معركة بدر واختبار القوة الحقيقية

محمد علي جواد تقي

2023-04-09 07:52

{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

في أول معركة يخوضها المسلمون في تاريخهم ضد قوى الشرك والطغيان، يثبّت رسول الله قاعدة القوة الحقيقية للغلبة وتحقيق الانتصار، وهي ليست السلاح، والمال، وإنما الإيمان الراسخ بالله –تعالى- واليقين بأنه ينصر عباده المؤمنين مهما كانت الظروف.

وقد رأى النبي الأكرم أن لابد من تقوية شوكة الإسلام في عيون المشركين في مكة وأطرافها من القبائل المتحالفة، إذ لم يقف مشركوا مكة مكتوفي الأيدي أمام تعاظم قوة المسلمين وانتشار الرسالة من يثرب (المدينة) الى ارجاء الجزيرة العربية، لاسيما بعد وصول الإسلام الى الحبشة (اثيوبيا حالياً) إثر الهجرة الناجحة لجعفر بن أبي طالب وجماعة من المسلمين، وإيمان النجاشي بأحقية الدين الإسلامي.

فكانت الاستفزازات والتحركات العدوانية مستمرة على المسلمين، ومنها ما قام به "كرز بن جابر الفهري الذي أغار بمن معه من الاعراب على المدينة واستولى على الإبل والمواشي، مما أضطر النبي أن يقود سرية في طلبه". (سيرة المصطفى- السيد هاشم معروف الحسني)، وعندما سمع، صلى الله عليه وآله، بتحرك قافلة تجارية ضخمة من مكة الى الشام بقيادة أبي سفيان، قرر اعتراضها بعد التسديد الإلهي له، وكانت قافلة مميزة حينها بكثرة الاموال المودعة فيها للتجارة، وحسب مصادر التاريخ؛ لم يبق بيت في مكة إلا وكانت له أموالاً في هذه القافلة، فلمّا أحسّ ابوسفيان الخطر على القافلة من جانب المسلمين، غيّر اتجاه القافلة نحو البحر.

مشركوا قريش من جانبهم لمّا بلغهم المنادي بالويل والثبور من المسلمين والخطر الداهم على أموالهم، جهزوا سلاحهم وعتادهم لخوض الحرب، ولما وصلتهم رسالة ابوسفيان بأن ارجعوا، قد أمنت أموالكم، انقسم معسكر الشرك الى قسمين؛ الاول: ارتأى العودة الى مكة وتجنب القتال والحرب، وفي مقدمتهم؛ الأخنس بن شراق، والثاني: الرافض للعودة، والمُصرّ على خوض الحرب، وكان يقود هذا الرأي؛ ابو جهل، وفي المصادر، أنه لما بلغ أبوسفيان إصرار جماعته على الحرب هتف قائلاً: "واقوماه! هذا عمل عمروبن هشام (ابوجهل)، لقد كره الرجوع، لانه ترأس على الناس وبغى والبغي منقصة وشؤم، والله لئن أصاب محمد النفير ذللنا الى ان يدخل مكة علينا"، فقد تنبأ ابوسفيان بالهزيمة، ربما لمعرفته الدقيقة بشخصية النبي الأكرم، وما يحمله من قوى وقدرات، خلافاً لأبي جهل، الذي كان اسماً على مسمّاه، مشحوناً بالغرور والحقد والتكبّر، فكان من جملة القتلى في هذه المعركة.

المؤمن ذلك الشجاع

خرج المشركون بكل قوتهم في هذه المعركة لأنها كانت الاولى من نوعها مع المسلمين، فتصوروا أنها الاولى والاخيرة للرسول وأنصاره، لذا خرج رؤوس الشرك وزعماء القوم أمثال؛ عتبة بن ربيعة، وأخاه شيبة، وابنه الوليد، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن خزام، ونوفل بن خويلد، والنضر بن الحارث، وابوجهل، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمر، فبعأوا جشياً جراراً ترافقهم خيل وإبل للطعام ولاشراب مع مطربين ومغنين يضربون بالدفوف والطبول مما يمكن تسميته اليوم بالحرب النفسية لإيهام الطرف المقابل بالقوة القاهرة، وقد قدّر رسول الله عددهم من خلال اللقاء بأسرى أرادوا الماء بالقرب من عكسر المسلمين، بأنهم بين ألف وتسعمائة رجل، بينما كان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، حسب الروايات التاريخية، ولم يكن لديهم سوى سبعين جملاً يتنابون عليه الاثنان والثلاثة طوال الطريق.

باتت المواجهة مؤكدة لا محال لها بين جبهة الشرك، وجبهة الايمان، فأراد النبي الأكرم استجلاء موقف اصحابه فالتفت الى الأنصار لأنه واعدهم بأن يدافعوا عن بلادهم (يثرب) وحسب، فقام اليه المقداد بن عمرو فقال: يارسول الله امض لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون، كما قام سعد بن معاذ وقال: آمنّا بك يارسول الله وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، فأمض يا نبي الله لما اردت".

ولكن! كان ثمة رأي آخر على النقويض من هؤلاء، فقام عمر بن الخطاب، وكان محسوباً على المهاجرين، وقال للنبي محذراً إياه مما يعده قوة وبطش قريش: يارسول الله! إنها قريش وغدرها، والله ما ذلّت منذ عزّت! ولا آمنت منذ كفرت، والله لا تسلّم عزّها أبداً، ولتقاتلنك، فتأهبّ لذلك أهبته!!

لقد جسّد المسلمون على قلتهم، موقف المؤمنين من بني اسرائيل عندما راموا خوض الحرب ضد طغاة زمانهم، فكانوا باعداد كبيرة بإمرة الملك طالوت المؤيد من نبي ذلك الزمان، والمسدد من السماء، بيد أن الاختبارات المتعددة تمخضت عن الصفوة المؤمنة التي يتحقق على يديها الانتصار، وهذا ما يرويه القرآن الكريم لنا، حيث قال بعضهم {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، فجاء الجواب من المؤمنين بأن {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. هذه الشجاعة هو ما يريده الله –تعالى- للمؤمنين في الحياة، وليس في ساحة المعركة فقط، فالشجاعة ممدوحة ومطلوبة في الإسلام، يقول رسول الله: "إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حيّة"، فلا يمكن "تصور المؤمن جباناً، لأن الجبن لا يمتّ الى الدين بأية صِلة، (أحاديث رمضانية- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).

و رُب سائل عن الحد الفاصل بين الشجاعة والإيمان لخوض المواجهة من اجل الحق والفضيلة ضد الظلم والطغيان، و الرغبة الفطرية للإنسان في طلب الخير والأمان والسلامة في الحياة، وهو أمرٌ ممدوح ومطلوب ايضاً في الإسلام؟

لا تقاطع مطلقاً بين المسلكين فهما يلتقيان في النظر الى الآخرة والعاقبة الحسنة، فالشجاعة والايمان التي يتحلّى بها الانسان تأخذ بيد صاحبها الى جنان الخلد، قبل الكرامة والعزّ والسعادة في الحياة الدنيا.

ثلاث مواقف نبيلة

رغم حاجة النبي الأكرم على النصر العسكري على المشركين لإيصال الرسالة البليغة الى سائر القبائل في الجزيرة العربية بوجود قوة عسكرية لا يستهان بها، فانه، صلى الله عليه وآله، لا ينسى مطلقاً مبادئه وقيمه التي جعلها قاعدة كل انتصار وتقدم للإسلام، عندما غلّب الجانب الانساني على العسكري والحربي في معركة بدر، ومن هذه المواقف المميزة:

1- النهي عن التعذيب لانتزاع الاعتراف، وكانت المرة الاولى للمسليمن يجربون أسيراً بين أيديهم من المشركين، وكانوا ثلاثة عند "القليب"، وهو بئر في منطقة بدر أرادوا الماء، فاستجوبهم المسلمون ظنّاً منهم أنهم لأبو سفيان، فقالوا نحن سقاء لقريش، فضربوهم بشدّة، ولمّا اشتدّ عليهم الضرب قالوا: نحن لأبي سفيان، وكان رسول الله في الاثناء يصلي، وبعد الانتهاء من صلاته جاء اليهم معترضاً: إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم".

2- السماح للمشركين بالتزوّد من البئر الذي كان قد سبق اليه في بدر، ونهى المسلمين عن قطع الماء على المشركين.

3- أما الموقف الثالث، والذي يحمل دلالات مهمة، التوصية الصادر منه، صلى الله عليه وآله بحق ثلاثة من المشركين بعدم قتلهم اذا ما لقوهم في المعركة، وهم الوليد بن هشام المعروف بـ "ابن البختري"، لانه كان أقل الناس إيذاءً للرسول في مكة، وكان له موقفاً معارضاً من صحيفة المقاطعة المعروفة، كما نهى عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل، وقال: إئسروه ولا تقتلوه، وكان كارهاً للخروج الى المعركة، فلقيه أحد المسلمين فقتله قبل ان يسمع بوصية النبي، كما نهى عن قتل زمعة بن الأسود، كما ورد في "سيرة المصطفى".

لم يكتب الحياة لهذه الشخصيات البارزة من مشركي مكة، فقد لقوا مصرعهم لسرعة حركة المسلمين في هذه المعركة، كما قُتل جميع رؤوس الشرك في هذه المعركة الضافرة، بيد أن الدرس الرسالي الكبير أهم و أولى في أن النصر لا يأتي بالجور، والقدرات والامكانيات بغية تحقيق الانتصار، او المضي في طريق التقدم لا يكون دائماً وفق الحسابات المادية، بقدر ما للإيمان واليقين والتنمّر في ذات الله الدور الأكبر في صنع المعجزات، و ضمان الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.

ذات صلة

لماذا لا يدفعون الثمن؟التنفيذ المركزي واللامركزي في العراق.. التخصيصات الاستثمارية مثالاًالتفكيرُ عراقيَّاًفكرة المشروع الحضاري في المجال العربي.. التطور والنقدالإرهاب الصامت