أطفالنا والخيال الواقعي
عبد الرزاق عبد الحسين
2018-06-10 06:01
قُبيْل تباشير الفجر، وقبل أن يلفظ الليل آخر أنفاسه، يكون الصائمون أو الذين حسموا نيتهم بالصوم، قد تناولوا بعض لقيمات من الطعام ليسدّوا بها الرمق، ويسعفوا مهجَهم ببعض جرعات الماء أو اللبن، استعدادا لقطع رحلة الصيام التي قد تفوق ثلثي ساعات اليوم، فيما يصطلح عليه المسلمون بـ (السحور)، وهي مفردة مشتقة من مفردة السَحَر التي تعني في عند اللغويين (آخر الليل قبيل الفجر).
عقول الأطفال والأخيلة التي يتمتعون بها، هي أكثر صفاءً من خيالات الكبار، فتتشكل لديهم الأجواء والصور في هيئة طقوس، يستحيل على الكبار رسمها بأدوات الخيال، ويكون الواقع هو المهيمن الأكبر على التفكير أو الخيال الخاص بكبار الأعمار ممن تجاوزوا مرحلة الطفولة، ويمكن للآباء والمعلمون على نحو العموم توظيف هذه الخاصية في خيال الأطفال لبناء شخصياتهم أفضل البناء وأكثره توازنا وتفاؤلا ونبوغاً.
في شهر رمضان ثمة طقوس لا يجدها أطفالنا في الشهور الأخرى، فالمنطقة الليلية لا تُشبه مؤثرات النهار، ويقول أدباء وكتاب متخصصون بالكتابة للأطفال، أن خيال الأطفال يتحلى بثراء عالٍ، وما أن يحل الليل حتى يتضاعف هذا الخيال، ذلك أن الليل له سحره الخاص، والليلة الرمضانية، فيها طقوسها الليلية التي لا تنسى بالنسبة للطفل، فيها الدعاء الذي يمكن غرسه في تربة الطفل الخالية من الشوائب، معاني الدعاء وتأثيراته الروحية وقدرة الخيال الغضّ على تمثّله بأجمل الصور وأقربها إلى روحه وعقله، فتُحفَر في عقله وهو طفل وتكبر معه، فيكتسب الإيمان مبكرا ويتمسك بالطقوس منذ نعومة أظفاره.
تجويد القرآن في ليالي رمضان، له تأثيره الكبير على خيال الطفل وذهنه الغضّ، فتُحفر في ذاكرة الطفل صورة مشعّة للقرآن، وترافقه حالة الأمان والطمأنينة طوال حياته، لذلك كثير من الكبار إن لم نقل جميعهم، حتى بعض المنحرفين منهم، يجد ضالته بتلاوة القرآن أو سماعه في بحثه عن الأمان النفسي، حيث يخيّم عليه الهدوء وتظلله حالات الاستقرار والتوازن النفسي، ألم يلاحظ الآباء والمعلمون كيف تهدأ النفوس عند تجويد الآيات القرآنية؟، حتى الأطفال يميلون إلى الصمت والإنصات بإمعان، وإن كانت المعاني عصية على مدركاتهم.
وإذا كانت تلاوة القرآن ليست مقصورة على شهر الصيام، وهو أمر جليّ بل بائن الجلاء، إلا أن شهر رمضان سمّي بشهر القرآن، وحين يستمع له الطفل في ليالي هذا الشهر، فإنه يتحول إلى طقس خاص سيبقى محفورا في ذاكرته وخياله إلى آخر أنفاسه، وسوف يصبح طقسا من الطقوس الرمضانية التي لا تُنسى، لهذا يهيب العلماء والخطباء بالآباء وأولياء الأمور، بغرس هذه الطقوس الرمضانية في عقول وقلوب الصغار حتى تكبر معهم وفي ضوئها تتشكل شخصياتهم.
ارتياد المجالس الحسينية يمثل طقسا لا يُنسى للأطفال الذين يرافقون آباءهم لهذه المجالس، يغترفون منها العلم وحسن اللغة، ويكتسبون مهارة في فن الإصغاء، وينمو لديهم حب الأفكار، ويميلون إلى الفضول الذي يعد من أهم إشارات النبوغ، فليفكر الأب حين ينمّي مشاهد هذه الطقوس الرمضانية في العقل الصغير، وليعرف بأنه يضمن لطفله شخصية مستقرة، نازعة إلى الفضول، مستفسرة عن كل شيء لم تره من قبل ولم تسمع به، فهناك أطفال كالحجر، لا يثيرهم شيء، ولا يحرك فضولهم مشهد أو موقف أو لقطة مثيرة، السبب أنهم لم يجدوا من آبائهم ذلك الاهتمام بغرس الطقوس الحافلة بالدهشة، بالأخص في ليالي شهر رمضان.
بالطبع كل الأوقات يمكن أن تضج بالدهشة، ولكن طقوس شهر رمضان لا مثيل لها، في الليل حين كنت طفلا، كان يخامرني شك في أن الصوت الذي يطرق سمعي من (الطبل) الذي يضج به الليل كي تنهض الناس للسحور، بأنه حقيقي، كان ذلك الصوت بالنسبة لي محض خيال، وكم كنت أتمنى أرى الرجل الذي يقرع الطبل، أما الآن وقد بلغت من العمر مبلغا، فيمكنني أن أخرج حين أسمع قرع الطبل، وبالفعل خرجت ووقفت عند باب البيت ورأيت (أبو طبيلة)، إنه رجل عادي، لم يثر في خيالي أو عقلي أي شيء، لقد انطفأت صورته التي كنت أتخيلها في طفولتي.
ينطبق هذا على الطقوس الرمضانية الأخرى، فعلينا كآباء أن ندهش أطفالنا بطقوس شهر رمضان، وأن نبني شخصياتهم بمساعدة هذه الطقوس، كتلاوة القرآن والدعاء، ومصاحبة الآباء للمجالس الحسينية، والنهوض ليلا لتناول السحور، وسماع قرع الطبل، وثمة الطقس الأهم والأجمل، حين تجتمع الأسرة على مائدة الفطور، إنها لحظات لا يمكن وصفها، ولا يمكن أن تتكرر على مدار السنة، إلا في هذا الشهر الكريم، فحتى الأطفال المصابون بالتوحد سرعان ما يهرعون إلى (السفرة) الطويلة العريضة العامرة بأنواع المأكولات، وإن كانت بسيطة وغير مكلفة.
هذا الطقس الرمضاني، يزرع الألفة في قلوب الأطفال، ويجعلهم أكثر تقاربا وتعاونا بعضهم مع بعض، إنهم يصبحون أكثر تعاونا مع غيرهم من الأطفال، وبالنتيجة يصب هذا الطقس في دعم التماسك الأسري والبشري على حد سواء، فتتكون لدى أولياء الأمور والمجتمع، شخصيات منسجمة هادئة نازعة إلى التعاون والمحبة، مثقفة واعية مدركة، يدعمها التوازن النفسي، والخيال الخلاق، فمع الاتزان والتماسك هنالك نزوع نحو الفهم والتفسير والابتكار، وبالتالي تكون هنالك شخصية فاعلة، وعقل حيوي منتِج.
الإفادة من شهر رمضان وطقوسه متاحة للآباء، وحتى الأمهات حيال بناتهنَّ، فالعلم المختص أثبت أن الطفل ذكرا أو أنثى، ينظران إلى الأب والأم كنموذج لهما، وحين يتم غرس طقوس شهر رمضان في خيالاتهم وعقولهم، فذلك يساعد أولياء الأمور، الآباء والأمهات، على ضمان شخصية متراصة للابن والبنت، ولنا أن نتخيل العكس، أي ماذا يحدث لو أننا أهملنا تنمية الاستعداد الذاتي لأبنائنا كي يتطوروا نفسيا وإدراكيا، إننا حتما سوف نخسر الكثير من الأرباح التربوية والعلمية التي نستثمرها في بناء شخصيات أطفالنا، وشهر رمضان يقدم لنا مثل هذا الاستثمار أفضل من كل الشهور الأخرى.
وما هي إلا خطوات نرسمها ونخططها، وننفذها مع أطفالنا، شرح وتفسير الطقوس الرمضانية، إطلاعهم على التفاصيل بأسلوب محبب، في الليل تلاوة القرآن والدعاء بحضورهم، دعهم يعيشون مهنا لحظات السحور وصلاة الفجر، حتى في تناول الطعام يمكن أن ترسخ هذه اللحظات في ذاكرة الطفل إلى الأبد، وشيئا بعد شيء، نصنع من الطفل شخصية قوية مؤمنة مدركة بخيال جامح، يفهم الواقع ويتفوق عليه درجات، والإنسان الناجح هو من يعلو على الواقع بخياله وعقله وعلمه ونزوعه نحو الجديد، والطقوس الرمضانية بتفاصيلها العذبة، ستكون حافزا لبناء العقلية الأفضل للأطفال، ويعتمد ذلك على الأب والأم أولا وأخيرا.