لماذا نقرأ عن غزوة بدر؟
في ذكرى غزوة بدر: أول استراتيجية ردع في الإسلام
محمد علي جواد تقي
2020-05-12 03:37
من الصفحات السوداء التي تثقل كاهل التاريخ، ما تحمله من دماء وأشلاء ودمار وانتهاك للحرمات ولكرامة الانسان، بينما نلاحظ ثمة صفحات يفخر بها التاريخ لما تتنفس به من تسامي ورُقي في عوالم العلم والأدب والفن والبناء بما ينقل لنا من تجارب رائعة لشعوب عاشت ومضت في سعادة وهناء، ولو بنسب معينة، وهذه النسب هي التي تجذب الاجيال المتعاقبة على تصفح التاريخ لمطالعة هذه التجارب علّها تستفيد منها لزمانها، في حل المشكلات والازمات، ثم التقدم نحو بناء حياة أفضل.
بيد أن هذه الرؤية السطحية للتاريخ، بحد ذاتها تسبب خسائر لا تقل عن خسائر تلك الحروب كون التاريخ مجموعة أفعال ومآثر الشعوب والأمم، والحروب واحدة منها، فاذا كان هنالك حرباً كارثية قامت وفعلت ما فعلت بالبلاد والعباد، علينا مراجعتها بالبحث والدراسة في نشوئها، و اسباب استمرارها ليصار الى عدم تكرارها، أما اذا كانت حرباً دفاعية مقدسة تبعث على الفخر والاعتزاز، فهي تمثل درساً للاجيال في الردع والمنعة لمواجهة التحديات الخارجية، ومن هذه الحروب؛ معركة بدر، التي تسمى في التاريخ الاسلامي بـ"غزوة بدر" التي تعود الى صدر الإسلام، وكان الانتصار فيها على المشركين بمنزلة الانطلاقة الكبرى نحو الظهور الحضاري الاكبر للإسلام في الجزيرة العربية وفي العالم.
دعاة الحرب يسقطون أمام استراتيجية السلام
يعتمد الاسلام في منهجه العسكري على الدفاع متخذاً إياه استراتيجية بعيدة المدى، فهو يحمل رسالة السلام والأمان الى العالم، وأبرز المصاديق العملية لذلك؛ الرحمة والعفو التي جاءت انعكاساً لاحدى صفات الله –تعالى- فكان النبي الأكرم في الخطاب القرآني: {رحمة للعالمين}، فلا إثارة للنزعات القومية والازمات السياسية بين الدول لخلق أجواء الحرب، وإذكاء روح الكراهية والاحقاد التاريخية بين الشعوب، كما يحصل في التاريخ المعاصر، إنما التفكير منصبّ على البناء بعد إزالة أنقاض الماضي، أما اللجوء الى القوة العسكرية فهو لردع العدو والتصدّي له فقط. وهذا ما رافق الظروف الاجتماعية والسياسية لغزوة بدر التي وقعت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة، أي بعد عامين من استتباب الأمر للنبي الأكرم وللمسلمين في المدينة، فقد كان مشركوا قريش يواصلون حربهم ضد النبي ورسالته السماوية وهو في المدينة، فالاستفزازات مستمرة لمن بقي من أقرباء وأتباع النبي في مكة، كما كان المسلمون يتعرضون بين فترة وأخرى لهجمات عسكرية مباغتة من قبائل عربية متحالفة مع المشركين، "كما حصل لكرز بن جابر الفهري الذي أغار بمن معه من الاعراب على المدينة واستولى على الابل والمواشي مما اضطر النبي ان يقود سرية في طلبه"، (سيرة المصطفى- هاشم معروف الحسني)، مما يؤكد الموقف الدفاعي للنبي أمام المشركين، ثم جاء التأييد الإلهي للمسلمين في الآية الكريمة: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا}، (سورة البقرة، الآية217)، وهي الآية التي نزلت بعد حادثة سرية عبد الله بن جحش، وسبقت غزوة بدر، عندما هاجمت السرية التي بعثها رسول الله لغرض الاستطلاع على المناطق تحت سيطرة مشركي قريش، قافلة للمشركين، وقلتوا منهم جماعة، وكان ذلك في شهر رجب الحرام، فاستغلها المشركون والمتحالفين معهم من اليهود والمنافقين للنيل من المسلمين بأنهم خرقوا عهداً يلتزم به العرب بحرمة القتال في الأشهر الحُرم، فنزلت الآية الكريمة لتطئمن النبي والمسلمين بأن ما تعرضوا له من تنكيل واضطهاد وتشريد أكبر من القتال في الشهر الحرام، علماً أن النبي ومعه الثلّة القليلة تعرضوا لأعمال قتل عديدة طيلة ثلاثة عشر سنة، تخللتها الأشهر الحُرم، ومنها المحاولات العديدة لاغتيال النبي الاكرم، لكن يبدو أن الحرب في العرف الجاهلي آنذاك هو اصطفاف جبهتين وسط الصحراء والمبارزة والتحام السيوف والرماح، وغير هذا لا يعد حرباً وقتالاً.
كان النبي الأكرم يريد من وراء غزوة بدر تحقيق أقصى درجات العزّة والمنعة للمسلمين في إطار استراتيجية الردع أمام المشركين في مكة، وكانوا حينها يمتلكون السلاح والمال والرجال المتمرسين على القتل والقتال، ففي كل الحسابات العسكرية، لم يكن لرؤوس الشرك في مكة مثل؛ أبي جهل، وأبي سفيان، وأمثالهما، أن يهدأ لهم بال، والنبي ومعه جموع المسلمين من المهاجرين والانصار تتعاظم قوتهم في المدينة، فكان لابد من توقع كل شيء من المشركين إن عاجلاً أو آجلاً.
من هنا كان قرار النبي بالتعرض للقافلة التجارية المتجهة الى الشام بقيادة أبي سفيان، وحسب كتب السيرة والتاريخ فان هذه القافلة كانت من الضخامة أن مثلت جزءاً كبيراً من رأسمال المكيين، فلم يبق أحد في مكة إلا وكان له مالاً في هذه القافلة، فعندما بلغهم الخبر كان بمنزلة الصاعقة عليهم جميعاً، وبداية لنهاية الغطرسة والتجبّر، وفيما كان النبي متجهاً صوب القافلة، كان أبو سفيان قد بلغته أنباء عن تحرك المسلمين باتجاهه، وأنهم بالقرب من ماء بدر "رجع بالعير يضرب وجهها عن الطريق متجهاً بها نحو الساحل تاركاً بدراً الى يساره حتى نجى بالقافلة".
الى هنا تكون اسباب الحرب منتفية من الناحية المنطقية، ولكن للجاهلية وما انطوت عليه من تجبّر وخيلاء رأي آخر مثله أبو جهل الذي كان في مقدمة المصرين على القتال وعدم العودة الى مكة، رغم علمهم بنجاة القافلة وعودتها الى مكة، أما النبي الأكرم، فكان موقفه التريّث ومشاورة أصحابه في القتال من عدمه، فكان الجواب بالتحذير من عمر بن الخطاب الذي راح يطلق التحذيرات بأن "إنها قريش...! والله ما ذلت منذ عزّت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لا تسلّم عزّها ابداً ولتقاتلنك فلتهب لذلك أهبته، وأعدّ لذلك عدته"! بينما نقرأ في كلام آخرين جسدوا الإيمان الحقيقي بالرسالة مثل المقداد بن عمرو الذي قال: "والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لنبيها: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}. كما انضم لنفس الصوت جمهور الانصار على لسان زعيمهم سعد بن معاذ.
بهذه الروحية العالية خاض النبي الأكرم الحرب الدفاعية ضد المشركين المصرّين على كفرهم، و على قتال المسلمين، ورغم قلّة المسلمين وضآلة عدتهم واسلحتهم، إلا أنهم انتصروا على المشركين بقوة إيمانهم وعزيمتهم، فقتلوا رؤوس الشرك وصناديد قريش وهم حسب المصادر التاريخية؛ سبعون رجلاً، كان نصيب ذو الفقار؛ خمسة وثلاثين، وفي رواية تاريخية أخرى خمسة وعشرين، بينما سقط من المسلمين أربعة عشر شهيداً فقط.
"أغزوهم قبل أن يغزوكم"
قالها أمير المؤمنين، عليه السلام، وكان الحاكم الرسمي الى جانب قيادته الرسالية والسماوية، وهو يحثّ ابناء الأمة على قتال أصحاب الفتنة من أحفاد تلك الجاهلية التي قاتلها الى جانب رسول الله، مع الفارق أنه قاتل على التأويل ورسول الله قاتل على التنزيل، فهو، عليه السلام، لم يبحث عن الحرب والقتال منذ الايام الاولى التي عارضه فيها الأمويون والمنافقون والانتهازيون، ورفض البعض بيعته، ولو لم يخرج طلحة والزبير وعائشة من المدينة الى البصرة، ولو لم يحشد معاوية جيش الشام للقتال تحت راية قميص عثمان، لما خرج أمير المؤمنين من المدينة، مركز الخلافة الاسلامية الى العراق، لما كان يخوض كل تلك المعارك المفروضة عليه، وعندما كان يدعو المسلمين، وتحديداً أهل الكوفة للقتال لم يكن ليريدهم احتراف الحرب والقتال لاهداف سياسية وتوسعية، إنما كان يريد العزّة لهم في ظل حياة السلم والاستقرار، فقال لهم: "أغزوهم قبل أن يغزوكم ، فو اللّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلاّ ذلّوا ، فتواكلتم ، و تخاذلتم حتّى شنّت الغارات عليكم ، و مُلكت عليكم الأوطان".
إن رسول الله، صلى الله عليه وآله، ومن خلال استراتيجية الردع التي اتبعها مكنته من تحويل مجتمع المدينة المكون من المهاجرين والانصار، يفتقرون الى الاموال والسلاح والامكانات، الى قوة عسكرية وسياسية واجتماعية هائلة في الجزيرة العربية في غضون العشر سنوات من عمر النظام السياسي الذي أقامه النبي في المدينة، وفي فترة قياسية في حساب الدول والانظمة السياسية في العالم، وهو النظام الذي يعد جزءاً من الحضارة المتكاملة التي شيدها وأطلق شعاعها الى أرجاء العالم، وهذا يفسر لنا سر انتصار النبي في معظم غزواته ومعاركه مع المشركين وحلفائهم في الجزيرة العربية في الفترة المشار اليه، لانه لم يكن يبذل جهده في التسليح والانفاق العسكري بقدر ما كان يركز جهده المادي والمعنوي على البناء الاجتماعي ليكون هو العمود الفقري للجيش، وفي أيامه الاخيرة كان الجيش الاسلامي قد بلغ قوامه ثلاثين ألف مقاتل حشدهم رسول الله بقيادة أسامة بن زيد، ذلك الشاب اليافع ليتجه صوب دولة الروم في سلسلة من الاحداث لسنا بوارد الخوض فيها، وقد ذكر المؤرخون أنه، صلى الله عليه وآله، كان عازم على أن يغزوهم قبل أن يغزو هم المسلمين بعد أن قتلوا من المسلمين افراداً في احداث عدّة.
حتى تلك اللحظات كانت الأمة تعيش العزة والكرامة والمنعة، ليس أمام قبائل او جماعات من اليهود المعارضين للإسلام، وإنما أمام إحدى القوتين العظميين في الارض آنذاك، وهي؛ الروم. ولكن؛ بعد رحلته عن الحياة الدنيا بدأ العدّ التنازلي للأمة نحو الذلّ التي تحدث عنه أمير المؤمنين، ولمسه بنفسه بعد حوالي خمسة وعشرين سنة من غياب النبي الاكرم، فكان التخاذل والخيانة وضعف الايمان ينخر في جدار الردع أمام الاعداء، علماً أن من لم يشارك في صناعة هذا الردع يظن أنه ناجٍ من نار المواجهة، ولكن الايام اثبتت، وتثبت دائماً أنه أول قطعات الحطب في نار الحروب والفتن التي تضرب الأمة.