قواعِدَ الجِدالِ الهادف
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ العاشِرة (١)
نـــــزار حيدر
2023-03-25 07:31
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
هل تظنُّ أَنَّ نبيَّ الله إِبراهيم (ع) إِقتنعَ بردِّ نمرُود على مُحاججتهِ الأُولى لينتقلَ بهِ إِلى المُحاججةِ الثَّانيةِ؟! فاقتنعَ بأَنَّهُ قادِرٌ على أَن يُحيي ويُميتَ كما يقدر ربَّهُ على ذلكَ؟!..
أَبداً، ليسَ الأَمرُ كذلكَ، ولكنَّهُ (ع) عندما سمِعَ منهُ الرَّد تأَكَّدَ لهُ بأَنَّهُ [مُعانِدٌ] هدفهُ من المُجادلةِ [الإِفحام] فقط فلا يهمَّهُ منها معرفةَ الحقِّ شيئاً وإِنَّما هدفهُ الرَّد في المُحاججةِ فقط بغضِّ النَّظر عن طبيعتهِ وما إِذا كانَ ردّاً منطقيّاً وعقليّاً أَم لا؟!.
ولذلكَ تُلاحظ أَنَّ إِبراهيم (ع) لم يتوقَّف عندَ جوابهِ على المُحاججةِ الأُولى لتفاهةِ الرَّدِّ، وإِنَّما انتقلَ إِلى المُحاججةِ الثَّانيةِ التي كانت قاصِمةً عجزَ نمرُود عن الرَّدِّ عليها فأُصيبَ بالدَّهشةِ وفضحتهُ الصَّدمة {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}.
ولو كانَ إِبراهيم (ع) قد ردَّ على جوابهِ الأَوَّل لدخلَ مع نمرُود في جِدالٍ عقيمٍ ليسَ من ورائهِ أَيَّة فائِدة، وليسَ مِن سلُوكِ الأَنبياء والمُصلحين وأَصحاب الرَّأي السَّديد الدُّخُول بمثلِ هذا النَّوع من الجِدالات العقِيمةِ.
يقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ} لأَنَّ الذي دأْبهُ الجِدالَ بشكٍّ دونَ يقينٍ بمعرفةِ الحقِّ والتَّمييزِ بينَ الصحِّ والخطأِ لا يصِلُ إِلى نتيجةٍ في كُلِّ حِوارٍ ، فاحذرهُ ولا تُورِّط نفسكَ معهُ.
مِن جانبٍ آخر فإِنَّ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) حدَّد مِعياراً للعاقلِ ليعرِفَ ما إِذا كانَ الآخر إِنَّما يُجادلهُ ليتعلَّم أَم لا؟! فيصفُ أَخاً لهُ بقَولهِ {وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ} ويُضيفُ (ع) {لَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً} ثُمَّ يقُولُ (ع) {وَكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ وَكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ}.
إِذن، هي ثلاثُ قواعِدَ للعاقلِ إِذا أَرادَ أَن يُحقِّقَ هدفهُ مِن الجِدالِ أَلا وهوَ إِقناعُ الآخرِ برأيهِ ووِجهةَ نظرهِ؛
١/ أَن يكُونَ قويَّ الحُجَّة والدَّليل والبُرهان.
٢/ أَن يُحاوِر بالمنطقِ الذي يفهمهُ الآخر وبمتبنَّياتهِ وثوابتهِ ومصادرهِ، ليُلقي الحُجَّة كما يفهمها الآخرُ، إِذا أَرادَ أَن يفهم.
٣/ وعندَ الصَّخب والثَّرثرة والتَّهريج يلزَم الصَّمت، فهوَ السِّلاحُ الأَمضى في مجالسِ الجِدالِ العقيمِ.
وإِنَّك عندما لا ترُدَّ على جوابِ الآخر عندما تراهُ تافِهاً فلا يعني ذلكَ بأَنَّك اقتنعتَ بالجوابِ، أَبداً، ففي كثيرٍ من الأَحيانِ يُعتبَرُ ذلكَ دليلٌ على ترفُّعِك الفكري والثَّقافي الذي يمنعكَ من النُّزولِ الى مُستوياتِ التَّافهينَ الَّذينَ لا همَّ لهُم إِلَّا إِشغالكَ بالقيلِ والقالِ، وبردُودٍ لا معنى لها.
ومِن علاماتِ التَّافهين؛
- أَنَّهُم لا يُناقِشُونَ الفِكرةِ وإِنَّما ينشغِلُونَ بوَصفِ صاحبِها!.
- أَنَّهُم ينتقِلُونَ من فِكرةٍ إِلى أُخرى مِن دُونِ مُناسبةٍ وبِلا ربطٍ بينَ الأَفكار التي يتنقَّلُونَ بينِها!.
- أَنَّهُم [يخُوطُونَ بجانبِ الإِستكانِ] كما يقُولُ المثَل!.
حذارِ أَن تنجرَّ للحوارِ مع هذهِ النَّماذجِ الفاشِلة، فصاحبُ الرِّسالةِ الحقيقيَّةِ لا تُثيرهُ تعليقات التَّافهين ولا تستدرِجهُ أَجوبةَ الفارغينَ، حتَّى إِذا كانت أَجوبتهُم مُثيرةً للإِشمئزازِ وتعليقاتهُم مُقزِّزة واتِّهاماتهُم خطيرة!.
إِنَّ نمرُود نموذجٌ للمُحاورِ التَّافه الذي يسعى لاستدراجِ المُصلحِ إِلى فخِّ حِوار الطِّرشان والجِدال العقِيم.
أَمَّا نبيَّ الله إِبراهيم (ع) فهو نمُوذج صاحبِ الرِّسالةِ التي لا يُثيرهُ التَّهريج ولا تستدرجهُ الأَجوبة العَنَديَّة التي ليسَ من ورائِها ما ينفعُ المُتلقِّي والمُتابع للحِوار.