غزوة بدر الظافرة: أول انتصار عسكري بعيداً عن قيم الجاهلية
محمد علي جواد تقي
2021-05-02 03:29
كان من الصعب على المسلمين في المدينة تصوّر تحقيق انتصار عسكري على مشركي مكة، وهم بعد لم يمض على وجودهم في المدينة سوى سنتين، ولمّا يندمج المجتمع الاسلامي الاول المكوّن من المهاجرين والانصار، ولم تترسخ فيه القيم والمبادئ التي جاء بها رسول الله، صلى الله عليه وآله، فكان الاستعداد للحرب والقتال آخر ما يفكرون به لقلّة عددهم وعدتهم، في مقابل كثرة المشركين وقدراتهم في المال والسلاح والرجال، مما جعل غزوة بدر تمثل للمسلمين أول تحدٍ كبير وحاسم في طريق تثبيت دعائم الدين ونشر رسالة الإسلام في العالم.
وبما أن ما جرى في بدر في السنة الثانية للهجرة، وفي اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، لم تكن حرب بدوافع سياسية واقتصادية أو كالتي يقررها الحكام، بقدر ما كانت اختباراً إلهياً للإيمان والإرادة عما اذا كانت تلك القلّة القليلة التي غلبت فئة كثيرة، قادرة على مواصلة الطريق ومواجهة التحديات القادمة أم لا؟ ولذا كان المسلمون مسددين ومؤيدين من السماء مئة بالمئة.
والانتصار المدوي في هذه الغزوة تركت آثاراً ايجابية عميقة في نفوس المسلمين والاجيال القادمة، كما تركت دروساً بليغة في كيفية تحقيق الانتصار وفق المعايير وبالوسائل المشروعة.
أولاً: لا للتعذيب ولا للتجويع
عندما انطلق النبي الأكرم باصحابه نحو قافلة ابي سفيان القادمة من الشام، وكانت من أضخم القوافل التجارية، وكان بصحبتها عدد من كبار تجار مكة، علم بهم الاخير فارسل الى رجالات مكة ينذرهم الخطر المحدق بالقافلة، وكان أهل مكة قد ارسلوا عدداً من "الرواة" الى مياه بدر لسقي الماء، ولما كان النبي واصحابه قد سبقوهم الى بدر ألقوا القبض على اثنين وفرّ آخرون، وظن المسلمون أنهما يعلمان بخبر أبي سفيان وقافلته، فقد كانوا يطلبونه بالدرجة الاولى لما أوغل فيهم من الظلم والاضطهاد والقتل. فجاؤوا بهما الى رسول الله، وكان يصلّي، فبدأوا معهم ما يشبه التحقيق، فما أن كان يتحدثون عن قريش واستعداداتهم يتلقون الضرب المبرح من المسلمين، وعندما يتحدثون عن ابي سفيان يكفّون عنهم! "وذلك على عادتهم في الجاهلية حيث كانوا يأخذون الاعتراف بالتعذيب، فنهى الاسلام عنه نهياً باتاً وحرّمه أشدّ التحريم، ولذا انفتل رسول الله، صلى الله عليه وآله، -قطع صلاته- والتفت الى اصحابه معترضاً عليهم وقال: اذا صدقاكم ضربتموهما، واذا كذباكم تركتموهما؟! صدقا والله، إنهما لقريش"، (شهر رمضان- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي).
منذ تلك البداية والتأسيس الأول شرّع النبي حرمة التعذيب لانتزاع الاعتراف وإن كانت ظروف حرب وقتال، فالحضارة لا تُشيّد على أسس جاهلية، وإنما على قيم وفضائل، وكذلك الحال فيما يتعلق بالماء الذي كان في تلك المنطقة، فقد سبق المسلمون اليه، "فلما نزل المشركون الوادي أقبل نفر منهم حتى وردوا حوض رسول الله، فأراد بعض المسلمين منعهم، فقال رسول الله: دعوهم، فشربوا".
نفس الموقف والمشهد جسّده أمير المؤمنين، عليه السلام، في حرب صفين عندما طلب بعض اصحابه بمنع اصحاب معاوية من الوصول الى الماء، بدعوى الرد بالمثل عندما منعوهم منه في وقت سابق، فأبى، عليه السلام، إلا أن يشرب اصحاب معاوية حتى تحيا سنّة رسول الله وقيم السماء بعدم رد الإساءة بمثلها، ثم تكريس الثقافة الانسانية في النفوس.
وبعد نهاية المعركة لصالح المسلمين، أخذوا عدداً من الأسرى المشركين كان بينهم سهيل بن عمرو، و يبدو كان ذو لسان سليط و سيئ على رسول الله في مكة، فعندما أراد احد المشركين تقديم فدية للنبي لاطلاق سراحه كما أعلن عن ذلك، صلى الله عليه وآله، جاءه "عمر بن الخطاب وقال: يارسول الله! انتزع ثنيّتي سهل بن عمرو السفليين يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موطن ابدا، فقال له رسول الله: لا أمثّل به فيمثّل الله بي وإن كنت نبيا"، (تاريخ الطبري-ج2،ص162). فكان عمر يتمنى أن تُتنزع الاسنان السفلى لهذا المشرك بدعوى اسكاته عن التعرّض لرسول الله بلسانه، وهذه هي الثقافة التي ترى في استخدام الاجراءات القمعية والدموية اسلوباً لمواجهة الطرف المقابل، وإن كان سلاحه اللسان فقط.
ثانياً: توفير قوة الردع والتسديد الإلهي
كان همّ المسلمين في المدينة، وتحديداً المهاجرين منهم توفير الأمن والاستقرار والراحة بعد ما لاقوه من الذلّ والعذاب على يد المشركين في مكة، وإن كانوا يفكرون بتحرك مُضاد، فهو للاستحواذ على مغنم من قوافل قريش، وهذا ما حصل مع قافلة ابي سفيان، بيد أن ما كان ينتظرهم من الاختبار العظيم والحاسم كان اكبر بكثير مما يتصورون.
ففي البدء كان خروجهم من المدينة بغية الانتقام من أبي سفيان ومن معه من رؤوس الشرك، وأخذ ما لديهم غنيمة، كون الطرفين في حالة حرب قائمة، ولكن؛ عندما سمع المسلمون بتحرك المشركين من مكة وهم مدججين بالسلاح مع صناديدهم ورجالهم الأشداء المعروفين بالقتال، تغيّر موقف بعض المسلمين، فنزلت الآيات الكريمة من سورة الأنفال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}، "فمن الطبيعي أن يفضل المسلمون القافلة التجارية، بينما الله كان قد قضى لهم بمواجهة الجيش المعادي لأن الله يريد تحقيق واقع الرسالة الجديدة وليس فقط حصول المسلمين على حطام الدنيا، كما يريد ربنا ارغام المجرمين بإحقاق الحق وإبطال الباطل حتى لا يفكروا بمقاومة الرسالة"، (تفسير من هدى القرآن- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
ولما علم رسول الله من هشاشة الايمان لدى البعض ما يزعزع فيهم الارادة والقوة والعزيمة، رفع يديه بالدعاء عندما رأى جحافل المشركين تتجه نحو المسلمين: "اللهم فنصرك الذي وعدتني به، اللهم أحِنهم الغداة". فالقضية؛ حرب فاصلة بين الحق والباطل، وبين قيم السماء وقيم الجاهلية، وربما تكون غزوة بدر في تلك الصحراء وفي تلك الساعات أشبه ما تكون بالمواجهات الفاصلة بين الانبياء وأقوامهم المتمسكين بالكفر والطغيان، فلا تنتهي المواجهة إلا بغلبة الحق، وهي السنّة الإلهية الثابتة في الحياة، ومن أروع ما ثبته القرآن الكريم من هذه السنّة والمعادلة السماوية، ما جرى في قصة الملك طالوت الذي اختاره الله لقيادة بني اسرائيل لمحاربة جالوت الظالم، وعندما احتجوا على نبيهم بأنهم قلّة أمام كثرة العدو {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، إنما تحتاج القضية بُعد نظر وسعة في التفكير لمواجهة التحديات، مع ذلك؛ فقد استجاب الله –تعالى- لدعاء نبيه الكريم وأمدّ المسلمين بالدعم والاسناد الغيبي، وسواء أكان هذا الامداد بصورة مادية ملموسة، او غيبية، فان المسلمين أحسّوا بقوة هائلة تسري في نفوسهم جعلتهم يقاتلون لا يلوون على شيء، ولا يعبأون بمن أمامهم من الصناديد والرجال الأقوياء من المشركين، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
المشورة والتحقق من صدق الولاء والإيمان
و إن كانت الغزوة قراراً سماوياً ماضياً لافتتان المسلمين واختبار قوتهم في مرحلة متقدمة من انتشار الاسلام، فان للنبي الأكرم قرار موازٍ على الأرض لاحتكاكه بشكل مباشر مع افراد المجتمع الحديث العهد بالاسلام والالتزامات الدينية والعقدية، فالمشورة واستجلاء الآراء في خوض القتال ضد مشركي مكة من عدمه كانت تمثل خطوة غاية في الذكاء لمعرفة حقيقة الولاء والإيمان الكامن في النفوس، لاسيما اذا عرفنا أن الانصار، وهم الشريحة الاكبر بين المسلمين، كانوا قد علقوا ذمة رسول الله بهم فيما اذا كان موجوداً في ديارهم، وذلك خلال بيعتهم في العقبة، "فاذا وصلت الينا فأنت في ذمامنا نمنعك ما نمنع منه ابنائنا ونسائنا"، مما يعني أنهم في حلّ من نصرة النبي خارج المدينة، وهذا ما كان يخشاه، صلى الله عليه وآله، لذا عندما صاح النبي: "أشيروا عليّ أيها الناس قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، قال: آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منّا رجل واحد... فسُرّ رسول الله بقول سعد ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا فان الله وعدني إحدى الطائفتين"، (تاريخ الطبري)، علماً أن المفسرين قالوا في "الطائفتين"؛ إما الانتصار على أبي سفيان والاستيلاء علىل قافلته، او الانتصار على جيش المشركين القادم من مكة.
وقبل الانصار، كان المقداد بن عمرو، وهو من خيرة الاصحاب المهاجرين والمجاهدين، قد وقف مستجيباً لدعوة النبي الأكرم للقتال بقوله: "يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى {َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، هذه الانماط من الردود تعبر عن مستويات الايمان والوعي بالرسالة السماوية، فعندما تتفق كلمة المسلمين؛ مهاجرين وأنصاراً على خوض القتال، فهذا يعني تحملهم عواقب ما يجري، وحتى {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، وهذه من أبرز وأهم ركائز العلاقة بين القيادة والقاعدة الجماهيرية، فالحرب او السلم ليست قراراً خاصاً بالقائد والزعيم، إنما القضية تتعلق بمصير الامة والاجيال، تبقى مسؤولية القائد النزيه والصالح تحديد الرؤية الصائبة نحو الهدف الذي يكون فيه خير الناس وصلاحهم.
انتهت المعركة الفاصلة خلال ساعات بهزيمة المشركين رغم كثرة عددهم وعدتهم، وكانوا أكثر من ألف مقاتل، بينما المسلمون كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر، مع اختلاف الرواة في العدد الدقيق، ولم يقدم المسلمون سوى تسعة شهداء، بينما قتل من المشركين سبعون وأُسِر منهم سبعون ايضاً، وثمة تفاصيل عن المعركة لسنا بوارد الخوض فيها، فبالامكان مراجعة كتب التاريخ والسيرة لمعرفة المزيد، وهي تحمل عِبر كثيرة، فاقبل رسول الله، صلى الله عليه وآله، على قتلى المشركين وقال: "جزاكم الله من عصابة شرّا، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس"، ثم أمر فألقوا في قُليب (بئر) ، فخاطبهم باسمائهم: "يا عبتة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أباجهل بن هشام، وذكرهم واحداً واحداً، ثم قال: هل وجدتم ما وعدكم ربي حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربّي حقا"، فقال أحد المسلمين: أ تُكلم قوماً موتى؟! فقال، صلى الله عليه وآله: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني".
يالها من لحظات عصيبة وموقف مهول وعاقبة سيئة لمن كان يرجو لهم رسول الله الهداية وأن يملكوا العرب والعجم لمجرد توحيدهم الله –تعالى- فاخذتهم العزّة بالإثم، وطغت عليهم جاهليتهم وأبوا إلا كفورا، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.