التاريخ يكتبهُ المزوِّرون...!
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ-السَّنةُ السَّادِسَةُ
نـــــزار حيدر
2019-05-25 05:28
المُجتمعُ الجاهلُ يُسيطرُ عليهِ التضليل
(قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
ليسَ بالضَّرورةِ أَن يكتشفَ الرَّأي العام الحقائق المُتعلِّقة بأَمرٍ ما في نفسِ وقتِ حدوثهِ ووقوعهِ، فبعضُ الحقائق تتِّضح بسرعةٍ وبعضها بحاجةٍ إِلى وقتٍ، وبعضها الآخر بحاجةٍ إِلى عقودٍ من الزَّمن، كما هو الحالُ مثلاً مع قصَّة الإِتِّهام الخطير الذي تعرَّض لَهُ نبيَّ الله يوسف (ع) من قِبل إِمرأَة العزيز!.
ولذلك ينبغي أَن يتحلَّى صاحبُ الشأن بالصَّبر إِلى حينِ أَن يكتشفَ الرَّأي العام الحقائق، أَمَّا إِذا أَخذ الأَمرُ مِنْهُ مأخذهُ فقد يدمِّرهُ ويُنهي حياتهُ، كما يحصل لكثيرينَ عندما يتوقَّفُون عند شائِعةٍ خطيرةٍ تعرَّضوا لها أَو تُهمةٍ مدمِّرةٍ انتشرت ضدَّهم، أَمَّا يوسُف (ع) فلم ينشغلَ بكلِّ ذَلِكَ وإِنَّما انشغلَ بإِنجازِ مُهمَّاتهِ والنَّجاحات التي قادت الرَّأي العام للكشفِ عن كلِّ الحقائق التي ظلَّت غامضةً عليهِ مدَّةً طويلةً.
فما الَّذي يحدِّد الفترة الزمنيَّة التي يحتاجها الرَّأي العام ليكتشفَ حقائقَ الأُمور وخاصَّةً الغامضةَ منها؟!.
* الوَعي والبصيرة والفِهم، فالمُجتمع الواعي لا تنطلي عليهِ الحقائق إِلَّا لفترةٍ وجيزةٍ، فهو بوعيهِ وإِدراكهِ يكتشفَ الصحّ من الخطأ بسرعةٍ، أَمَّا المُجتمع الجاهل والغبي والأَحمق فتراهُ يصدِّق بكلِّ شائعةٍ بل تراهُ هو الذي ينشرَها على نطاقٍ واسعٍ حتَّى من دونِ أَن يتريَّث ويتساءل.
المُجتمعُ الجاهل هو الذي يمكِّن عدوِّهِ من نفسهِ بنشرِ الشَّائعات والأَكاذيب والإِفتراءات! فيسقِّطُ بها بعضهُ البعض الآخر! فلم يبقِ لأَحدٍ حُرمةٍ ولا لشيءٍ قيمةٍ واعتبارٍ!.
يَقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) محذِّراً (وَاللهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ، وَيَهْشِمُ عَظْمَهُ، وَيَفْرِي جِلْدَهُ، لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ، ضَعِيفٌ ماضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ).
ويُضيفُ (ع) (أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ، فَأَمَّا أَنَا فَوَاللهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ، وَتَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَالاَْقْدَامُ، وَيَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذلِكَ مَا يَشَاءُ).
ولذلك فإِنَّ من نِعم الله على مُجتمعٍ ما أَن يجعلهُ يفهم ليكتِشفَ الحقائق بسُرعةٍ ويحصِّن وعيهُ بالفَهم والفِطنة، كما في قولهِ تعالى (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ).
* حجم الجُهد المبذُول للكشفِ عن الحقائق، وهي الفكرة التي نستوحيها من قولِ الله عزوجل (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).
لا ينبغي للعاقلِ أَن يتصوَّر بأَنَّ المُجتمع يعرف كلَّ شَيْءٍ ولذلك فلا داعي للكشفِ عن الحقائق إِذا ما سعى العدوُّ مثلاً إِلى تضليلِ الرَّأي العام، أَبداً، فمِنَ الخطأ الإِعتمادِ على الوعي العامِّ فقط للكشفِ عن الحقائقِ فقد يغفلُ المُجتمعِ عن أُمورٍ وقد يُشوَّش ذهنهُ وقد تغيبُ عَنْهُ أُمورٌ، ولذلك فإِنَّ من الضَّروري جدّاً بمكانٍ أَن يبذلَ المعنيُّون جهودهُم للكشفِ عن الحقائقِ خاصَّةً في القضايا المصيريَّة التي يكتنفها الغموض أَو التي تبدو هكذا.
ويتَّسع حجم المسؤُوليَّة بهذا الصَّدد عندما يمتلك العدوّ وسائل التَّضليل التي تقلب الحقائِق في إِطارِ حربٍ نفسيَّة واسعةٍ ومتشعِّبةِ الإِتِّجاهات، فعندها يَكُونُ المُجتمع ضحيَّة التَّضليل إِذا لم يتحمَّل المعنيُّون مسؤُوليَّة الكشف عن حقائقِ الأُمور على أَكملِ وجهٍ لتنويرِ الرَّأي العام ومُساعدتهِ على الوقوفِ على حقائقِ الأُمورِ! وتلك مسأَلةٌ ترتبط بالأَمنِ القومي والسِّلم الأَهلي والمُجتمعي! فالغموض قد يجرُّ إِلى حربٍ مثلاً.
يصفُ أَميرُ المُؤمنين (ع) حال المُجتمع الذي يتعرَّض للتَّضليل بقولهِ (أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ).
فالمُجتمعُ الجاهلُ بحقائقِ الأُمورِ الذي يُسيطرُ عليهِ التَّضليلِ يسهُل قِيادهُ من قِبَلِ الطَّاغوت والقائد الضَّرورة!.
أَلم يصف القرآن الكريم جَوهر الدَّعوة النَّبويَّة بقولهِ (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؟!.
الذِّكرى دروسٌ مجانيَّة
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
فماذا نتذكَّر؟ ولماذا؟ ومتى؟!.
١/ نتذكَّر التَّاريخ لنتعلَّمَ مِنْهُ دروساً وعبرَ، فالحياةُ سلسلةٌ مُترابطةٌ لا تنفصلُ عن بعضِها.
يَقُولُ تعالى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ).
٢/ ونتذكَّر الماضي لنحمي المُستقبل من أَخطائهِ، فالنَّظرُ للخلفِ يُحدِّد مسارنا المُستقيم للمُستقبل، كما ينظرُ السَّائق في المرآة الجانبيَّة والأَماميَّة ليتأَكَّد أَنَّهُ يسيرُ صحيحاً فلا يميلُ يَمنةً ويسرةً.
٣/ كذلكَ نتذكَّر الثَّمن الذي دفعناهُ من أَجل التَّغيير حتَّى لا يحنُّ أَحدٌ إِلى الماضي.
يَقُولُ تعالى (وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ).
فلقد كانَ موسى (ع) شديدُ الحرصِ لتذكيرِ قومهِ دائماً بما جرى عليهِم من أَجلِ أَن لا يلتفتُوا إِلى الوَراء فيحِنُّون إِلى الماضي، من جهةٍ، ومن أَجلِ أَن يستوعبُوا الثَّمن الذي دفعوهُ حتَّى تمَّ التَّغيير وأَنجاهم الله تعالى ليحمُوا التَّغيير ويبنُوا مُستقبلهم على أَكملِ وجهٍ، من جهةٍ أُخرى!.
٤/ ونتذكَّر ما نتعلَّمهُ بالدِّراسةِ والقراءةِ والمُطالعةِ، لنستفيدَ من العلمِ في العملِ، وإِلَّا فما فائدة ما نتعلَّم إِذا كُنَّا ننسى لحظةَ الحاجةِ إِليهِ؟!.
ولا ننسى فإِنَّ الذِّكرى كذلك تُكرِّس صفةَ التَّقوى والخَشية ومخافةَ الله عِنْدَ الإِنسانِ، فقالَ تعالى (سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ).
إِنَّ الذِّكرى تُحيي العقل بتنشيطِ الذَّاكرة، ما يُساهم في إِنضاج السِّيرة والسُّلوك والمواقف.
ولقد كتبَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) في وصيَّتهِ لإِبنهِ الحَسن المُجتبى السِّبط (ع)؛
أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالاَْيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الاَْوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ مَا فَعَلُوا عَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا! فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ انْتَقَلُوا عَنِ الاَْحِبَّةِ، وَحَلُّوا دَارَالْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيل قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ.
إِنَّ الذِّكرى دروسٌ مجانيَّة، دفعَ ثمنها آخرون، فلماذا نتجاهلَها فنكرِّرها لندفعَ ثمنها مرَّةً أُخرى؟!.
ولذلكَ لا يذَّكَّر إِلَّا العُقلاء، أَمَّا المجانين فينسُونَ بُسرعةٍ أَو يتناسَونَ ولذلكَ يكرِّرونَ التَّاريخ بأَسوئهِ.
يَقُولُ تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).
ولذلك يعتبر القرآن الكريم أَنَّ التَّذكرةَ توفيقٌ من الله تعالى والنسيانُ من الشيطانِ (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ* فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ* وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) وقولهُ (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).
فالَّذي يتذكَّر هو الذي يتميَّز بالحكمةِ لأَنَّ الذِّكرى من شروطِ الحِكمةِ، كما أَنَّ الذِّكرى دليلُ العقلِ.
يَقُولُ تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ* لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ).
فالتَّذكرة والموعِظة بالذِّكرى سببٌ أَساسيٌّ من أَسباب الإِستقامة، فكلَّما تذكَّر المرءُ كلَّما تمسَّك بالطَّريق رافضاً الإِنحراف عَنْهُ، والعكسُ هو الصَّحيح، فالَّذين ينسُون لا يستقيمُونَ، ولأَنَّ الله تعالى رحيمٌ بعبادهِ ويريدُ مساعدتهُم على الإِستقامةِ فلذلك قصَّ لنا قصَص الأَوَّلين لنتَّخذَ منها عبرةً ودروساً وتجارِب تزيدُ في وعينا وتُساعدنا على الإِستقامةِ للوصُولِ إِلى الهدفِ.
يَقُولُ تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
إِنَّ النِّسيان أَو التَّناسي والغفلة سببٌ من أَسباب تكرار المآسي، فلماذا، إِذن، ننسى؟!.
يَقُولُ أَحدهُم [إِنَّ شرّاً يتجاوز الشرِّ قد وقعَ، ويمكنُ أَن يقعَ مرَّةً أُخرى، ما لم يتذكَّر الأَحياء].
٥/ إِذا لم نتذكَّر لندِّون تاريخنا فسيكتبهُ المزوِّرون الذين يقلبُون الحقائق رأساً على عقِبٍ، فنكتشفَ مثلاً أَنَّ الظالِم كان مظلوماً وأَنَّ المظلومَ كان ظالماً! وأَنَّ [المقابرَ الجماعيَّة] كذبةٌ [شيعيَّةٌ] للإِتِّجار بالمظلوميَّة! وأَنَّ حلبچة قصفتها [طهران] بالسِّلاح الكيمياوي! وأَنَّ الأَنفال من صُنعِ الكُرد! وهكذا.
نتذكَّر لنكتبَ الحقيقةَ بصدقٍ وأَمانةٍ ليقرأَها النشء الجديد كما هِيَ وليسَ كما يريدها أَبواق الطَّاغوت!.
٦/ وأَخيراً؛ فالذِّكرى يجب أَن تكونَ في وقتِها وليسَ بعد فواتِ الأَوان، وإلا كانت عبثاً.
يقول تعالى (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ* رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ* أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ* ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ).
شرُوط العفو
(قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
على الرَّغمِ من أَنَّ التَّسامح من أَعظم الخُلُق وهو دليلُ سِعة الصَّدر والصَّبر على البلاء، وهو مُساهمةٌ مُباشرة في تهدِئة الخواطر لتحقيقِ الإِستقرار المُجتمعي والسِّلم الأَهلي.
على الرَّغمِ من ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كذلكَ بشرطهِ وشروطهِ، فليسَ كلُّ تسامُحٍ يساعدُ في تحقيقِ الإِستقرار المُجتمعي أَبداً، خاصَّةً إِذا كانَ من دونِ قيدٍ أَو شرطٍ، إِذ قد يفهمهُ المُعتدي دليلُ ضعفٍ وهوانٍ فيكرِّر فعلتهُ.
وإِذا قرأنا آيات الصَّفح والعفو مثلاً فسنجد أَنَّ المُشرِّع أَطَّرها في ظروفِها وعواملِها وأَسبابِها ليتأًكَّد بأَنَّها ستكونُ عُنصر إِستقرارٍ وليس سبب لتكرارِ التعدَّي مثلاً أَو إِرتكابِ الجريمةِ!.
كقولهِ تعالى (وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) فأَضعفُ الشُّروط رُبما هُوَ التَّوبةُ والإِعتذارُ والاستعاضةُ بالعملِ الصَّالحِ!.
كما أَنَّ أَميرَ المُؤمنينَ (ع) أَوضح ذَلِكَ في أَكثرِ من نصٍّ، وكأَنَّهُ يُرِيدُ القول بأَنَّ الصَّفحَ سلاحٌ ذو حدَّين، فهو سلاحٌ فعَّالٌ لتحقيقِ الإِستقرار والإِنسجام المُجتمعي إِذا أَخذنا بشروطهِ في الوقتِ المعلوم، وهو سلاحٌ سيّءٌ في توريطِ المُجتمع بالمزيدِ من تكرارِ الأَخطاءِ إِذا تغافلنا عن شروطهِ في الوقتِ المعلوم.
وَلَو كانَ الصَّفحُ محموداً على كلِّ حالٍ فلماذا نقرأ في دعاءِ مكارمِ الأَخلاق في الصَّحيفة السجاديَّة قولَ الإِمام عليُّ بن الحُسين السجَّاد زينِ العابدين (ع) (وَاجْعَلْ لِيْ يَداً عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَلِسَـاناً عَلَى مَنْ خَـاصَمَنِي، وَظَفَراً بِمَنْ عَانَدَنِي، وَهَبْ لِي مَكْراً عَلَى مَنْ كَايَدَنِي، وَقُدْرَةً عَلَى مَنِ اضْطَهَدَنِي، وَتَكْذِيباً لِمَنْ قَصَبَنِي)؟!.
إِنَّ الصَّفح والعفو الذي يحرِّض على تكرارِ الخطأ في المُجتمع هو خطأٌ بحدِّ ذاتهِ، كما في قولهِ تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
فالمُجتمع الذي يسكُت عن مرتكبِ الجريمةِ بأَيَّةِ ذريعةٍ، ومنها بذريعةِ العفو، ملعونٌ على لسانِ القرآن الكريم! أَي أَنَّهُ بذلكَ يبتعدُ عن رحمةِ الله تعالى لأَنَّهُ في حقيقةِ الأَمر يظلمُ نفسهُ بالتَّغاضي عن الخطأ بذريعةِ العفو وبالتَّالي فهو يحرِّضُ عليهِ شاء أَم أَبى، إِذا لم يتأَكَّد بأَنَّ العفوَ مُنتفيةٌ شروطهُ! حتَّى ليجدَ نفسهُ في ساعةٍ أَنَّهُ مُحاصرٌ بالجريمةِ، والتي أَقلَّها إِنتشار الشَّائعات والتعدِّي باللِّسان البذيء على النَّاس وانتهاك الحُرُماتِ وهكذا!.
وأَكثر من هذا فإِنَّ بعض المُجتمعات يميلُون إِلى المُعتدي بذريعةِ إِتِّقاء شرِّهِ او لسانهِ البذيء! فلا ينتصرُون للمُعتدى عليهِ ولا حتَّى للحقِّ العام، فيلوذُونَ بصمتِ أَهل القبُور كذلكَ بذريعةِ العفو عن المُعتدي لكسرِ الشرِّ كما يقولُون ويدَّعون (تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) وما درَوا أَنَّهم يحرِّضونَ على الشرِّ بمثلِ هذا العفو المزعُوم لو كانوا يعلَمون.
وصدقَ الله العظيم الذي وصفَ ذلك بقولهِ (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ).
إِنَّهم يتصوَّرون أَنَّ العفوَ في مثلِ هَذِهِ الحالةِ يجنِّبهم الفِتنة! وقد سقطُوا فيها بالفعل.
إِنَّ أَهم شرطٍ من شرُوط العفو هو أَن يفهم المُخطيء أَنَّهُ ارتكبَ خطأً فلا يتصوَّر العفو بمعنى تبرِئتهِ من الخطأ! فيستسهلَ الموقف.
وتلك هي مهمَّة المُجتمع كلَّهُ وليس المُعتدى عليهِ فقط! لأَنَّ تحصين المُجتمع من تكرارِ الأَخطاء والتعدِّي على الحُرُمات مُهمَّة المُجتمع نفسهُ وليسَ الفرد!.
إِذا اعتذرَ الفردُ عن خطئهِ وتبيَّن أَنَّهُ ارتكبهُ جهلاً وعن غيرِ معرفةٍ فليسَ غَير العفو والصَّفح طريقاً لإِعادتهِ إِلى جادَّة الصَّواب، كما يَقُولُ تعالى (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ).
إِمَّا إِذا لم يعتذر فهذا يعني أَنَّهُ ارتكبَ الخطأ عن عمدٍ وعن علمٍ ومعرفةٍ مع سبقِ الإِصرار، فليسَ إِلَّا العقُوبة المُجتمعيَّة، ومنها فضحهِ على رؤُوس الإشهاد، طريقاً لردعهِ.
يَقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) (أَدْنَى الْإِنْكَارِ أَنْ يُلْقَى أَهْلُ الْمَعَاصِي بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ) أَمَّا إِذا لقيَهُم المُجتمع بالأَحضانِ فسيفهمُونَ من ذَلِكَ أَنَّهم لم يفعلُوا مُنكراً فلماذا الحذرُ إِذن؟!.
كما يَكُونُ العفو بمثابةِ الجريمةِ إِذا كانَ الخطأُ قد ارتُكب بحقِّ القِيم والمُجتمع والشَّأن العام، أَو أَنَّهُ يقطع سبيلَ المعروفِ! ولذلكَ نرى أَنَّ أَميرَ المُؤمنينَ (ع) كان شديداً قاسياً جدّاً على مَن يرتكب الخطأ ضدَّ الحقِّ العام فكان يَقُولُ مثلاً (فَاتَّقِ اللهَ، وَارْدُدْ إِلَى هؤُلاَءِ الْقَوْمِ أمَوَالَهُمْ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ لاَعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ، وَلاَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ!).
ويُضيفُ (ع) لإِظهارِ شدَّتهِ وحزمهِ وغضبهِ في الأَمر (وَ وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بَإِرَادَة، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا).