مكابدات الصائم في حفظ الجوارح

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ

2020-05-07 04:39

الصيام بالمختصر المفيد، هو أن يتوقف الإنسان عن (الشر) بكل أنواعه، والمقصود بالشر هنا ليس اللفظي أو الفكري أو النفسي أو المعنوي فقط، بل حتى الشر المادي يجب أن ينتهي في هذا الشهر الكريم، فقد يصوم الإنسان عن الطعام والماء، لكنه لا يصوم عن اغتياب الآخرين، وتجد لسانه يشهّر بالآخرين ويشوّه سمعتهم، ويحط من قيمتهم، ويلحق بهم التهم الزائفة زورا وبهتانا!

فماذا ينفع الصائم عن الطعام والشراب صيامه، القضية ليست متوقفة على تناول الأكل أو الشرب، إنها أكبر من ذلك بكثير، فالصوم هو عملية مادية معنوية إيمانية تختلط بها الإرادة المادية والمعنوية، ويُختبَر فيها الإنسان بمدى قدرته على تجاوز الأخطاء المادية واللفظية وسواها، باختصار الإنسان الصائم مطلوب منه أن يكون نظيفا من جميع الأدران.

في هذه الحالة، وحين ينجح في الصيام عن جوارحه كافة، سوف يحصل على درجة الصائم التي تؤهله للحصول على الجزاء المنتظَر الذي يليق بالمؤمنين الخلّص لربهم ولقلوبهم ولأنفسهم، فالصيام أولا وأخيرا هو صوم (الجوارح)، الحواس بمختلف مهماتها، كالنظر الذي يجب أن يُغَضّ، والسمع الذي لا يسيء للنيّة، واللسان الذي يحفظ كرامات الناس ومكانتهم، واليد التي تبقى مغلولة عن ارتكاب الحماقات بأنواعها.

في هذه الحالة يكون الصوم قد أدى المهمة التي أوكلت له، بحيث يمكن أن يتحول الصائم وفق شروط الصوم الصحيحة، إلى إنسان مكتمل وخالٍ من شوائب حواسه وجوارحه كلّها، وسوف يفوز بنتيجة طيبة تتكافأ مع صراعه العظيم مع نفسه وحواسه دون هوادة حتى حقق الانتصار عليها.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول عن صوم الصائم في إحدى محاضراته القيمة:

(ورد في رواية عن مولاتنا فاطمة الزهراء سلام الله علیها: ما یصنع الصائم بصیامه إذا لم یصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه؟).

بمعنى ليست هنالك فائدة من الصوم إذا لم يردع صاحبه ويكبح حواسه وجوارحه عن ارتكاب الأخطاء، وهذا يعني أننا أمام بناء منظومة قيم أخلاقية قادرة على تنظيم العلاقات الاجتماعية والتعاملات المختلفة بين الناس، فالهدف من الصوم عنا ليس مظهريا أو شكليا، ولا نصوم لكي نتبجح أمام الآخرين بصومنا، الصوم هنا بناء أخلاقي، والنهوض بقيم قادرة على إنقاذ المجتمع من الانحدار إلى الهاوية.

نعم هناك هدف روحي وإيماني يبتغيه الصيام، ولكن النتيجة النهائية هي بناء المجتمع، وتنظيم التعاملات والعلاقات الاجتماعية والعملية المختلفة، وفق منظومة قيم تقوم على العدل والعفو والتعاون والصدق والأمانة والإنصاف وكل القيم التي ترتقي بقيمة الإنسان والمجتمع.

لذلك يكرر سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قوله:

(ما ينفع الصيام إذا لم يصن الصائم لسانه وسمعه وبصره وجوارحه، فلابد من السعي لصون جميع الأعضاء والجوارح أيضاً).

مكاسب التزام الصائم بشروط الصوم

وعلينا أن نتصوّر النتائج التي تأتي بعد التزام الإنسان بشروط الصوم، فمثلا من شروط الصوم أن يسيطر الإنسان على لسانه، ويمنعه من إطلاق الكلمات والأخبار والأحاديث والحكايات المفبركة التي تسيء للناس وتشوه سمعتهم، فإذا أطلق الإنسان للسانه العنان دونما ضوابط أو كوابح، فإننا سوف نكون أمام طوفان من المشاكل التي لا حصر لها ولا عدد.

الحال نفسه ينطبق على حاسة السمع، وهو شرط من شروط الصيام على الصائم، فهو ليس حرا في سمعهِ، لأن الخطأ في المسموع سوف يلوث روح الإنسان وقلبه، وبالتالي لا يتورع عن ارتكاب الحماقات والإساءات، لذلك من غير المسموح للصائم أن يتورط بسمع ما لا يحمد عقباه، هو مسؤول عن حفظ حاسة السمع والسيطرة عليها حتى لا تكون وسيلة لتلويث الروح والقلب.

حاسة البصر هي الأخرى يجب أن تكون تحت مجهر المراقبة، فالعين يجب أن لا تمتلك حرية الإبصار كما تشتهي النفس، لأنها في هذه الحالة سوف تبطل الصوم، وبالتالي سوف نكون أما صوم ناقص، وأمام إنسان لم يستطع السيطرة على حاسة البصر.

النتيجة هي ارتكاب ذنوب تنتهي بالإنسان إلى مزالق كثيرة، تقوده في آخر المطاف إلى سلسلة من المشكلات مع الآخرين، نحن هنا نتحدث عن الإبصار الخاطئ بالطبع، ذلك الإبصار الذي يجب أن يغضّهُ صاحبه، حتى لا يفسد القلب والروح ولا يؤذي عقل الإنسان، بالنتيجة سوف نكون أمام ناس مهذارين مثرثرين مغتابين تختلط عليهم حواسهم وتجتمع فيهم أخطاء العين والسمع والكلام.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(لابد للصائم من ترك محرمات اللسان كالكذب والتهمة والنميمة وإيذاء الآخرين باللسان، فحفظ اللسان عن المحرمات و المكروهات مهم، وكذلك السمع والبصر، والجوارح).

قد يواجه الصائم مصاعب جمة في حفظ صومه، وإبعاده عن الفشل في الصوم، يحدث هذا غالبا في بدايات الصوم، حيث يتغير المسار اليومي لحياة الإنسان، ولكن مع الوقت سوف يتغلب الصائم على مصاعبه، مع إصراره على تجنب الضعف، والخنوع للنفس، والانصياع للشياطين (المغلولة) في هذا الشهر، لكن هناك بعض الضعفاء هو من يدعو الشيطان إليه ويغريه عليه.

الدنيا قاعة اختبار للإنسان

أما من يستثمر تكبيل الشياطين، ويبتعد بنفسه عن المغريات الكثيرة، فإنه سوف يعبر هذا الشهر بنجاح، وسوف يحصل على درجة كبيرة، وجزاء يستحقه، يتأتى من السيطرة على الجوارح كافة ورفض المكروهات كافة، الهدف من ذلك هو تغيير نمط الحياة، وتحسين منظومة السلوك، وصنع مجتمع راق، بقيم راقية تؤهله لأن يقف بين المجتمعات المتقدمة بجدارة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(حفظ الجوارح عن المحرمات والامتناع عن المكروهات، يجعل الصوم ذا مرتبة رفيعة، وهذا الأمر قد يكون صعباً في بدايته، ولكن عندما ينتهي شهر رمضان، يحصل الإنسان على درجة عالية ومرتبة رفيعة).

إنه نوع من اختبار قدرة الإنسان في السيطرة على نفسه، وهذا هو ديدن الحياة، فالدنيا ما هي إلا قاعة امتحان، يدخلها الإنسان كما يدخلها طالب الدراسة، فإما النجاح وهو من حق المجتهدين الأذكياء الصابرين، وأما الفشل (لا سمح الله)، وهو من حصة الضعفاء الكسالى المستسلمين لشهواتهم وأهواء أنفسهم.

هؤلاء لا يصلحون أن يكونوا نواة لبناء مجتمع قوي وناجح، فضعفاء النفوس غير جديرين بهذه المهمة، ومن لا ينجح في حفظ صومه وجوارحه، لا يكون مؤهلا كلبنة أولى لبناء مجتمع متقدم، فالمتقدمون هم أصحاب النفوس القوية النقية الصالحة، لذلك علينا أن نعبر امتحان قاعة الدنيا بنجاح، والأخير لا يتحقق إلا لمن يستحقه بجدارة واستحقاق.

لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أن:

(الدنيا دار الابتلاء والامتحان، ولا يحصل مثل هذه العقوبات الدنيوية على ارتكاب المحرمات غالباً، وإن كان كذلك، لترك جميع الناس المحرمات، ولكن الله يريد ان يمتحن الإنسان، حتى يترك المحرمات باختياره).

ولا يتوقف الصيام على الحواس غير المادية كالسمع مثلا، أو الشم، بل يمتد إلى اليد التي يجب أن تتوقف عن السرقة، وتمتنع عن إلحاق الأذى المادي بالآخرين كالضرب مثلا، والاعتداء على الآخرين.

هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:

(يجب على اليد ترك ما حرم عليها، من السرقة، والظلم بالآخرين، والتعدي).

وهكذا نحن أمام مكابدات كبيرة، يتحملها الصائم حتى يصل إلى نتائج تستحق هذه المكابدة الشاقة، وقد يكون الامتناع عن الطعام والشراب أبسطها وأسهلها، فالسيطرة على النفس والحواس أكثر مشقة وصعوبة، لكن كل شروط الصوم ممكنة إذا كان الإنسان مستعدا لهذا الشهر بإيمان وثقة ورؤية متفائلة بالخيرات القادمة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي