النُّهوض الحضاري بالعمل والعلم والنقد الذاتي
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ-السَّنةُ السَّادِسَةُ
نـــــزار حيدر
2019-06-02 04:38
ثقافة الاعتراف بالخطأ
(لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ).
إِنَّ أَروع ما يلزم أَن يتَّصفَ بهِ المُجتمع هو أَن يُشجِّع على الإِعترافِ بالخطأ، مِن دونِ تشهيرٍ! لأَنَّ التستُّر على الخطأ يولِّد النِّفاق وقد يتحوَّل إِلى جريمةٍ إِذا تضخَّم كثيراً!.
وهذهِ النَّظريَّة يلزم أَن تشيعَ كثقافةٍ في كلِّ حلقاتِ ومفاصلِ المُجتمع.
ففي الأُسرة يلزم أَن يشجِّع الأَبوان أَولادهُم على الإِعترافِ فوراً إِذا ارتكبُوا خطأ ما مهما كانَ تافِهاً أَو حقيراً، فالطِّفلُ على وجهِ التَّحديد لا يُمكنهُ تقدير حجم الخطأ ولذلكَ يلزم تعليمهُ وتشجيعهُ على الإِعترافِ بهِ بسرعةٍ! فذلكَ أَوَّلاً يعلِّم الصِّغار كيفَ يميِّزونَ بينَ العملِ الصَّحيح والآخر الخطأ من دونِ إِكراهٍ أَو عُنفٍ.
كما أَنَّ ذَلِكَ يسهِّل على الأَبوَين مهمَّة تصحيح الخطأ لأَنَّ الخطأ وهو صغيرٌ لم يمرَّ عليهِ زمنٌ طويلٌ من السَّهلِ معالجتهُ وتصحيحهُ، أَمَّا إِذا مرَّ عليهِ وقتٌ فسيكبر بالتَّأكيد وبالتَّالي يصعب تصحيحهُ، فالخطأُ ككُرةِ الثَّلج كلَّما تدحرجَ مدَّةً أَطول كلَّما تضخَّمَ وتوسَّعَ وتعقَّدَ!.
فضلاً عن ذَلِكَ فإِنَّ تشجيع الأَبناء على الإِعترافِ بالخطأ يعلِّمهم كيفَ يواجهونَ الحقيقة؟ وكيفَ يتحمَّلون المسؤُوليَّة؟ وكذلكَ يربِّيهم على الشَّجاعة والمُبادرة، وهذهِ كلَّها صفاتٌ تبني منهُم شخصيَّةً ثابتةً وموزونةً لا تخاف المُواجهة ولا تتردَّد في التَّعاملِ مع الخطأ!.
كذلك الحال فيما يخصُّ التِّلميذ في المدرسةِ والعامل في محلِّ العمل وهكذا.
إِذا تربَّى المُجتمع على ذَلِكَ فعندها سنحصد سياسيِّين يتسنَّمونَ مواقع المسؤُوليَّة في الدَّولة يعترفُون بالخطأ والفشل إِذا أَخطأوا أَو فشلُوا فلا تأخُذهُم العزَّة بالإِثمِ ولا يبرِّرونَ لأَنفسهِم مهما كان الخطأُ صغيراً أَو كبيراً.
يَقُولُ تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وكيفَ لا يصرُّ المرء على ما أَخطأَ إِذا لم يتربَّ على الإِعتراف بالخطأ منذُ نعُومة أَظفارهِ؟! وكيف يفعلُ ذَلِكَ إِذا كان يعيش أَجواء الرُّعب والخَوف والإِرهاب في الأُسرة بمجرَّد أَنَّهُ يرتكب خطأ ما فلم يجرُؤ على البَوحِ والإِعتراف بهِ؟!.
يوصي أَميرُ المُؤمنينَ (ع) مالكاً الأَشتر لمَّا ولَّاهُ مِصر بقولهِ (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع).
ويُضيفُ محرِّضاً على كشفِ الحقائق والإِعتراف بالخطأ علناً جَهاراً بقولهِ (وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً، فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ فِيه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ).
إِنَّها أَفضلُ رياضةٍ للنَّفس وللآخرين لتوطينهِم على المُبادرةِ للإِعترافِ بالخطأ وعدم الإِصرار عليهِ.
أَما القرآن الكريم فيحرِّض على ذَلِكَ بقولهِ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ).
حتَّى في ساحةِ الحرب فإِنَّ المُشرِّع يحثُّ على مُساعدة العدو للإِعترافِ بذنبهِ وإِفساح المجال لَهُ للتَّراجع في اللَّحظة التي يشعرُ بها أَنَّهُ كانَ على خطأ، يَقُولُ تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
النُّهوض الحضاري بالعمل
(وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).
لذلك لا يُقاسُ المرءُ بعلمهِ وتديُّنهِ وانتمائهِ وخلفيَّتهِ وهيأَتهِ ولباسهِ وزيِّهِ وموقعهِ، وإِنَّما بعملهِ وبإِنجازاتهِ، فإِن كانت خيراً فخيرٌ وإِن كانت شرّاً فشرٌ!.
إِختبرهُم بالسُّلطةِ وموقع المسؤُوليَّة!.
قال تعالى (ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
إِنَّ كلَّ آيات الجَزاء سَواء التي تتحدَّث عن الجزاءِ الدُّنيوي أَو الآخروي تحصر التَّقييم في مِعيارِ العملِ كقولهِ تعالى (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
كذلكَ التَّفاضل بالعملِ الصالح (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ۚ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ) و (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) و (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ).
أَمَّا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فكتبَ للأَشترِ لمَّا ولَّاهُ مِصر (ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ مَا أَبْلى).
ويقولُ (ع) (الْعَمَلَ الْعَمَلَ، ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ، وَالاسْتَقَامَةَ الاسْتِقَامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ! إنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إلى نِهَايَتِكُمْ، وَإنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ، وَإنَّ لِلاْسْلاَمِ غَايَةً فانْتَهُوا إلى غَايَتِهِ، وَاخْرُجُوا إلَى اللهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ، وَبَيَّنَ لكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ).
العمل، إِذن، هو المعيار، فهو معيارُ عِلم وجَهل الإِنسان لأَنَّ ذلك ينعكسُ على عملهِ، كما يَقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) (لاَ تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلاً، وَيَقِينَكُمْ شَكّاً، إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا، وَإِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا) وهو معيارُ ثباتهِ أَو انحرافهِ، وهو معيارُ نزاهتهِ أَو خيانتهِ، ومعيارُ ما يملِك من خبرةٍ وتجربةٍ، وهو كذلك معيار التقدُّم والتأَخُّر، ومعيار النُّهوض والتَّكاسل.
هو أَوَّلُ معيارٍ لكلِّ المعايير الأُخرى!.
وإِنَّما صدَّق يوسُف (ع) دعواهُ للملكِ (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) بإِنجازاتهِ العظيمةِ ونجاحاتهِ الباهرةِ.
حتى التَّعليمُ يُقاس الْيَوْم بساعاتِ الدراسة، كما أَنَّ سَعة النُّهوض الحضاري تُقاسُ بساعات العمل ونتاجَها ونوعهُ!.
فالمجتمعُ الذي يعملُ بجُهدٍ وجدٍّ ونشاطٍ بطاقةٍ زمنيَّةٍ كاملةٍ، وأَنَّ المُجتمع الذي تلتزم فِيهِ المؤَسَّسة التعليميَّة وبكلِّ مراحلها بأَقصى ساعات التَّعليم، كمّاً ونوعاً، هو مجتمعٌ ناجحٌ لأَنَّهُ مُنتجٌ يستغل الوقت ولا يهدر شيئاً مِنْهُ.
أَمَّا المُجتمع الذي عدد أَيَّام العُطلة عندهُ نصفُ عدد أَيَّام السَّنة، وأَنَّ معدَّل ساعات العمل طِوال العام هو [ساعة و٤٠ دقيقة باليَوم] فهوَ مُجتمعٌ مُتأَخِّر ومتخلِّفٌ ومُتراجعٌ عن ركبِ الحضارةِ، وهو مجتمعٌ تتكلَّس طاقاتهُ ويهدر وقتهُ ويضيِّع عُمره!.
هل عرفتُم ما اسم هذا المُجتمع؟!.
علينا أَن ننتبهَ للوقتِ والذي هو كالَّسيف إِن لم تقطعهُ قطعكَ، ننتبهَ لَهُ لنرى، مثلاً، كم ساعةٍ نعملَ في الْيَوْم؟! وكم ساعةٍ نقرأ؟! وكم ساعةٍ ننام؟! حتى نغيِّر جدوَلنا اليومي إِذا اكتشفنا أَنَّنا ننامُ يومياً [١٢ ساعة] أَو أَكثر! أَو إِذا انتبهنا إِلى أَنَّنا لا نقرأ يوميّاً وقد نفتحُ كتاباً ونتصفَّحُ أَوراقهُ مرَّةً بالشَّهر أَو رُبما بالسَّنة! ونعيدُ حساباتنا إِذا اكتشفنا أَنَّنا نعمل يوميّاً ساعةً أَو ساعتَين فقط! ومعَ ذلك فإِنَّنا مشغولُون طِوال الْيَوْم! كيف؟! بالچات في وسائِل التَّواصل الإِجتماعي ومُتابعة المُسلسلات السَّخيفة والأَلعاب الإِليكترونيَّة التي تُدمِّر الأَعصاب وتقضي على الوقت! ومشغولُونَ بالقيل والقال وبالكلام الفاضي وبتقييم الآخرين ومُراقبتهُم!.
إِنَّ تضييع الوقت بالكلامِ الفارغ أَو بالإِنشغالِ بما هو ليسَ ضروريّاً وليس مُهمّاً هو من أَعظم الفساد الذي تتحدَّث عَنْهُ الآية الكريمة! فالحياةُ، لكلِّ واحدٍ منَّا، فرصةٌ واحدةٌ لم ولن تتكرَّر، ونحنُ مسؤُولون عنها فإِذا ضيَّعناها ولَم نُنتج شيئاً مُفيداً ضيَّعنا الفُرصة التي وهبها لنا ربُّ العزَّة والتي قَالَ عنها (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) وعندما تضيعُ الفُرصة نتمنَّى العودةَ لحظةَ المَوت (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)!.
أَو الذي يتمنَّى أَن يتأَخَّر عَنْهُ الموتُ قليلاً ليعوِّض عمَّا فاتهُ (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) وقولهُ تعالى (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ).
أَمَّا الذي وظَّف كلَّ نَفَسٍ في حياتهِ لإِنجازِ عملٍ صالحٍ ما، فلن يتحسَّر لحظة المَوت أَو يطلب تمديداً وإِنَّما يصرخ واثقاً من نفسهِ (فُزتُ وربِّ الكَعبَةِ).
ذلك هو أَميرُ المُؤمنينَ (ع) الذي يَقُولُ (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ).
الصَّبر على العِلم
(قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا).
وهل يحتاجُ العلمُ إِلى الصَّبرِ؟!.
أَكيد، فإِذا لم نصبِر على طلبِ العلمِ فسوفَ نستعجل، وإِذا استعجلنا فسنفشلُ في اكتسابهِ ونظلُّ نتخبَّط في الجهلِ!.
إِنَّ الكثيرَ من النَّاسِ لا يصبرُونَ على العلمِ ولذلك ضيَّعوا الفُرص عندما اكتفُوا الْيَوْم بمتابعةِ وسائل التَّواصل الإِجتماعي التي تحوَّلت بالنِّسبةِ لهم إِلى مصدرٍ مفضَّلٍ ووحيدٍ للعلمِ والمعرِفة! ولأَنَّها لا تحمل العِلم الحقيقي ولا تنقُل المعرِفة الحقيقيَّة إِذ أَنَّها محشوَّةٌ بالكثيرِ جدّاً من الأَكاذيب والخُزعبلات والفَبركات والمصادرَ المشبوهة ولذلكَ ساهمت بشَكلٍ كبيرٍ في تسطيحِ الوعي!.
وكثيرٌ من النَّاس يبحثُون عن علمٍ [سندَويجي]! على عجلٍ! وهؤُلاء كذلكَ سيطر عليهمُ الجهلَ حتى باتت عقولهُم خفيفةٌ يستخفُّ بها القاصي والدَّاني! فالعلمُ الحقيقيُّ لا يُمكنُ حصرهُ بسندَويجةٍ صغيرةٍ!.
إِذا رأيتَ أَحداً مستعجلٌ على العلمِ فتأَكَّد بأَنَّهُ جاهلٌ لا يفقهُ شيئاً، لأَنَّ طالب العلم الحقيقي همَّتهُ الرِّعاية وليسَ الرِّواية والعكسُ هو الصَّحيح بالنِّسبةِ إِلى طالبِ العلم المزيَّف فهمَّتهُ الرِّواية، يستعجل تعلُّم شيئٍ لنسخِهِ ولصقِهِ ونشرهِ بُسرعةٍ.
يَقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) (اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَة لاَ عَقْلَ رِوَايَة، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ).
والخبرُ هنا إِشارةٌ إِلى العلمِ بالمُجمل، فكيفَ نعقِلُ الخبر عقلَ رِعايةٍ إِذا لم نطلُب العلم الحقيقي والذي لا يتحقَّق لنا إِلَّا بالصَّبر؟!.
الرِّعايةُ بحاجةٍ إِلى صبرٍ.
يَقُولُ تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وفِي أُخرى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) و (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ).
إِنَّ الصَّبر على العِلم يثبِّتهُ في القلبِ والعقل، أَمَّا الإِستعجال فلا يساعدُ على إِستقرارهِ، وإِنَّما يبقى متردِّدٌ على اللِّسان من دونِ استيعابٍ وفَهم، قابلٌ للذِّهاب والنِّسيان في أَيَّةِ لحظةٍ.
والصَّبرُ من أَدواتِ البحث العلمي والذي هو الطَّريق إِلى التقدُّم والتَّنمية.
إِنَّ الإِستعجال في طلبِ العِلم ينتهي بصاحبهِ إِلى أَحدِ أَمرَين؛
* فإِمَّا أَنَّهُ لا يستوعب العِلم الحقيقي عندما يكتفي بالقُصاصات الطَّائرة التي تصلهُ من هُنا وهُناك عِبر وسائل التَّواصل الإِجتماعي!.
* وهو بالتَّالي يظلُّ بمستوىً واحدٍ من الثَّقافة والمِعرفة لا يتطوَّر أَبداً! ولذلكَ يستعدي العِلم الحقيقي عندما لا يستوعبهُ!.
إِنَّ الثَّقافة الحقيقيَّة لا يجدها الإِنسان في وسائل التَّواصل الإِجتماعي بل في بطونِ الكُتب والمجلَّدات والدوريَّات العلميَّة الحقيقيَّة والبحُوث المُعتبرة وكلُّ هَذِهِ تحتاجُ إِلى الصَّبر لقراءتِها والإِطلاع عليها ومعرفتها وهضمها! ولذلك لا يلجأ إِليها النشء الجديد على وجهِ الخُصوص لأَنَّهُ مُستعجل! مستعجلٌ في كلِّ شَيْءٍ ومن ذلك في طلبِ العِلم!.
تابعتُ الْيَوْم تحقيقاً مصوَّراً عن الشَّيخ عُثمان طه الخطَّاط القدير الذي كتبَ نُسخة القرآن الكريم المعروفة بمُصحف [المدينة النبويَّة] وهي الأَكثرُ انتشاراً وتداوُلاً بين المسلمين في العالَم! ومن خلال حديثهِ تبيَّن لي كم هوَ صبورٌ يتحلَّى بالصَّبر والتحمُّل الذي زرعَ عندهُ التأَنِّي والدقَّة فأَهَّلهُ ذلك لكتابةِ المُصحف الذي تستغرقُ النُّسخةَ مِنْهُ [٣] سنوات كامِلة!.
وعندما تنتبهَ وتدقِّق جيِّداً بنُسخة المُصحف الشَّريف فستجد كم أَنَّ الشَّيخ الخطَّاط دقيقٌ في كلِّ شَيْءٍ! وذلكَ بفضلِ تحلِّيهِ بالصَّبر!.
فإِذا كانت كتابة المُصحف الشَّريف بحاجةٍ إِلى كلِّ هذا الصَّبر! فكم نحتاجُ مِنْهُ لفهمهِ ووعيهِ واستيعابِ معانيهِ ودروسهِ وقَصصهِ وتشريعاتهِ وكلَّ ما يحتويهِ من علومٍ ومعارفَ وأَحكامٍ؟!.
فهل نستغربَ قولهُ تعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)؟!.
ثم يأتي كلَّ مَن هبَّ ودبَّ مِن جماعة [الواتس آب] و [الفيس بوك] يُرِيدُ أَن يتفلسف بالقُرآن الكريم ويُبدي رأيهُ بآياتهِ ويستنبط منها أَحكامهُ وتشريعاتهُ ويميِّز بينَ المُحكمِ والمُتشابهِ في آياتهِ وهو الذي لم يصرف من وقتهِ شيئاً لوعيِ آيةٍ!.
إِنَّ كلامَ الله تعالى والعلُوم والمعارِف بشَكلٍ عامٍّ لا يستوعبها جيلُ [الواتس آب] ولا يفهمها جيل [الفيس بوك]!.
يلزم أَن ننتبهَ إِلى أَنفسِنا فلا نخدعها بالعلُوم الساندويجيَّة! فنصدِّق بأَنفسِنا إِذا مررنا بآيةٍ أَو روايةٍ! فنغترَّ لندَّعي أَنَّا قادرونَ على التَّفسيرِ والفَهمِ والإِستنباطِ! إِذ يلزمنا أَن نصبرَ على طلبِ العلمِ وإِلَّا فسوفَ لن نحصلَ على شَيْءٍ مِنْهُ أَبداً! ونظلُّ نخبُطُ خبطَ عشواءَ في ظُلماتِ الجهلِ!.
أَرأَيتم الفرق الكبير والواسع بينَ من يجلس على مائدةِ الطَّعام وبينَ مَن يطلب ساندويجة؟! فذلك هو الفرقُ بين علُوم ومعارف [الفيس بوك] والكتاب!.
ينبغي لنا أَن نتسلَّح بالصَّبر لطلبِ العلمِ والمعرِفة والتي يَقُولُ عنها رَسُولُ الله (ص) (مَن سلَكَ طريقًا يبتغي فيهِ عِلمًا سلَكَ اللَّهُ بِهِ طريقًا إِلى الجنَّةِ، وإنَّ الملائِكةَ لتضعُ أجنحتَها رِضاءً لطالبِ العلمِ وإنَّ العالِمَ ليَستغفرُ لَهُ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ حتَّى الحيتانُ في الماءِ، وفضلُ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ، إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا دِرْهمًا إِنَّما ورَّثوا العلمَ فمَن أخذَ بِهِ فقد أخذَ بحظٍّ وافرٍ).