التوبة من أجل التصحيح
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ العاشِرة (١٨)
نـــــزار حيدر
2023-04-10 06:59
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
فالتَّوبةُ عن الذَّنبِ لا تكفي إِذا لم يتبعها إِصلاحٌ، إِذ ليسَ المُشكلةُ في أَن يخطأَ الإِنسانُ، فـ {كُلُّ ابنُ آدَم خطَّاء} مازالَ ليسَ فينا مَن هُو معصومٌ عن الخطأ {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
كما أَنَّ الحلَّ لا يكمُنُ في التَّوبةِ دائماً، فمِنَ السَّهلِ جدّاً أَن يتوبَ المرءُ عن خطأ يرتكبهُ، إِنَّما السرُّ في طريقةِ التَّوبةِ والتَّراجع عن الخطأ، فبينما يرى البَعض أَنَّ مجرَّد التَّوبة تكفي كحلٍّ للخطأ الذي نرتكبهُ، يرى آخرُون أَنَّ التَّوبةَ لوحدِها لا تكفي إِذ يلزم أَن يُصحِّح المرءُ خطأَه بشَكلٍ من الأَشكالِ يعتمِدُ على نَوعِ الخطأ، وهو المفهُوم الذي تذهب إِليهِ الآية القُرآنيَّة الكريمة بقولِها {تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا} وهذهِ هي طريقةِ التَّعامُل مع الخطأ بمسؤُوليَّة، فعندما يعرِف إنسان بأَنَّهُ سيتورَّط بحلٍّ ما إِذا أَخطأ وإِنَّ عليهِ أَن يعتذِرَ ويُصلح، فلا يكتفُون منهُ بالإِعتذار فحسب، عندها سيُفكِّر جيِّداً وبصَوتٍ مُرتفعٍ قبلَ أَن يرتكِبَ خطأً، وهو الأَمر الذي يجِب أَن نتعلَّمهُ ونتربَّى عليهِ ونُربِّي عليهِ أَولادنا وهُم صِغار.
إِنَّ على الأَب أَن يُعلِّم إِبنهِ على الإِعتذار والتَّصحيح إِذا ما ارتكبَ خطأً بحقِّ أَخيهِ أَو أُختهِ أَو والدَيهِ، ليشُبَّ أَولادنا وهُم يتسلَّحُونَ بهذهِ الثَّقافة، ثقافة الإِعتذار والتَّصحيح، وبذلكَ سنُساهِم في الحدِّ من ظاهرةِ [الإِفلات مِن العِقاب] والتي أَسَّسَ لها قولُ الله عزَّ وجلَّ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
ومِن أَجلِ أَن تزرعَ فيهِم، أَيُّها الأَب، هذهِ الثَّقافة فإِنَّ عليكَ أَن تُمارسها بنفسِكَ أَوَّلاً أَمامهُم ليشعرُوا بأَهمِّيتها وضَرورتها الحياتيَّة وصِدقكَ في آن، وليتذوَّقُوا حلاوةَ نتائجِها، فإِذا ارتكبتَ خطأً بحقِّ أُمِّهم لا تتخندَق بذكُوريَّتكَ لتهرب من الإِعتذار والتَّصحيح أَبداً، بل بادِر لمُمارسةِ ذلكَ فوراً، وكذا الأَمرُ تفعلهُ مع الأَب إِذا ما بدرَ من الأُم خطأ ما، فبالنِّسبةِ للأَولاد فإِنَّ أَوَّل مُعلِّم هو الأَب وإِنَّ أَوَّل نمُوذج يقتدُون بهِ هو الأَب.
القُرآن الكريم يحثُّ على مبدأ التَّصحيح حتَّى إِذا كانَ الخطأُ غَير مقصُود وعَن غيرِ عَمدٍ، لماذا؟! حتَّى يفتَح الإِنسان عينَيهِ جيِّداً فلا يستسهل الخطأ بذريعةِ أَنَّهُ حصلَ بالصِّدفة أَو عن غيرِ عمدٍ.
يقولُ تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
فعندما يتشبَّع الإِنسان بثقافةِ {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ} كما في قولهِ تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} مهما كان الذَّنبُ صغيراً والخطأُ تافِهاً، فعندَها سوفَ لن يفلتَ أَحدٌ من العقابِ، وبالتَّالي يتخلَّص المُجتمع من ظاهِرةِ الأَخطاء المُزمِنة الت تتكرَّر بمُناسبةٍ ومِن دُونِ مُناسبة!.
فهذا يخطأ فيُدمِّر أُسرةً بكاملِها، ثمَّ يكتفي بتقديمِ الإِعتذارِ مِن دونِ أَن يدفع الثَّمن {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ} وذاكَ يخطأ فيقضي على مُستقبلِ صديقهِ ثم يكتفي بالإِعتذارِ مِن دونِ ثمن {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ} وهكذا! أَوليسَ في الأَمرِ خطأٌ ورُبما جريمةٌ تُرتكَب؟!.
إِنَّ دُولاً يتمُّ تدميرَها وشعُوباً تنزِفُ دماً وأَعراضاً تُنتهَك وفي نهايةِ المَطاف يتصافحُ المُتخاصِمان ويُقبِّل أَحدهُما أَنفَ الآخر في حفلٍ بهيجٍ ترقُص على أَنغامهِ وسائِل الإِعلام العالميَّة والمحليَّة تحتَ شِعار {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ}! طيِّب؛ وماذا بشأنِ الدِّماء والأَعراض والدَّمار الذي تعرَّضَ لهُ الأَبرياء؟! مَن يتحمَّل مسؤُوليَّة كُلَّ ذلكَ؟! لا أَحد، أَوَليسَ هذا أَقسى أَنواع الإِفلات مِن العِقاب؟!.
إِنَّ التَّربية الرساليَّة للإِنسان الفَرد والإِنسان المُجتمع تحرص على أَن يدفعَ الذي يرتكِب خطأ ثمناً، حتى لا يستَسهِل أَحدٌ الخطأ، فالإِكتفاء بالإِعتذارِ وقَول [عفواً] أَمرٌ سهلٌ جدّاً عندَ كثيرِين، إِلَّا أَنَّ العِبرة في التَّصحيح، فهوَ الذي يقِف سدّاً بوجهِ تكرارِ الخطأ واستسهالهِ، وبهذهِ ستشيعُ ثقافة المسؤُوليَّة في المُجتمع، فلا يفلِت أَحدٌ مِن العِقاب.
أَلا ترَونَ أَنَّ جُلَّ الجرائِم التي تُرتكب في المُجتمع تذهب هدراً وتُسجَّل ضدَّ مجهولٍ فلا أَحدَ يتحمَّل المسؤُوليَّة وإِنَّ أَقصى ما يمكنُ فعلهُ عادةً إِذا ما تمَّ الكَشف عن الجرِيمة قَول المسؤُول [عفواً] وكأَنَّ ذلكَ يُعيدُ للمظلومِ حقُوقهُ أَو يُطهِّر ساحة المسؤُول من المعصِيةِ!.
للأَسف الشَّديد فلقد ضاعَت رُوح المسؤُوليَّة في المُجتمع بدرجةٍ كبيرةٍ وعلى مُختلفِ المُستوياتِ بِدءاً برجُلِ الدِّين والسِّياسي والإِعلامي والوالِدَينِ والأَولاد والعامِل والمُدرِّس والمُهندس والطَّبيب وربِّ العَمَل وغيرهُم وغيرهُم.
مرَّة سأَلتُ عن [زعيمٍ] إِختفى فُجأَة من السَّاحة، فقيلَ لي هوَ مُعتكِفٌ بيدهِ المِسبحة يستغفرُ ربَّهُ على دورهِ في تدميرِ البلدِ! سأَلتهُم؛ وهل أَعادَ الأَموال التي سرقَها وكفكفَ دمُوع الأَيتام واستسمحَ الأَرامِل والثَّكالى قبلَ أَن يستغفِرَ ربَّه؟!.
لو أَنَّ كُلَّ واحدٍ يرتكِب خطأً مُدمِّراً ثُمَّ يجلِس آخِرَ عمُرهِ يُكرِّر [أَستغفرُ الله] وتنتهي المُشكلة لما قصَّرَ أَحدٌ في ذلكَ، فهذا أَمرٌ سهلٌ جدّاً.
أَمَّا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فلا يقبَل ذلكَ أَبداً فهوَ يعتبُر الإِستغفار الشَّفهي ضِحكٌ على الذُّقُون.
فلقَد قالَ (ع) لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ {ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَتَدْرِي مَا الِاسْتِغْفَارُ، الِاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَالثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، وَالثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَالْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، وَالسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ}.