرحيم، وقد بدأت الآيات القرآنية بجملة (بسم الله الرحمن الرحيم)، وأكد تعالى في نصوص قرآنية كثيرة وردت في كتابه الحكيم، على منهج الرحمة، ليكون هو الفيصل في طبيعة التعاملات والعلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات بعضها مع بعض، حتى يسود السلام والوئام بين الناس.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة حول منهج الرحمة:

(الله هو الرّحمن، وهو الرّحيم، وقد أمر عباده بالعمل بمفهوم الرحمة في جميع مجالات الحياة، بل في أقسى الظروف وأشدّها، ومنها الحروب والنزاعات).

الرحمة هي منهج تربوي ركز عليه كتاب الله، ورسوله صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين عليهم السلام، وقد اعتاد المسلمون على هذا المنهج بصورة عملية وليست لفظية أو كلامية خالية من التطبيق، فالرسول الأكرم لم يبدأ أحدا بالحرب ولا القتال، على الرغم من كثرة الحروب التي حاولت أن تجهض الرسالة وتمنعها من تحقيق أهدافها.

لذا أكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا:

(الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وفي عشرات الحروب التي فُرضت عليه وخاضها بسبب نقض الأعداء لعهودهم ـ كان ورغم ذلك يأمر أتباعه من المسلمين بعدم البدء بالحرب والقتال مع المشركين والكفّار).

ومن ثم انتقل هذا الأسلوب الإنساني الأخلاقي في التعامل بين البشر، من عهد الرسول صلى الله عليه وآله، إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وإلى العترة الطاهرة من أئمة أهل البيت، ولو أننا أجرينا مقارنة بين ما دار ويدور في دول الظلم والاستبداد، بل وحتى في الدول التي تتبجح بالديمقراطية، لاكتشفنا استحالة تطبيق منهج الرحمة نفسه.

تعاليم تحمي كينونة الإنسان

وهذا دليل قاطع على أن الإسلام جاء بالتعاليم الإلهية التي تحمي كينونة الإنسان، وتوفر له الطمأنينة في العيش والسكن والعمل والتعامل، من خلال نشر منهج الرحمة بين الجميع.

إذ (إن الرحمة التي كانت عند أهل البيت عليهم السلام لا نظير لها في التأريخ وليست موجودة اليوم في قاموس الدول الاستبدادية ولا في قاموس الدول التي تدّعي الحرية والديمقراطية). كما أكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).

(لو راجعنا الأنظمة القديمة والحديثة لما وجدنا لهذه الرحمة نظيراً كما صنعه رسول الله وأهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين في كلّ مجالات حياتهم حتى في أشد الظروف وأحلكها، ومنها الحرب).

وكان الهدف ولا يزال وسيبقى هو صناعة المدينة الفاضلة، ونعني بها المدينة التي لا يُظلَم فيها أحد، ولا يُسفَك فيها دم الناس، ولا تُهدَر فيها الحقوق، ولا يتعرض الإنسان فيها إلى الإهانة والاحتقار والاستصغار، كما عانى ذلك الملايين من البشر في دول تقول إنها ديمقراطية، وفي دول معروف عنها بأنها استبدادية.

لدرجة أن هذا النوع من المدن الآمنة بات حلم الجميع، بل هو حلم السابقين والحاليين وحتى القادمين، نظرا لموجات العنف التي اجتاحت ولا تزال الكثير من الدول والمجتمعات التي لم تعرْ الرحمة أي اهتمام، ولم تؤمن بهذا المنهج، وكان ولا يزال ديدنها الحروب والعدوان والعنف وإزهاق الأرواح بعيدا عن منهج الرحمة.

الحقيقة يحدث هذا حتى في دول تتخذ من الإسلام دينا لها، وهذا يؤكد أن مثل هذه الدول لم تأخذ من منهج الرسول صلى الله عليه وآله ولا من أئمة أهل البيت عليهم السلام، أسوة، ولم تحاول ترسيخ هذا المنهج الرحيم في تعاملاتها وعلاقاتها.

لهذا السبب لو أجرينا مسحا إحصائيا دقيقا للحروب التي سجلها التاريخ، لوجدنا درجة العنف هائلة، وغياب الرحمة بشكل تام بين الأطراف المتحاربة كونها لم تطبق تعاليم الإسلام، ولا سارت على منهج أهل البيت في إطفاء جذوة الحرب ونشر الأمن والسلام والتراحم.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(من يتصفح أوراق تأريخ الحروب والمعارك التي جرت خارج دائرة الإسلام، وعلى غير منهج أهل البيت (صلوات الله عليهم) وأتباعهم، لا يجد للرحمة مكاناً بين هذه الحروب).

التأثير الكبير لمنهج الرحمة

لم يتعب الناس أنفسهم بما يكفي للبحث في منهج الرحمة كما طبقه المسلمون الأوائل، ولم يطلع كثير من المسلمين وغير المسلمين على المضامين العظيمة التي تقدمها الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث والروايات الشريفة التي تُظهر التأثير الكبير لمنهج الرحمة في حياة الناس كما كان معروفا وشائعا في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وفي عهود أهل البيت عليهم السلام.

كانت تعاليم الحرب تنص على شروط محددة لكيفية التعامل مع الأسير ومع رجل الطرف المقابل، فكان الرفق بالأسير من أوضح التعاليم، والتركيز على الرحمة كأسلوب تعامل مع الجميع بمن فيهم الأعداء، وهناك أمثلة ثبّتتها سجلات التاريخ الناصع، وأظهرت فيها النتائج الحية لمنهج أهل البيت عليهم السلام، وتركيزهم على الرحمة كأسلوب أوحد للتعامل بين الناس، سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو حتى دولا.

ولو أننا تفحصنا مضامين تلك الآيات الكريمة، والأحاديث والروايات الشريفة، وما أكدت عليه بخصوص أساليب التعامل والتراحم وأهميته في تعميق العلاقات الإنسانية بين الناس، لوجدنا أنها المنهج المثالي القادر على صناعة مدن فاضلة تحمي حقوق الجميع، وتجعلهم متآخين آمنين متراحمين بعيدا عن العنف والحروب والاستبداد ومظاهر الظلم والقمع.

لهذا يذكر سماحة المرجع الشيرازي دام ظله ويقول:

إن (القرآن والإسلام والرسول الأكرم والعترة الطاهرة (صلوات الله عليهم أجمعين) هم من مارسوا الرحمة في أفضل معانيها وأوسع مجالاتها. نعم إن الإسلام هو دين الرحمة ويدعو معتنقيه إلى التعامل برفق مع الآخرين حتى مع أسرى الأعداء! ومن يقرأ القرآن ويراجع الروايات ويستقرئ سيرة المعصومين، يرى أن هذه الرحمة بإمكانها أن تصنع عالماً مثالياً يعمّ فيه الخير والرفاه والراحة النفسية).

وكما ذكرنا آنفا، إن منهج الرحمة لا يخص علاقات الدول وحدها، ولا يتعلق بالجماعات الكبيرة فقط، وإنما يخص حتى الأفراد في داخل الأسرة الواحدة، أو زملاء العمل، أو حتى في الأسواق حيث يضطر الناس إلى التعامل مع الآخرين لمواصلة حياتهم.

فإذا غابت الرحمة عن العلاقات الأسرية، ماذا سيبقى من هذه الأسرة، وكيف سيعيش أفرادها، كذلك إذا غابت بين الجماعات أو الدول، أو غابت الرحمة عن التعاملات المختلفة في الأسواق أو العمل، فإنها لا شك سينتج عنها مشكلات لا أول لها ولا آخر.

بينما يقول سماحة المرجع الشيرازي: (إذا تبادلت الرحمة بين الناس، بين الزوج والزوجة وبين الوالِد وأبناءه، بين الحاكم والمحكوم، بين العائلة الواحدة والعشيرة الواحدة والمدينة والقرية الواحدة، لكنّا قد حصلنا على مدينة فاضلة يعيش فيها الجميع بأمن وسلام).

إذًا يستطيع بنو البشر أن يصنعوا المدن الفاضلة، ولكن وفق منهج الرحمة، حيث يكمن فيه أهم الأسباب التي تساعد الناس على التقارب والانسجام والتعاون فيما بينهم، فمن يكون رحيما مع الناس لابد أن يكونوا رحماء معه إلا ما ندر، وإذا كان منهجا وأسلوبا بحياة الناس، فإن هذه الحياة حتما سوف تكون آمنة بأسلوب ومنهج الرحمة واللين واللاعنف.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي