الإمام السجاد (ع) وإمكانيات الارتقاء
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ
2020-09-17 07:48
الارتقاء مفردة تعني الصعود وعلوّ الشأن والمكانة والدرجة، وهو هدف كبير يقصده ويسعى إليه عظماء البشر، ويحق للجميع السعي إلى نيل هذا الشرف، وهو حلْية يتمنى الناس الوصول إليها، لكن المصاعب التي تواجههم جمة، ومن الصعب تجاوزها ما لم يكن الإنسان مستعدا ومصمما على الارتقاء إلى درجات أعلى.
مما يُحسَب لصالح قدرات الإنسان، أنه يمتلك إمكانية الارتقاء بكل دام، شريطة أن يكون من القادرين على توظيف طاقاتهم ومواهبهم لتحقيق الارتقاء، وليس هناك درجة أو مرتبة محددة، فسقف التنافس ليس له حدود، وكلما بلغ الناس مرتبة أعلى من الارتقاء، تبقى هناك مرتبة أعلى وأعلى.
في محاضرة قيّمة لسماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول:
(ورد عن الإمام السجاد (ع) في دعاء مكارم الأخلاق أنه قال: (اللهمّ صل على محمد وآله، وحَلِّني بحلية الصالحين وألبسْني زينة المتقين...).
فلماذا يدعو إمامنا (ع) وهو إمام معصوم هذا الدعاء، أليس هذا دليلا على عَظمة هذا الهدف الذي ينشده الإمام المعصوم، ثم ماذا عن الإنسان وهو غير معصوم، كيف يمكنه أن ينال حلية الصالحين؟، وهل هناك إمكانية لدى الإنسان بالحصول على الحلية التي يجب أن يتحلى بها الناس الصالحون؟، وهل تعني الحلية عند الناس هدفا معينا يصلونه أو يحصلون عليه؟
تختلف تطلعات الناس ومطامحهم باختلاف درجة إيمانهم ووعيهم، ومدى فهمهم للدنيا وإيمانهم بأنها محطة اختبار لا أكثر، فأما النجاح والعبور بسلام ومسعى جاد وارتقاء محمود، وأما فشل في مواجهة مغريات الدنيا وهي كثيرة، تبدأ بالمال وقد لا تنتهي بالسلطة والجاه.
هنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (بِمَ يتحلّ الصالحون؟ وما الذي يعتبرونه حلْيةً وزينة لهم؟) ثم يجيب سماحته:
(إنّ حلية الصالحين هي مجموعة الفضائل والمكارم النفسية والجسدية الدنيوية والأخروية، لكن بعض الناس يعتبر المال حلية له ليُنادَى بالمليونير وهو ليس من الصالحين، لأن الصالحين لا يعتبرون المال حلية، بل هو وسيلة وليس حلية، وبعضهم يعتبر السلطة والمنصب حلية له).
الانسياق وراء السلطة والمال
هكذا يمكن أن ينظر بعض الناس إلى الحلْية، فمنهم من يقع في الفخ سريعا، متذلّلا لمغريات المناصب والأموال، والخضوع لنزعة الشر في أنفسهم، فهناك من ينسى أصوله، ويتنكّر لجذوره وينساق وراء السلطة، فيسقط في الامتحان، ولا يمكنه الارتقاء إلى مراتب أعلى، بل هناك من يفشل في الثبات عند المرتبة التي وصلها.
على عكس مؤمنين آخرين، لا يمكن وصفهم إلا بالوصف الذي يليق بهم ويستحقونه لأنهم صالحون، لم يتمكن المال ولا السلطة ولا الجاه ولا أنواع النفوذ من سحبهم إلى حافة الشر، بل ظلّوا مخلصين لمكارم الأخلاق، مؤمنين بأن حلية الصالحين تعني أن المال وزالمقام العالي لا يعني شيئا لهم، فإن كانوا أغنياء أو فقراء، مقامهم الوظيفي عالٍ أو غير ذلك، فهذا لا يعني لهم شيئا، والأمران عندهم سيان، سواءً كانوا من هؤلاء أو أولئك، كلاهما لا يعني لهم شيئا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إن الصالحين لا فرق عندهم بين المال والمقام العالي وبين عدمهما لأنهم يعملون لأجل غرض وهدف نبيل يتعدى حدود المقام والمال، ولذلك اعتبروا من الصالحين، وإلاّ كانوا من أصحاب المال أو الجاه فقط).
لذلك بقيَ الإمام السجاد عليه السلام طيلة سنوات عمره من الطالبين للارتقاء، على الرغم من أنه إمام معصوم، وما دعاء الإمام السجاد وإلحاحه في التماس وتذرّع وخشوع تلك المكارم من فيض الرب الكريم، إلا درس للناس جميعا، بأنهم مطالبون بمثل هذا الدعاء، وأنهم أحوج إليه درءاً لأدوات الشر والمغريات الشيطانية التي تتربص بهم، لاسيما أن الإنسان كلما ارتقى وظيفيا واجتماعيا وسلطويا، تكالبت عليه المغريات من كل حدب وصوب.
فأما يردعها بالتطلع الدائم نحو الارتقاء في التقوى، والالتماس الدائم للحصول على حلية الصالحين، وأما التراجع أمام المغريات والسقوط فيها، لذا كلما أصبح الإنسان في منصب أعلى وأقوى وأكثر مالا، صار لزاما عليه أن يتّخذ من دعاء الإمام السجاد درسا له، كي يرتقي في مكارم الأخلاق.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (في مورد دعاء الإمام السجاد (ع) وهو يطلب من المولى عز وجل تلك المكارم والفضائل، بالتماسٍ وخشوعٍ واضح فهو لأجل الارتقاء من درجة إلى أخرى أعلى وأجلّ).
كلنا مطالبون بالارتقاء إلى أعلى
لذلك يبقى هذا الهدف ذا تطلّع فرديّ، أي أن كل فرد مطالَب بالارتقاء والتدرّج أعلى فأعلى، لاسيما أن عائدية هذا السعي تبقى مسجَّلة له شخصيا، ولا تُحسَب لغيره، لأنَّ (سعي الإنسان هو في الحقيقة تدرج في مراتب حلية الصالحين، ولا يُنسب هذا السعي لفرد آخر، وإنما هو محفوظ للساعي نفسه. وفي الآية الكريمة (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض...). سورة القصص: الآية 83.
في حين هناك أناس تغريهم الدنيا بحد ذاتها كحلية، وتأخذهم في أحضانها، وتمنحهم مغرياتها التي لا تُحصى، فينسون بأن الحلية هي وسيلتهم لسعادة لآخرة، وأنها سبيلهم إلى تنظيف النفس من أدرانها وليس العكس، فمن: (أراد أن يترفع في الدنيا كحلية وليست كوسيلة للآخرة أو الصلاح في النفس والبدن مع الشؤون المرتبطة بهما من العائلة والمجتمع والحكم والمكارم، فليس هو من الارتفاع والارتقاء وإن كثر ماله أو سلطانه)، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).
الارتقاء الذي يحتاجه الفرد كي يحمي نفسه من الانزلاق في شيطنة الدنيا، يحتاجه الجمع أو المجتمع برمته، فإذا كان الناس مدركين بأن الارتقاء سبيلهم نحو حياة أفضل، وآخرة أسعد، فما عليهم سوى صنع الثقافة والوعي والسلوك، ثلاثية تقودهم إلى مصاف الأمم المطمئنة المؤمنة المستقرة المتقدمة.
كل هذا يتعلق بالفرد أولا، الفرد الذي يدرك أن الارتقاء لا حدود له، وأن حلية الصالحين هي التي تقوده إلى مراتب أعلى من الارتقاء في التقوى ومكارم الأخلاق، وأنه كلما تقدّم في ذلك فإن انعكاساته سوف تظهر في عموم شرائح المجتمع، وأننا سوف نكون في طريقنا إلى قمة الارتقاء الذي ظلّ ينشده الإمام الصادق عليه السلام حتى آخر لحظة من حياته.
علينا أن نتخيل الإنسان عندما يكون في وعي تام للارتقاء في التقوى والأخلاق وبقية القيم الأخرى، كيف سيكون سلوكه، وما هي درجة تأثيره في إصلاح الآخرين، أليس هذا النوع من الناس يمثلون النماذج الأخلاقية الواقعية القادرة على تغيير أمة بأكملها، ومجتمعا برمّته؟؟
نعم هؤلاء هم الذي باستطاعتهم إنقاذ المجتمع من مغريات السلطة والمال والجاه الفارغ، لأنه لا يملأ سوى النفوس والشخصيات الفارغة، لهذا علينا كأفراد وكأمة، أن نسير في خط الإمام السجاد ونمضي في طريق الارتقاء، بعد السعي والمثابرة للظَّفر بحلية الصالحين التي لا تحدها حدود مهما ارتقى فيها الإنسان.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (إن حلية الصالحين مقام واسع جداً، وله درجات كثيرة بعضها فوق بعض وبعضها أكبر من بعض، ومهما جاهد الإنسان وصمّم وثابر من أجل تحصيلها وبلوغ كمالها، يبقى هناك مجال أعلى وأرفع).
إمكانيات الارتقاء عبارة عن فضاء مفتوح أمام الجميع، هكذا يمكن أن نفهم دعاء الإمام السجاد عليه السلام، وهذا هو ما تعنيه معاني حلية الصالحين، إنها بتعبير واضح وبسيط مواصلة حالة الارتقاء للفرد والمجتمع، وهناك شروط أهمها أن يتصدى الإنسان لمغريات الدنيا (المال، الجاه، السلطة)، وأن يتعامل معها بالطرق المشروعة، وينأى بنفسه عن الانحراف بكل أشكاله.