وهم المعرفة والتوازن المفقود

المسلم بين الاعتدال والتطرف (2)

مرتضى معاش

2023-01-18 07:33

تطرقنا سابقا إلى قضية الاعتدال والتطرف، وكيف يستطيع الإنسان المسلم أن يحقق الاعتدال في حياته، حيث طرحنا قضية التوازن وأهمية الميزان في حياة الإنسان، لاسيما المسلم حتى يستطيع أن يحقق ذلك الانسجام بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية.

فالجمال الكوني والانسجام التكويني يظهر في حياة الانسان عندما يتحقق الانسجام بين الإرادة الإنسانية والإرادة الإلهية، وذلك التكامل يحصل من خلال تحقيق التوازن، حيث بينا ذلك في نقطتين.

النقطة الأولى: حيث ورد في الآية القرآنية (ووضع الميزان)، وهذا يعني وجود مجموعة من المعايير والمقاييس التي لابد أن يلجأ إليها الإنسان، وتلجأ إليها المجتمعات من أجل تحقيق مسيرة صالحة وعمل صالح، وطريق مستقيم نحو تحقيق الغاية من الإنسانية وهي العبودية لله سبحانه وتعالى والعدالة الكونية، وتحقيق السعادة البشرية والازدهار البشري.

لنفترض عدم وجود معايير ولا توجد هناك قوانين، كيف يستطيع أن يعيش الإنسان بلا معايير؟، أيهما حق وأيهما باطل، أيهما صادق وأيهما كاذب، أيهما عدل وأيهما ظلم، لذلك لابد من وجود معايير تنظم هذه العلاقات المتناقضة، وقلنا بأن المعايير هي، الثقَلان (كتاب الله وعترتي أهل بيتي) والعقل والضمير والفطرة، التي تحدد المعايير التي لابد أن يسير الإنسان في ضوئها لتحقيق الانسجام بين القانون التكويني وبين الإرادة الإنسانية، ويتحقق ذلك الجمال والكمال والاستقرار والازدهار.

المعرفة الموهومة

النقطة الثانية: وهي فهم التوازن، وذلك عبر المعرفة، وإلا فإن الكثير من الاختلالات التي تحدث وخصوصا التطرف هو نتيجة لعدم معرفة كيفية خلق الإنسان للتوازن في حياته، وخلق المجتمعات للتوازن في بناء نسيجها وحركتها ومسيرتها، وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات؟، وكيفية تطبيق العدل؟، فالكثير من المشكلات والأزمات الموجودة في عالم اليوم، هي نتيجة للجهل أو للجهل المركب، أو ما يُطلَق عليه بـ (وهم المعرفة).

فهناك من هو جاهل لكنه يدّعي المعرفة أو لديه معرفة زائفة، أو وهمية أو منحرفة عن الطريق المستقيم، وهي معرفة منحرفة عن الغاية الإنسانية وعن غاية التوازن والانسجام بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية، فالمعرفة الحقّة تحقق جميع غايات الإنسان والمجتمعات البشرية.

ولكن كيف نفرِّق بين المعرفة والجهل؟، وكيف نعرف ان هذه قضية موهومة او انها حقيقية، فهناك الكثير من النظريات والأيديولوجيات التي تدعي المعرفة في عالم اليوم، وقد لاحظنا كيف انزلق البعض وراء هذه الأيديولوجيات، وتركوا القانون الإلهي، بحجة التقدم والتنوير والحداثة.

نظريات في البؤس والشقاء

أين أوصلت البشر هذه النظريات، كنظرية التطور لدارون، أو نظرية فرويد، أو النظريات الأخرى التي تقوم على تمجيد الإنسان خارج العبودية لله سبحانه وتعالى، وتمجيد الحقيقة النسبية، أو الأخلاق النسبية؟

كل هذه النظريات أوصلت العالم إلى مأزق كبير ممتلئ بالبؤس والشقاء والصراعات والنزاعات والحروب، لأن كل واحد من أصحاب هذه النظريات يفسر العالم حسب طريقته وحسب مزاجه، وحسب مصالحه الخاصة وحسب شهواته، (أنا أولا)، لكن هذه ليست معرف حقيقية، بل هي معرفة موهومة.

ولكن الحقيقة مطلقة، لابد للإنسان أن يعرف الحق من الباطل، وإذا قلنا أن الحق نسبي وأن الباطل نسبي، إذن فإن كل حقّ باطل وكل باطل حق، وهذه مشكلة كبيرة، بسبب غياب معايير التوازن، فهذا هو الاختلال الكبير والوباء الخفي، ولذا نلاحظ كيف يعيش العالم اليوم الأزمات، فلا فرق بين العالم الغني والعالم الفقير بالنسبة للأزمات التي تعصف بالبشر، الكل يعيشون هذه المشكلة، ولكن كيف نعرف الصحيح من الخطأ، إننا نعرف ذلك من خلال النتائج.

فما هي النتائج التي تبيّن لنا بأن هذه المعرفة حقيقية، أو أنها معرفة موهومة:

أولا: التعصّب الأعمى

ونقصد بذلك التعصب الأعمى حيث تتغيب الرؤية التعقّلية، وينتفي التفكير العميق والمحايد، فيكون هذا النوع من التفكير نابع من جهل أو من معرفة تدفعه للتصور بأنه هو الحق المطلق والآخرين على باطل، هذا هو التعصّب الذي لا يأتي من معرفة، وإنما يأتي من الجهل أو المعرفة الموهومة.

لذا فإن المتعصبين يولّدون المشاكل دائما، وإذا أكملنا بحث الاعتدال والتطرف، سوف نتناول التعصب الذي يعدّ قضية انفعالية نابعة من الغضب والانفعال، وعدم تحقيق الأهداف التي يريدها، فهو نابع من فشل في حياته ومن الخوف من الآخر، والتعصب هو من نتائج المعرفة الموهومة ومن نتائج الجهل.

فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) -لما سئل عن العصبية-: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم).

ثانيا: الاستبداد بالرأي

وهو من النتائج التي تتمخض عنها المعرفة الموهومة، حيث يجعل الإنسان المتعصب من رأيه رأيا مطلقا، ويستبد برأيه الذي يكون غير قابل للنقاش، فهناك شخص لديه استبداد في الرأي بشكل مباشر وواضح، فهو ينظر إلى رأيه بأنه الصحيح الأوحد، ولا يقبل الحوار، وإذا وافق على ذلك فإنه يدخل في جدال مضغوط، يولد مشكلات وأزمات وتشاحن.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (المستبد متهور في الخطاء والغلط).

ثالثا: الغرور والتكبّر

هناك من يغطي على استبداده في رأيه من خلال التضليل، لأن الاستبداد في الرأي نابع من مصلحة الإنسان الذاتية، وأهوائه، أو غروره أو تكبّره، الإنسان الذي لديه معرفة موهومة بسبب الغرور والتكبر والشعور الوهمي بالتفوّق.

فالإنسان المغرور أو العالِم المغرور بعلمه يشعر بنفسه بأنه متفوق على الآخرين دائما، وأن معرفته أفضل من غيره، لكن هذا الإنسان المغرور توجد لديه معرفة موهومة، لأن صاحب المعرفة الحقيقية المرتبطة بالواقع، لا يكون مغرورا وإنما هو متواضع، بل يكون في قمة التواضع، ويقول لا أدري.

فعن الإمام علي (عليه السلام): (قول "لا أعلم"، نصف العلم)، وعنه (عليه السلام): (لا يستحيي العالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا علم لي به)، فحينما يقول الإنسان (لا أدري) إنما هو تعبير عن التواضع الذي يحتاجه الإنسان، والتواضع يوصل إلى الإنسان إلى المعرفة، أما الغرور والتكبر والشعور بالتفوق فيوصل الإنسان إلى الجهل، وإلى المعرفة الموهومة. فعن الامام علي (عليه السلام): (مَنْ تَرَكَ قَوْلَ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ). وعنه (عليه السلام): (ما أعجب برأيه إلا جاهل).

رابعا: الخوف

هناك شخص يكون خائفا بشكل دائم، والخائف يكون جامدا، وساكنا، يخشى الحركة ويخاف من التغيير والتقدم، والعمل. فالخوف أحد نتائج عدم المعرفة.

عن الامام الصادق (عليه السلام): (من وصايا لقمان لابنه: يا بني، كن ذا قلبين قلب تخاف بالله خوفا لا يخالطه تفريط، وقلب ترجو به الله رجاء لا يخالطه تغرير).

خامسا: عدم إدراك العواقب والمخاطر

قد يدخل الإنسان في قضايا ومسائل ويقوم بتصرفات طائشة، وسلوكيات منحرفة، وتراه مرائي ومنافق، ويقوم بتحريض الناس نحو الحرب والتنازع والصراع، والأسباب التي تقف وراء تصرفاته هذه، يقوم بإيجاد التبريرات لها من أجل مصلحته وسلطته وشهواته، فيشحن الناس بالأفكار المضللة كما تفعل بعض الطوائف والفرِق التي تشحن الناس بأفكار مضلَّلة حتى تبقى الناس تدور حولها، هؤلاء بالنتيجة يقودون إلى عواقب خطرة وإلى انحرافات شديدة.

الإنسان الذي لا يدرك العواقب ولا يستشرف المخاطر، فهو أما يكون جاهلا أو لديه معرفة موهومة، أما الإنسان العالِم والعارف للحق، هو الذي ينظر دائما للعواقب، كما الإنسان الذي يخاف من عقاب الله سبحانه وتعالى لأنه يدرك المخاطر، فإذا انحرف الإنسان عن طريق الله سبحانه وتعالى سوف يسقط في الجحيم الدنيوي والعذاب الأخروي، لذلك يجب أن يدرك العواقب والمخاطر، فيتَّقي الله تعالى ويتورع عن معصيته وهذا هو معنى التقوى.

سادسا: تبرير الفساد وعدم الاصلاح

الإنسان غير المتحرك هو إنسان لا يدرك ولا يعرف كيفية الوصول إلى التوازن، فتراه جامدا بشكل دائم، ولا يفرق بين الفساد والإصلاح، هل يمكن أن نتصور بأن الإنسان الذي يدخل في جماعات الفساد ويرفض الإصلاح، ويبرر لنفسه وللآخرين أفعاله تبريرات دنيوية، ماذا يمكن أن نتصور عن مثل هذا الإنسان؟

(بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) القيامة 15، فهو يعرف بأن هذا العمل خاطئ، وأن الفساد من المعاصي والذنوب الكبيرة، ولكن من أجل أن يغطي على ضميره، فيخدع نفسه، ويخلق أو يصطنع بعض الأفكار حتى تكون مبررة له في ارتكاب المعاصي، كما نرى ذلك عند المذنب في قضية الرجاء، فيقول سوف يغفر لي الله في المستقبل، فأنا أرتكب الذنوب الآن، وفي المستقبل سوف يغفر لي الله سبحانه وتعالى، لكن هذا التبرير خطأ كبير وهو مدمِّر للإنسان، إذ لابد على كل إنسان أن يكون في برمجته الفكرية وداخل عقله أن لا يجعل التبرير وسيلة له للانحراف، ولابد أن يكون واضحا وصريحا مع نفسه حتى يستطيع أن يسير بطريقة مستقيمة.

فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (ارج الله رجاء لا يجرئك على معاصيه، وخف الله خوفا لا يؤيسك من رحمته).

نتائج وهم المعرفة

إن التبرير أمر خاطئ ولا يصح تبرير الفشل، ولا تبرير الفساد، ولا تبرير الجمود، ولا تبرير الجهل، لابد للإنسان أن يكون واضحا مع نفسه، لذلك فإن النتائج التي نلاحظها في وهم المعرفة أو توهّم المعرفة أو الجهل أو عدم المعرفة، هو الفساد وعدم الإصلاح، والفساد يعني اختلال التوازن، فسد بمعنى بات غير صالح، والفساد هو الخراب.

هذا يعنى إن كفة الميزان للشر رجَحت، وبالنتيجة اختلَّ الميزان بين الخير والشر وبين الحق والباطل، لذلك فإن الإنسان الفاسد أو الشرير يرفض الإصلاح، لأن الإصلاح طريق للتوازن، والإصلاح مهم في عملية الترميم لإعادة البناء والوصول إلى تحقيق الاستقرار في المجتمع حتى لا يكون الشر مسيطرا بل الحق هو المتمكن والمهيمن.

وعن الامام علي (عليه السلام): (حسب المرء من كمال المروة تركه ما لا يجمل به... ومن صلاحه شدة خوفه من ذنوبه).

سادسا: اندلاع النزاعات

وهي من نتائج وهم المعرفة، وغالبا نلاحظ أن الذي يتنازع ويتصارع مع الآخرين هو إنسان في قمة الجهل، لأن النزاع والصراع ليس فيهما أية فائدة، فالناس الذين لديهم مشاكل في البيت، أسرية أو زوجية أو عشائرية، أو اجتماعية، يتلبسهم العناد والغرور والتكبر والإصرار على المطالب الخاصة وعدم التنازل وعدم التزام الوسطية في التعاطي مع الأمور المختلفة، وعدم تحقيق التوزان بين الحقوق، والاستغراق في نزاعات استنزافية مستمرة ومدمرة، دون أي مبالاة بالنتائج المتمخضة عنها، وهو تعبير عن سيرة الجهل والمعرفة الموهومة في ثنايا حياتهم.

أما الإنسان الذي يمتلك المعرفة، فإنه يبتعد عن النزاعات، ليحقق التوازن في حياته، من خلال المعرفة بالمعايير، وإدراك فن التوازن، مثلا ضياع الحقوق الذي يحدث فيما بين الناس هو تعبير عن الجهل المتراكم، فكيف يمكن لمجتمع تضيع فيه الحقوق يكون متوازنا، بل مختلّا، وفيه تفاوت شديد بين الطبقات وبين فئات الناس، أحدهم غني جدا، والآخر فقير جدا، أحدهم يمتلك كل شيء والآخر لا يملك أيّ شيء.

كيف يتحقّق الاستقرار الاجتماعي؟

هذا الاختلال الذي يحصل في ضياع الحقوق يؤدي بالنتيجة إلى اختلال اجتماعي كبير، فضياع الحقوق يعني تبديد التوازنات الحاسمة، فليس بمسلم من بات شبعانا وجاره جائع.

لذلك لابد أن يكون هناك توازن بين الناس، حتى يتحقق الاستقرار الاجتماعي، التوازن في الحقوق، فكما أنت تدافع عن حقك يجب أن تدافع عن حقوق الآخرين أيضا، فكلنا لدينا حقوق، كما ذكرنا سابقا في قضية الحقوق عند الإمام علي (عليه السلام)، فـ (الكل للكل)، كل الحقوق لكل الناس، حتى يتحقق التوازن الاجتماعي ويتحقق الانسجام ويتحقق ذلك الاستقرار المطلوب في المجتمع.

من خلال هذه النقاط في أعلاه، نفهم كيف نحصل على المعرفة الحقة، وكيف نميزها عن المعرفة الزائفة، وكيف يمكن لهذه المعرفة أن تحقق عملية بناء التوازن أو فهم كيفية تحقيقه، علما ان المعرفة، لا تعني أن الإنسان يقرأ الكتب ويطالعها فقط، وإنما المعرفة في نتيجتها هو الفهم.

فحينما تذهب إلى طبيب ما، فإن هذا الطبيب متعلّم، وهو داخل في كلية الطب ودارس لهذا العلم، ولكن قد يكون غير فاهم للطب، لذلك لا يستطيع تشخيص الأمراض بصورة دقيقة، لكن حين تذهب إلى طبيب آخر، فهو تعلّم ودرس الطب ولديه خبرة بهذا العلم، ومعرفته فيها فهم، لذلك يمكنه أن يشخّص المرض وأسبابه وقضاياه ومسائله، هذا الطبيب عنده فهم لما درسه عن علم الطب.

العلاقة بين الفهم والمعرفة

فالمعرفة المنتجة ينطلق منها الفهم، الفهم الذي يجعله ناجحا في حياته الأسرية والاجتماعية، ويعرف كيف يعيش وكيف يأكل وكيف يربي اطفاله، وكيف يعيش سعيدا.

عندما يمرض الإنسان اليوم، فالمرض الذي يصيبه ينتج عن اختلال في التوازن الداخلي للجسم، وسبب هذا الاختلال الداخلي في الجسم، إن الإنسان لا يفهم كيف يتصرف مع جسمه، فيأكل كل شيء، ويدخّن السجائر، ويتناول اللحوم بكثرة، ويتخِم بطنه، وبالنتيجة هناك عدم معرفة بالتوازن والاعتدال الذي يحتاجه، حيث يجب أن يأكل الطعام حسب حاجته، لا حسب رغبته.

النقطة الثالثة: إيجاد التوافق بين الحاجات والرغبات

نحن ننطلق من النقطة الثانية في نهايتها، حول فهم الإنسان للمعرفة بين الحاجات والرغبات، مثلا فيما يتعلق بجسم الإنسان، أو في غايات الإنسان، أو في تطلعاته.

فهذا التوافق الذي يصنعه الإنسان بين حاجاته ورغباته، يعبرُ بالنتيجة عن قضية إيجاد التوازن الذي يحتاجه الإنسان، فمثلا لو أن الإنسان ليس لديه التوافق بين حاجاته ورغباته، فإن الحاجات هي حقيقية، لكن الرغبات هي محض أوهام تتبع الشهوات التي تكون بطبيعتها جامحة نابعة من غريزة عمياء.

معرفة إدارة الشهوات

مثل الإنسان الجائع تدفعه شهوة الطعام إلى تناول الطعام بسبب حاجته، ولكن هذه الشهوة إذا أصبحت جامحة ومدمِّرة إذا لم تقف عند حدود التوازن والاعتدال، لذلك فإن الإنسان الذي يحقق التوافق بين الحاجات والرغبات، سوف يجعل شهواته تحت إدارة حاجاته، أي ان حاجاته تتحكم بشهواته من خلال فهمه وتعقّله، فتصبح الشهوة طبيعية معتدلة وغير جامحة، بل تغنيه بالسعادة واللذة.

وَعن الامام علي (عليه السلام): (يَا أَسْرَى الرَّغْبَةِ أَقْصِرُوا... تَوَلَّوْا مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَأْدِيبَهَا وَاعْدِلُوا بِهَا عَنْ ضَرَاوَةِ عَادَاتِهَا).

فالتوافق بين الحاجات والرغبات يخلق التوازن، وعدم التوافق بين الحاجات والرغبات يؤدي إلى الاختلال، وإلى الفوضى وعدم الاستقرار عند الإنسان.

وعن الامام علي (عليه السلام): (وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ، وَالرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ وَمَطِيَّةُ التَّعَبِ).

النقطة الرابعة: بناء القدرة على إدارة السلوك الناعم

السلوك الناعم، يقابله السلوك الخشن، والسلوك الناعم يعبّر عن إدراك الإنسان وتعقّله، والسلوك الخشن يعبر عن انفعال الإنسان وغضبه حيث تتحكم به انفعالاته النفسية الذاتية، فتكون خارج تحكّم العقل.

لذلك فإن إدارة السلوك الناعم تعبّر عن امتلاك الإنسان القدرة على إدارة سلوكه واحتواء سلوكه، وهذا سوف يحقق التوازن في حياته ويستطيع هذا الإنسان أن يتحكم في غضبه.

وَقَالَ الامام علي (عليه السلام) فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِ: (الْمُؤْمِنُ بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ وَحُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ أَوْسَعُ شَيْ‏ءٍ صَدْراً وَأَذَلُّ شَيْ‏ءٍ نَفْساً يَكْرَهُ الرِّفْعَةَ وَيَشْنَأُ السُّمْعَةَ طَوِيلٌ غَمُّهُ بَعِيدٌ هَمُّهُ كَثِيرٌ صَمْتُهُ مَشْغُولٌ وَقْتُهُ شَكُورٌ صَبُورٌ مَغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ ضَنِينٌ بِخَلَّتِهِ سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ نَفْسُهُ أَصْلَبُ مِنَ الصَّلْدِ وَهُوَ أَذَلُّ مِنَ الْعَبْدِ).

أما الشيء الذي يقابل الغضب فهو الحلم، والحلم هو حفظ التوازن عند الإنسان، وممارسة السلوك الناعم.

وعن الامام علي (عليه السلام): (وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً)، فالتوازن يتحقق من خلال السلوك الناعم، والسلوك النابع من التفكّر والتعقّل والفهم وإدراك العواقب، ومعرفة العواقب التي يمكن أن تؤدي بالإنسان إلى الصدام والانهيار.

النقطة الخامسة: الفوضى والمغامرة

الفوضى والمغامرة المنفلتة والتمرد على النظام، تعبير عن عدم إرادة التوازن وبوادر ظهور التطرف عند الإنسان، فعندما يختار الإنسان طريقه في الحياة، ماذا سيختار؟

هل يمكن أن تتصور أن لديك مدينتان، مدينة فيها نظام وانتظام وفيها قوانين تدير الحركة فيها، ولديك مدينة أخرى فيها فوضى وتفتقر للنظام، فهل تختار المدينة الأولى أم تختار المدينة الثانية؟

لابد أنك ستختار المدينة الأولى، وحين تذهب لتشتري بيتا تسكنه أنت وعائلتك، فسوف تبحث حسب إمكاناتك عن بيت فيه استقرار وفيه نظام وأمان، وجيرانك منتظمين، وأخلاقهم جيدة، لذلك يختار الإنسان التوازن في حياته دائما، وعدم الذهاب وراء الفوضى والمغامرة المنفلتة.

لأن الإنسان إذا دخل المغامرة المنفلتة والجامحة، يدخل في الفوضى ويتمرد على النظام من باب تبرير طبيعة شخصيته، فيقول هذه شخصيتي أتصرف هكذا حتى أجد نفسي، مثل هذا الإنسان يخلق الاختلال من الفوضى والتمرد والتلاعب والتمادي في المغامرات غير المحسوبة

بالنتيجة هذا كله يعبر عن عبث الإنسان الفوضوي، الذي يرى فيه بعض الشباب بأنه حالة وجودية، للتعبير عن رفض المجتمع بالعيش بلا توازن واعتدال، لكن هذا النوع من التفكير غير سليم، فالإنسان المتوازن هو الذي يبحث عن النظام، وعن التعقّل وايجاد التوازن في حياته، ولا يهرب نحو المغامرات الجامحة أو الفوضى المنفلتة.

في مقالاتنا القادمة سوف نكمل النقاط المتبقية، حول كيفية إيجاد التوازن وكيف نعرفه وكيف نفهمه، من أجل الوصول إلى بناء شخصية المسلم المعتدل في حياتنا.

وللبحث تتمة...

* سلسلة محاضرات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

ذات صلة

الإمام علي عليه السلام وتحجيم الجبروت والطغيانعلى حكومة السيد السوداني ان تكون أكثر حذراالمطلوب فهم القرآن بشكل جديد!مَعرَكَةُ بَدر هِيَ يَومُ الفُرقَانِ العَظِيمِ حَقَاًتعلم ثقافة السؤال بداية التعليم