الصوم كمنطلق لملء ثغرات الروح

عبد الرزاق عبد الحسين

2017-05-28 06:40

الروح بحسب المختصين من علماء النفس وحتى بعض علماء الدين المتبحرين بالعالم الروحي، تعاني من علل وأمراض وحالات ضعف كما هو الحال مع الجسد، فالمرض والوهن غير مخصص لأعضاء الجسد، وكما يطيح المرض العضوي بقدرة الجسد على المواجهة، كذا يطيح المرض المعنوي والروحي بقدرة الروح على الصبر والمطاولة، فتنحدر الى القعر وتأخذ معها الجسد كونه تابع إلا ما ندر.

ولكن هناك من يفكر كثيرا بالتغيير، ويبحث عن الفرص ونقطة الانطلاق التي تقوده نحو التغيير التام في التفكير الذي ينعكس ويتحكم بالفعل العضلي أو اللفظي، ويخضع التغيير البشري لقانون النمو المتدرج، فلا يمكن أن يتحقق الاختلاف بعصا سحرية، فقد علمتنا التجارب أن جميع عمليات التغيير حتى الكبيرة منها تبدأ كبذرة صغيرة، وتمضي بصبر وتؤدّة نحو الأعالي كما الأشجار العملاقة، فلا ضير أن يكون النمو بطيئا محسوباً ومدروسا، ذلك أن العجالة في الأغلب تطيح بمن يجعلها منهجا له.

في قول للسيد صادق الشيرازي يرد في كتاب جميل لسماحته يقول فيه: (من الممكن أن يغيّر الإنسان نفسه ولو خطوة خطوة، وشهر رمضان مناسبة جدّاً للتغيير./ المصدر كتاب من عبق المرجعية).

إذاً نقطة الانطلاق صوب التغيير هو شهر رمضان، وإذا عثر الإنسان على نقطة الانطلاق هذه، فإن بذرة التغيير الصغير وجدت التربة الصالحة التي تدسّ نفسها فيها ثم تنطلق نحو الأعالي ولكن بمسير متّئد، خطوة خطوة، فما الداعي للعجالة، خصوصا أن الأقدام قد تزلّ فتسقط بالجسد ليصبح بين براثن الغدر في غفلة من الزمن، إن شهر رمضان هو تربة التغيير الفكري القيمي السليم، وهو الزمن الأنسب لتنظيم حياة الكائن البشري، خصوصا أن الله جعله من الشهور المختصة به حصرا من دون كل الشهور الأخرى، فالذات الإلهية هي التي تجازي الأرواح في هذا الشهر، من هنا سمّي بشهر الله.

وربما أعطى سماحة السيد صادق الشيرازي هذه المكانة لهذا الشهر، بسبب منحه للإنسان فرص إضافية للتغيير دونا عن الشهور الأخرى، من هنا (فإن شهر رمضان هو شهر الله سبحانه وتعالى، اختصّ به دون باقي الشهور، فهو شهر لتنظيم حياة الإنسان، والتغيير نحو الأفضل، والتطهّر من كل دنس، والطاعة لله سبحانه./ مصدر سابق).

وحين يعثر الكائن البشري على نقطة انطلاق صوب البناء الجيد، فهو سرعان ما يتعلم أساليب عالية الإتقان في مضامير البناء الأسلم والأدقّ، فلا يكتفي عند ذاك بمجافاة المعاصي، فهو يتدرب لكي لا يكف فقط عن ارتكاب الذنوب، وإنما يقصيها من تفكيره، أي أنه يصل الى مرتبة عدم التفكير بالمعصية، وهذه في الحقيقة مرتبة لا يطولها إلا من يحتكم على روح كبيرة، ونفس منضبطة، فتجد أن شهر رمضان الذي صار نقطة انطلاق التغيير يدفع بهؤلاء الى درجة التنازل والتخلي عن جميع أنواع المفطرات، ويبلغون في ذلك درجة قصوى بحيث لا يفكرون حتى التفكير المجرد، وهذه القدرة ترتبط بمرتبة عظيمة من مراتب التغيير، حتى يبلغ الفرد في صومه درجة (الصوم الخاص) وهو أعلى مراتب الصوم.

فيصبح هذه الشهر دافعا للشخص، كي يكبح جوارحه، ويلغي أي دور لها في أنشطته المختلفة، فالنشاط العملي قد تتصارع فيه الإرادات والمصالح والحقوق والواجبات، فمن يتكّئ بقوة الى هذا الشهر ويستند إليه، يكون قد بلغ درجة التغيير المطلوبة، وفي الحقيقة ما كان له أن يصل الى ما وصل إليه، لو أنه لم يتعامل مع شهر رمضان بهذه الطريقة الإيمانية الفريدة.

وقد فسّر السيد صادق الشيرازي هذه الإرادة القديرة، على أنها تمثل قدرة البشر على التحكم بنفسه وعقله وخياله، بحث يمتنع عن التفكير باقتراف الذنب من أي نوع كان، فيقول السيد المرجع: (إنّ هناك فريقاً من الناس لا يتورّعون عن المعصية ويكفّون عنها وعن المحرّمات فحسب، بل يتورّعون عن التفكير فيها أيضاً، فهم يصومون عن المفطرات العامة، وتصوم جوارحهم عن ارتكاب الذنوب، كما تصوم جوارحهم عن التفكير فيها، وهذا صوم خاص الخاص، وهو أعلى مراتب الصوم وأقسامه./ نفس المصدر).

ومن حسن حظ الإنسان في تركيبته الخَلقية، أن الله أودع فيه كل وسائل ومكامن القدرة على التكيّف والحماسة الشعورية، انطلاقا صوب تغيير البناء الروحي والنفسي، مدعوما بالإيمان، والإصرار على الصلاح والتقوى، مستفيدا مما يمنحه الشهر الكريم من تسهيلات كبرى كحوافز نفسية وروحية تحمل الإنسان كي يندفع بقوة في قارب الإيمان نحو شواطئ التنفيذ الفعلي للتغيير، فيصبح الكائن البشري صورة أخرى وعمقا ذاتيا معافى، ومن الجدير بالذكر أن نعترف بأن فضل شهر رمضان في بلوغ هذه النتائج يعطينا الصورة المثالية لعظمة هذا الشهر، ولماذا أعطاه الله هذه المكانة العظمى بين شهور العام المتبقية.

وهكذا يحث سماحة المرجع الشيرازي بإصرار العارف المتأكد من النتائج بصورة مسبقة، جميع المسلمين وكل الناس على المضي في حصد فوائد هذا الشهر، فقد صنعه الله كشلال من الفرص المثالية التي تضع نفسها بين أيدي الإنسان، وما عليه سوى تقديم الخطوة الأولى لا أكثر، وهي خطوة غرس بذرة التغيير في تربة الروح، كي تتم بعدها خطوات ملء جميع الثغرات المغالِطة التي تسعى لمنع حدوث التجديد الأفضل، وهنا ستكون الأجواء الرمضانية هي الدافع الأعظم وهي الحيز أو الفضاء الأنسب لتأشير ثغرات الضعف في الروح، ومن ثم المباشرة في رفدها بالجديد من أفكار وسبل وطرائق التغيير نحو التقوى والإيمان.

كما في تأشير بليغ للسيد صادق الشيرازي يقول فيه: (مهما كان الإنسان بعيداً عن الخير والصلاح والتقوى، يمكنه أن يستفيد من أجواء شهر رمضان المبارك لتغيير نفسه، فإن الله تعالى أودع هذه القدرة في الإنسان، وشهر رمضان فرصة مناسبة جدّاً لهذا الأمر. مصدر سابق).

ذات صلة

التنمية المتوازنة في نصوص الإمام علي (ع)أهمية التعداد السكاني وأهدافهالموازنة في العراق.. الدور والحجم والاثرفرصة الصعود في قطار الثقافةموقع العراق في سياسة إدارة ترامب الجديدة