الطبيب الأصفر!

زهراء حيدر

2016-06-05 12:07

لا زلت أنتظر دوري في صالة الانتظار.. فقط لو كان للذكريات عيادة، لوفرت على نفسي زيارة هذا المكان البارد.. فهذا الطبيب الأصفر، أعده الثابت الوحيد في متغيرات حياتي والذي أعود اليه بعد كل صفقة عمر كنت أحسبها رابحة، ليصف لي بعضاً من عقارات النسيان ويعرضني الى صعقاتٍ وجدانية تأثر على خلايا عاطفتي لتجعلها تنبض بتبلدٍ أكبر!.

ها قد حان دوري.....

أحمل نفسي إلى غرفته الباردة بخطوات ثقيلة، أرمقه بنظراتي السادية وارمي بجثتي على ذلك السرير الأزرق! وبينما تغرق عيني في فراغ الغرفة أنطلق بالهذيان.

آهٍ أيها الطبيب، تزعجني الكائنات البشرية، وهذا ليس غريبا فهذه أصبحت عادتي المرضية التي تفرض عليَّ أن ألجأ بها إليك!.. كما أن ثقل همهماتهم السوداوية التي تخترق طبلة أذني تزعجني أيضا.. وألوان أحاديثهم الباهتة تثير مللي وتشعل بداخلي غضباً أخرق!.

أريد أن أتنازل عن أرقام عمري الآتية معهم.. هل لي بذلك؟!.

فعلى سبيل الخيبةِ، إني أحتضر.. ولياقتي العاطفية ما عادت تستحمل كل هذا العبء، تأمّل فقط أيها الطبيب.. لا يزالون يرتكبون الحماقات نفسها، ويتورطون معي بجرائم قبيحة، أنظر كيف أُطفئ لهيب الشمعة بإبهامي الأيسر ولا أُبالي! أتدري معنى هذا؟!.

أسراري سلاح.. شره نحوي ذلك الذي هرعت اليه ذات ثقة! وبفعلته هذه سبب لي جرحا في أعلى يسار صدري.. ولكني لم أعد أكظم غيضي.. أحاول أن أتخلص من إنسانيتي الفائضة، كي أوفر على نفسي وزن الكرامة ولا يتسبب هذا الثقل في غرقي!. فخيبتي تعاظمت بعدما اكتشفت بأن الحياة تسير على ساق المصلحة.. او بتعبير أصح انها لا تسري بل تركض دون الحاجة الى عكاز أو كرسي متحرك! فالمشكلة تكمن عندما يستعملون الإنسان كبطاقة إئتمان.. متى ما انتهت صلاحيته حاولوا التخلص منه بكل بساطة. كما أنهم يكذبون..... ولا يكفي بأن أراهم بأم عيني كيف يصنعون الفخ الذي سأقع فيه لاحقا، ولا يكفي أن أكون ذكيا أو متأهبا لأستوعب ذلك.. ولا حتى مثقفا أو واعيا، ولا حتى إنسانيتي تكفي لذلك!.

وعلى سبيل الدهاء.. أتناول معهم زاد المحبة وأعقد معهم قران الوفاء، وبعد مرور برهةٌ من الأمل، تلجمني الخيانة فأعود الى مدرجات الصمت لأضيع في صومعة خيبتي، وأبقى طريح الذاكرة لسنواتٍ ضوئية.. بعدها العق التفاصيل العالقة في دهاليز ذاكرتي ولكن كلما حاولت، يهيج بركان الحقد في صدري وتبدأ الإنفجارات واحدا تلو الآخر، ويصفعني الكبرياء على خد ذاكرتي، فأعود الى وعيي من جديد.

ولكن لا بأس، سأنفث خيباتهم في وجهي دون مبالاة.. فقد بات لي درع واقِ للصدمات أحمي به ظهر أحلامي مهما أسرفوا بالإساءة إليّ، كما أن هنالك أفعالا تحتوي على رؤوس من الزجاج المتكسر، تحدث ثقوبا في أرجاء قلبي.. فيتسرب منه تقديرهم تدريجيا حتى ينتهي!.

ولكن أيها الطبيب.. ليس الغريب ما تفعله الأيدي البشرية بي، الغريب بما أفعله أنا في نفسي، فمنذ فتره.. أصبحت كعادةٍ يومية أصوب رصاصة نحو مشاعري، كما أن الخيبة لم تعد تأخذني الى فراش العزلة والحزن والبكاء! أصبحتُ متبلداً حد الكفن.. أرد الصاع صاعين ونصف، فقد تغيرت عاداتي مع خريفي الراحل.

كما أن هنالك تحولات غريبة تحصل في شأني العاطفي، شلل في الأعصاب والتهاب حاد في حنجرة الأخلاق، وفتور في عضلات الإحساس.. أخبرني ما كل هذا الذي يحصل معي أيها الطبيب؟.

وبعد صمتٍ دام قرناً ونصف أجابني الطبيب الأصفر بكل برود ولامبالاة:

- لا تقلق أيها البشري.. إنها أعراض طبيعية لفقدان الإنسانية!.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي