المرجع الشيرازي وثورة الثقافة في العالم

محمد علي جواد تقي

2015-05-02 11:51

"التبليغ"، مصطلح ديني يعنى بنشر الاحكام والقيم والتعاليم الدينية الى الناس بهدف تغيير واقع الناس نحو الافضل، فالتقاليد والاعراف الجاهلية التي كانت تشدّ الخناق على الانسان، سواء في الجزيرة العربية، او في سائر بلاد العالم، لم تواجه صدمة التغيير، إلا من خلال مهمة التبليغ التي مارسها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، كما فعل الشيء نفسه من قبل، الانبياء والمرسلين من قبله، مع الفارق في الظروف والاهداف. فالاهداف التي مضى عليها خاتم الانبياء، ومن بعده الأوصياء المعصومون، عليهم السلام، اتسمت بالأبعاد الحضارية والانسانية، وهذا ما أكده القرآن الكريم في عديد إشاراته الى الكيفية التي يجب ان تكون عليها علاقة الانسان بالسماء، لذا فان المهمة ذات طابع حيوي ومصيري: {يا أيها النبي بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل ما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}.

من هنا نجد ان سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- يبلغ اهتماماً خاصاً لأمر التبليغ ونشر فكر وثقافة اهل البيت، عليهم السلام، في كل مكان بالعالم، من خلال إرسال المبلغين، أو تأسيس المراكز والمؤسسات الثقافية، او من خلال إيصال الكلمة المرئية من على القنوات الفضائية، او المكتوبة في كتب ومطبوعات متعددة. فهو يصف هذه المهمة، بانها مهمة الانبياء، "ومن يمضي في هذا الطريق، عليه أن يعرف أنه يقتفي أثر الانبياء والمرسلين".

ضخ روح الأمل في النفوس

الجهود التي يرعاها سماحة المرجع الراحل في بلاد المشرق والمغرب وفي البلاد الافريقية، لنشر الثقافة الاسلامية، تمثل - بالحقيقة- امتداداً لتلك الجهود والمساعي المضنية التي بذلها العلماء والخطباء في العقود الماضية، فقد كانت البداية بسيطة بإمكانات قليلة، وبهمم عالية، وبعودة بسيطة الى تاريخنا، نجد أن المرجع الراحل والأب المؤسس، السيد ميرزا مهدي الشيرازي – قدس سره- هو الذي وضع بذور هذا المشروع، فأطلق حملات التبليغ داخل العراق وخارجه، وهو أول من أطلق مبادرة إيجاد "بعثة مرجعية" في موسم الحج، عندما قام بنفسه، وخلال رحلة الحج التي رافقها أولاده الكرام، بوضع حجر الأساس لهذه الفكرة، التي تحولت اليوم الى سنّة حسنة، تمثل أحد أركان الوجود الشيعي في موسم الحج.

وعلى هذا الطريق سار المرجع والامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- الذي تقدم أعطى لهذ المهمة بعداً دولياً، منطلقاً من مشروعه الإصلاحي والتغييري الشامل في الامة، فبدأ تسليط الضوء على الزوايا المظلمة في العالم الاسلامي، بل والعالم، حيث يوجد المسلمون. وكان في مقدمة حملة هذه الراية، الخطيب والكاتب البارع، المرحوم السيد كاظم القزويني، الذي طاف البلاد الاسلامية والغربية، لأداء مهمته التبليغية، ولعل أبرز المواقف المروية عنه، ما جرى له مع السادة المنحدرين من نسل أمير المؤمنين، عليه السلام، في المغرب، عندما قال لهم: أنكم تعيشون مصيبة...! فاستفهموا الأمر، فأجاب؛ أن المصيبة في أنكم من نسل علي بن أبي طالب، ولا تعرفونه!

أما قصة المفكر الاسلامي الشهيد السيد حسن الشيرازي مع العلويين في سورية، فانها معروفة وقد كتب عنها الكثير، وكيف انه تحدّى العقبات والظروف المعقدة آنذاك، في سني السبعينات، مؤكداً للطائفة العلوية جذورهم الشيعية، وهي الحقيقة التي أقرها علمائهم فيما بعد وثبتوها في إعلان تاريخي وقعه كبار العلماء العلويين.

لو أجرينا مقارنة بين الظروف التي كان يعيشها المسلمون والشيعة تحديداً في سني السبعينات والثمانينات، حيث كانت المبادرات التبليغية لأسرة آل الشيرازي، وبين الظروف الراهنة التي نعيشها، لوجدنا مدى الحاجة الكبيرة بلا حدود، الى تلكم المبادرات الشجاعة والهمم العالية، في وقت نعيش فتن سياسية ودينية غاية في الخطورة، ربما لم تشهدها الامة في تاريخها، ليس أقلها ارتباط مصائر المسلمين ومقدساتهم وارواحهم وأعراضهم، بمصالح دول مثل اميركا واسرائيل وسائر بلاد الغرب، الامر الذي جعل حالة اليأس تكاد تهيمن على النفوس وتعتصر القلوب، بحيث يجلس البعض ينتظر ما تقرره هذه العاصمة او تلك، وهل سترسل السلاح...؟! أو تتجه الى طاولة المفاوضات...؟! أم الى مزيد من سفك الدماء والدمار؟

وخلال احاديثه، يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على هذه النقطة، بأن العالم بحاجة دائماً الى معين الفكر والثقافة النقي، وحلولاً لمشاكل معقدة عديدة، وهو متوفر في تراث أهل البيت، عليهم السلام. ويخصّ بالذكر شريحة الشباب المتعطشة لكل جديد، والتي تتوفر على ارضية خصبة للنمو الفكري والثقافي. وهي اليوم من أكثر شرائح المجتمع، تأثراً بالاسقاطات على اكثر من صعيد، مما يجعله يفكر بالخروج من واقعه الى واقع آخر يلبي طموحه ويفهم مشاعره.

ولابد من الاشارة الى حقيقة أن الحاجة للنشر والتبليغ في العالم، بحاجة الى جهود على مستوى العالم، لذا نجد أن المشاريع الموجودة حالياً تمثل نموذجاً مصغراً لما يجب وينبغي فعله على مستوى العالم، حيث ان المراكز الاسلامية والمؤسسات الثقافية، من مساجد ومكتبات ومدارس وغيرها، تمثل مركزاً للإشعاع، وفناراً يهتدي اليه المسلمون والمستبصرون، قبل ان تحتوشهم تيارات فكرية تسعى لنشر قراءة معكوسة للدين، بعيداً عن مدرسة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله. ولعل خير مثال على ذلك؛ المركز الثقافية في الولايات المتحدة الامريكية وبلاد غربية اخرى، تمثل الوجه المشرق للاسلام والتشيع، وهذا ما تؤكده الجالية المسلمة، وايضاً ابناء تلك البلاد. حيث يجري الحديث بالدرجة الاولى عن السلم الأهلي والتعايش والحرية واحترام الآخر، الى جانب قيم اخلاقية وانسانية سامية. وهذا ما جعل هذه المراكز تنتشر، ليس فقط في الولايات الامريكية، ثم في كندا، وفي اوربا وحتى في استراليا، وإنما وصل إشعاع التبليغ الى كوبا، حيث تم افتتاح "المركز الشيرازي الاسلامي" في العاصمة هافانا في الآونة الاخيرة.

قوة الكلمة والمنطق

"إن العالم اليوم هو عالم الانفتاح، والقوّة، للكلمة والمنطق، وليس للجبر والإكراه..."، هكذا يبين سماحة المرجع الشيرازي رؤيته إزاء عملية النشر الثقافي في العالم. ولعل سماحته يشير ليس فقط الى فرصة "الحرية ووفرة وسائل الاتصال والاعلام المتطورة"، وإنما الى الفرصة التي وفّرها أصحاب التطرف والتكفير والارهاب بأعمالهم الوحشية البعيدة عن الانسانية، فضلاً عن الدين، مما جعل العالم يبحث عن الحقيقة والصواب، فالطرح الموجود تحت شعارات دينية، يفتقد الى الجذور، مهما كان المدعى والانعكاسات في العالم، فهنالك رأي عام في الغرب وفي العالم بأسره لا يمكنه تصديق أن ما يجري من كوارث وويلات في العراق وسوريا وحتى بعض البلاد الغربية من أعمال ارهابية، لها صلة بالدين الاسلامي. من هنا؛ فان دور الخطاب العلمي والمتزن، يمثل الخطوة المتقدمة في مسيرة التبليغ بوسائل حضارية ولغة معاصرة، كما هي الفرصة التاريخية لتقديم الموجه المشرق للإسلام الى العالم.

استثمار هذه الفرصة بحاجة الى إعداد من نوع خاص، على الصعيد العلمي والمعرفي لخوض المعترك الثقافي بنجاح، وهذا ما يدعو اليه سماحة المرجع بضرورة "التعبئة العلمية لمعرفة الاحكام الشرعية التي يبتلى بها الناس". فالاحاطة بالعلوم والثقافات والمعارف، من أهم عوامل نجاح المبلغ وصاحب المؤسسة والمركز في أي مكان بالعالم. وإن جاز لنا التعبير، فان أي إمام مسجد أو مسؤول مركز في العالم، يُعد بمنزلة "السفير"، الذي يجب ان يمثل بلده في كل شيء، عند أهل ذلك البلد، حكومة وشعباً، كما عليه أن يعرف كل شيء عن ذلك البلد، وينقله الى شعبه، فهنالك عديد الأسئلة والاستفهامات لدى المسلمين وغير المسلمين في العالم، لابد وأن تكون لها اجابات ليتحقق جزءٌ كبير من مهمة التبليغ الحضارية.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي