كيف نصون سيادة العراق واستقلاله؟

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ

2020-01-09 08:44

مضت قرابة 17 سنة على انتقال العراق من النظام الدكتاتوري إلى النظام البرلماني الديمقراطي، وكان متوقَّعا أن تُبنى دولةً قوية ذات سيادة غير قابلة للمساس من أية دولة أخرى، سواءً كانت إقليمية أو دولية، ولكن مع مرور الوقت تصاعدت مؤشرات التجاوز على السيادة العراقية، ولم تستطع الطبقة السياسية من بناء نظام سياسي متين يدير السلطة والعلاقات الدولية وفق قواعد ثابتة تضمن للعراق والعراقيين تكافؤ في العلاقات بما يحفظ ويحمي مصالح الدولة.

خلل تذبذب السيادة ظلَ شاهدا على هشاشة النظام السياسي، والأسباب معروفة للمتابعين والمحللين، فتقديم مصالح الأحزاب والكتل السياسية مصالحها على مصالح الدولة والشعب، هو الذي سمح بانتهاك سيادة الدولة، ولم يظهر رجل دولة، كما أننا لم نحصل على أحزاب سياسية قوية تفضّل مصالح الشعب على مصالحها، على الرغم من وجود أحزاب عريقة قارعت النظام الدكتاتوري في حقبة القمع، وأسهمت في تخليص العراقيين من الجبروت السلطوي القمعي الذي أحالَ حياة العراقيين إلى جحيم.

مهمة انتشال العراق من مأزق هشاشة الدولة ومؤسساتها والنظام السياسي برمته، يقع على عاتق القادة أولا، وفي مقدمتهم القادة السياسيين، وكل قادة النخب الأخرى، فالجميع مسؤول عن تخليص العراق من تلك الهشاشة التي بدأت مع بداية النظام الجديد، وكان من المؤمَّل أن يتخلص النظام السياسي من هشاشته مع توالي السنين، لكنّ الذي حصل هو ضعف متصاعد ومتنامي من حكومة إلى أخرى والأسباب كما ذكرنا معروفة للجميع، حتى لأبسط العقول.

لا يستثنى الشعب العراقي من مسؤولية إبعاد شبح الهشاشة والضعف عن الدولة ونظامها السياسية، نعم المسؤول الأول هو الطبقة السياسية، ويليها من هم أكثر وعيا وقدرات، كالمؤسسة الجامعية والمفكرين ورجال الدين والمثقفين وغيرهم.

لكن هذا لا يعني إعفاء عامة الشعب من مسؤولياته عن المساعدة في إنقاذ العراق من أمراض هشاشة الدولة ومؤسساتها ونظامها السياسي، ولكن يبقى المسؤول الأول هو الساسة والقادة على وجه الخصوص، الذين لم يسهموا في تعويض العراقيين عمّا عانوه من حرمان وقمع وإفقار، جعل من حياة العراقيين في ظل الحكم الدكتاتوري شبه خاوية يملؤها الحرمان والفقر والظلم.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيمة:

(إنّ الشعب العراقي اليوم لا يستحقّ الوضع الموجود حالياً، والكلّ مسؤول، كلّ بمقداره، وفي إطاره، في انتشال هذا الشعب الذي كان قرابة قرن تحت المطرقة وتحت المظالم).

متى يفكّر السياسيون بمصالح العراق؟

ولذلك ليس هنالك أي سبيل أخر غير التعامل المختلف في الإطار السياسي، وهذا لن يتحقق ما لم تبدأ الأحزاب والكتل وعموم الطبقة السياسية بالتفكير جدّيا في تغيير قواعد اللعبة فيما بين العاملين في إدارة السلطة، بما يحقق تغييرا نوعيا في النظام السياسي.

ومن أوائل هذه القواعد، وضع مصلحة العراق والسيادة العراقية ومصلحة الشعب العراقي فوق مصالح الجميع، وخصوصا الأحزاب والكتل التي لا تفكّر ببناء دولة مؤسسات قوية، فما وصل إليه العراق اليوم في ظل الصراعات الإقليمية والدولية، لم يعد في صالح حتى الأحزاب والكتل نفسها فضلا عن إساءته الهائلة لسيادة الدولة وللشعب العراقي.

المطلوب من القادة ومن أهل الفكر، وخصوصا قادة النخب، أن يبدأوا في مرحلة جديدة، ويتركون ما مضى من أخطاء كبيرة خلف ظهورهم، والتفكير جديّا بمصلحة العراق التي يجب أن تكون في مقدمة الأهداف، لأن انتشال العراق مما يمر به من مصاعب هائلة بات أمرا يتصدّر كل التخطيطات والأهداف الأخرى، فلابد أن يتم التصدي لانحدار العراق وإيقاف التهور السيادي الذي يعاني منه، والذي يتسبب في كل المشكلات التي يعاني منها العراقيون.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(على أهل الشيم، وأهل الفكر، وأهل العزيمة أن يتعاضد بعضهم مع بعض، بالمقدار الممكن ولا أقول مئة بالمئة لأنه قد يصعب هذا الشيء، حتى يوفّقوا في انتشال العراق مما هو فيه الآن).

ليس هناك أعذار لحكومة العراق، أو لساسته، ولا حتى لمفكريه ومثقفيه، فمهمة النهوض بالعراق دولة وشعبا ممكنة جدا، وليست مستحيلة، لاسيما وأن جميع مقومات ومرتكزات وأسباب وعوامل هذا النهوض متوافرة في هذا البلد، فهو من ناحية الموارد يعدّ من الدول الغنية عالميا بسبب ثرواته النفطية وموارده الأخرى في الصناعة والزراعة.

بمعنى يمكن للحكومة والجهات الرسمية الأخرى أن تبني عراقاً قويا اقتصاديا وعلميا واجتماعيا، ولكن هذا يشترط تطوير البناء السياسي أولا وتمتينه، وجعله يرتكز على قاعدة السيادة المتكاملة التي تتمتع بها الدول الحديثة، ولأن العراق لا نقص فيه من حيث الموارد البشرية والطبيعية، وأنه يتمتع بامتيازات وسمات الدول الغنية، فإن الخلل يكمن في سوء الإدارة، وضعف الأداء السياسي، وهدر السيادة بسبب مصالح حزبية وفردية.

الرؤية التفاؤلية لبناء العراق

إذا استثمر القادة السياسيون أولا وقادة النخب أيضا، مقومات وعوامل نهوض الدولة العراقية، وركَّزوا على استقلالية قرارهم السياسي، الذي يمكن أن يُنجَز في العراق بسبب توافر مقومات الدولة القوية الحديثة المستقرة، فإنهم سوف ينجحون في إصلاح النظام السياسي والدولة كلّها.

على أن يكون الشعب نفسه داعما لجميع الإجراءات التي تهدف إلى فرض السيادة الوطنية، وتعميد القرار السياسي بمصالح الدولة العراقية وشعبها، فالمسؤولية جماعية تضامنية، ولكن رأس القيادة تبدأ بحكومة الدولة وأحزابها وطبقتها السياسية.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(العراق لا نقص فيه، فلماذا حاله يكون كما نراه اليوم؟ ولا نلقي اللوم والمسؤولية على هذا وذاك، فهذه المسؤولية هي مسؤولية الكل، أي ليحاول الكل ويسعون إلى إصلاح العراق).

ولعل من أعظم العوامل التي تساعد على بناء دولة المؤسسات، وتعمل على ترصين السيادة، وصيانة القرار السياسي، نجدها بوفرة كبيرة في العراق، ونعني بذلك وجود الطاقات العلمية العقلية الفكرية المتميزة في مختلف مكونات الشعب العراقي، فالتنوع العرقي والديني والاثني الموجود في العراق، ينطوي على طاقات علمية هائلة، وعقول أثبتت أن نسبة ذكاءها فاقت بل وتقدمت جميع الدول العربية بحسب استبيانات لمنظمات متخصصة ومستقلة.

وطالما أن الأدمغة والخبرات العراقية في تطوير الدولة والمجتمع العراقي موجودة، فإن قضية النهوض ممكنة بشرط توافر الإرادة السياسية الوطنية، مع التخطيط المتخصص في جميع المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث يعمل الجميع في إطار هدف جمعي واحد، هو النهوض بالعراق وتخليصه من التبعية والاحتلال، ومن ثم إطلاق طاقات أبنائه الذين يتحلون بالإخلاص والمثابرة، والعقول الخلاقّة.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(العراق لا يخلو من الأدمغة ومن الإخلاص ومن المثابرة).

وما يؤكد إمكانية النهوض بالعراق دولة وحكومة وشعباً، تلك الرؤية التفاؤلية لقادة المجتمع، ومراجعه، ومفكريه، الذين يرون ويعتقدون ويؤكدون على إن إمكانية بناء الدولة العراقية المؤسساتية الحامية للحريات والحقوق، دولة السيادة الوطنية الكاملة، ممكنة جدا، على الرغم مما تعرّض ويتعرض له العراق من محن ومصاعب كبيرة، خصوصا في المرحلة الراهنة.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، يقدّم هذه الرؤية المتفائلة عن العراق حين يقول: (أنا شخصيّاً متفائل جدّاً بمستقبل العراق، رغم كل المآسي ورغم ما يحدث فيه اليوم).

خلاصة القول، عراقنا يحتاج أولا إلى سيادة وطنية لا تقبل الانتهاك أو الاختراق من أية دولة أو جهة كانت، وفي حال تمكنت الطبقة السياسية وقادة النخب والشعب من تحقيق هذا الهدف، فإننا سوف نعيش في دولة قوية متقدمة مستقرة، بشرط أن نضمن نظاماً سياسيا ديمقراطيا قويا، وقادرا على إدارة السلطة وثروات الدولة بما يحقق حاضرا باهرا، ومستقبلا مشرقا للعراقيين.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي