عوامِل التَّمكين وأسباب النهضة
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ السَّابِعَةُ
نـــــزار حيدر
2020-04-27 04:30
(١)
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}.
التَّمكينُ لُغةً هو إِسمٌ، والمصدرُ مكَنَ تمكينًا فهو مُمَكِّن، والمفعُولُ مُمكَّن.
ومكَّنَ لهُ في الشَّيء؛ جعلَ لهُ عليهِ سُلطانًا وقُدرةً، ومَكَّنَ فُلانًا من الشَّيءِ؛ أَمكنهُ منهُ، ومكُنَ يمكُنُ مكانةً فهوَ مَكِينٌ والجمعُ مُكَنَاءُ، كما في قولهِ تعالى {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أَي صاحبُ مكانةً ومنزلةً.
وقولهُم؛ مكُنَ الرَّجلُ عند النَّاسِ؛ صَارَ ذَا مَنْزِلَةٍ وَرِفْعَةٍ وشَأْنٍ.
ومَكُنَ البِنَاءُ؛ صَارَ قَوِيّاً.
وقولُنا؛ سَعى إِلَى تَمْكِينِهِ مِنَ النَّجَاحِ؛ جَعْلُهُ مُتَمَكِّناً مِنَ النَّجَاحِ.
وتمكينُ المُستأجرِ من العَينِ المُؤَجَّرة؛ (في المَفهُومِ القانُوني) تخويلهُ السُّلطة عليها إِمَّا بالإِقامةِ فيها أَو باستغلالِها.
ولقد وردت الكلمةُ في القرآنِ الكريمِ بمُختلفِ هذهِ المعاني [١١] مرَّة، وعلى خَمسة مُستويات؛
تارةً خُصَّ بها فردٌ كقولهِ تعالى {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
وتارةً خصَّ بها أَمَّةٌ أَو جماعةٌ من النَّاسِ كقولهِ تعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}.
وتارةً شيءٌ كقولهِ تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} و[القرار] مصدر أُريدَ بهِ المقر مبالغةً، والمُرادُ بهِ الرَّحم التي تستقر فيها النُّطفة، والمكينُ المُتمكِّن، وُصفت بها الرَّحم لتمكُّنها في حفظ النُّطفةِ من الضَّيعةِ أَو الفسادِ، أَو لكَونِ النُّطفةِ مُستقِرَّة مُتمكِّنة فيها.
وتارةً التَّمكينُ من شيءٍ ماديٍّ كقولهِ تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}.
وتارةً يكونُ التَّمكينُ لشيءٍ ومِن شيءٍ معنوِيٍّ (روحيٍّ) كقولهِ تعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَو كقولهِ تعالى {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
والتَّمكينُ تارةً للإِنسانِ كإِنسانٍ بغضِّ النَّظرِ عن إِيمانهِ، وهو التَّمكينُ العام كقولهِ تعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} وتارةً للإِنسانِ بصفةِ دينهِ وإِيمانهِ وهو التَّمكينُ الخاص كما في قولهِ تعالى {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
في شهرِ الله الفضيل {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ} سنطرقُ في كُلِّ ليلةٍ بابَ آيةٍ أَو آياتٍ من كتابِ الله الحكيم، لنستكشِفَ أَسباب وأَدوات وعوامِل التَّمكين لننهضَ بواقعِنا أَو بعضهِ.
(٢)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فالعباداتُ، إِذن، هي من أَدوات أَو أَسباب التَّمكين التي شرَّعها الله تعالى لعبادهِ لتحسينِ أَدائهِم وتغييرِ سلوكيَّاتهِم للأَحسن، إِن على الصَّعيد الفردي أَو على صعيد المُجتمعِ.
فالصِّيامُ، مثلاً، يصقِل شخصيَّة الإِنسان على مُستويَينِ أَساسيَّينِ؛
الأَوَّل؛ هو الإِمساك عن الشَّهواتِ ما يخلُق عندهُ ملَكة ضبط إِيقاعات النَّفس طِوال العام، فتتغيَّر عندهُ ثقافة الإِستئثار إِلى ثقافة الإِيثار، والشَّراهةِ في طلبِ الأَشياءِ إِلى القناعة في حالِ عدمِ القُدرةِ على الحصُولِ عليها، حتَّى يتخلَّص من المفاهيمِ الواردةِ في الحديثِ الشَّريفِ {مَن أَكلَ ما يشتهي لَم ينظُر الله إِليهِ حتَّى ينزَع أَو يترُك}
وبالصَّومِ يتحكَّمُ المرءُ بشهواتهِ ورغباتهِ، حتى يصدُق عليهِ قولُ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) {أَشجعُ النَّاسَ من غلبَ هواهُ}.
وبالصَّومِ كذلكَ ينتبهَ المرءُ إِلى جَوهر وجودهِ في هذه الدُّنيا، والذي وصفهُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) بقولهِ {فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ!}.
وهكذا بالنِّسبةِ إِلى بقيَّة السُّلوكيَّات السلبيَّة في حياةِ الإِنسان مثل الإِفراط والتَّبذير والإِسرافِ وغير ذلك.
الثَّاني؛ هو البُعد الإِجتماعي، فالعباداتُ تثيرُ عندهُ الإِهتمام بالآخَرين والتَّفكير بالمُجتمع، فينتقل المرءُ من عقليَّة الأَنا الفرديَّة إِلى عقليَّة النَحنُ الجمعيَّة، وبذلك ستتهيَّأ الأَرضيَّة لصناعةِ فُرص التَّكافل الإِجتماعي والتَّراحُم على مُستوى عالٍ من المَسؤُوليَّة.
يقولُ أَميرُ المؤمنينَ (ع)؛
وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إِلَى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الاْطْعِمَةِ ـ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْـيَمَامَةِ مَنْ لاَطَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ ـ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة* وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ
أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ!.
والصِّيامُ يُعيدُ صياغة الشَّخصيَّة الإِيمانيَّة بقضائهِ على أَخطر ثلاث آفات يُبتلى بها المرءُ عندَ الغفلةِ والإِنشغالِ بالحياةِ.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {أَزْرَى بِنَفْسِهِ [حقَّرها] مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ، وَرَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ ضُرَّهُ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ.