التعصب.. تعزيز لصورة الذات السلبية
د. اسعد الإمارة
2024-07-28 04:23
يعرف (د. حامد زهران) التعصب بانه ذلك الاتجاه النفسي الجامد المشحون انفعالياً او ذلك الحكم المسبق الذي لا يقوم على سند منطقي، ويحاول صاحبه تبريره، ومن الصعب تعديله. انها رؤية الآخر باطار سلبي، مهما كان الآخر مسالماً او منفتحاُ او ودوداً او محباُ للآخرين، انه يرى بصورة سلبية طالما انه ليس هو، انه مجموعة من الصور والقيم المتناقضة في داخله، وهو ما ليس هو، فلابد انه مخالفاً لما يحمل من افكار او تصورات، فلابد له ان يكون النقيض التام له، انها اشكالية في التقييم، اشكالية في فهم الذات الصحيحة، وستكون حتماً اشكالية في النتائج وما انبنى عليها.
ان للأهل دور مهم واساس في تكوين صور معتدلة عن ما يدور في اذهان ابناءهم، هم من يكونّوا تلك وهم الذين يدفعون الثمن غالياً بعد ذلك بقصد او دون قصد، فبمقدور الاهل ان يرسموا للأبناء صورة عن ذاتهم وعلى ضوء ذلك الرسم سوف يتشكل اساس الشخصية المستقبلية.
ان المرحلة الاولى من حياة الفرد هي مرحلة تكوين انماط متعددة من التصورات لا سيما ان كان التعزيز قوياً ووجد اثابة بالاتجاه الذي يريده الاهل، فالاب يردد دائماً ان ابنه هذا فاشل لا يعرف شيئاً ابداً، وانه لا يحل ولا يربط وانه ابتلى به منذ ميلاده، هذه الكلمات يسمعها الابن كل يوم وتتردد بكثرة في وسط الاسرة صباحاً ومساءاً وليلاً، سوف يتقبلها الطفل وتكون جزءاً كبيراً من شخصيته، وكأنه بهذا الايحاء سوف يتشكل سلوكه ويصبح كما اراد الاب او الاهل..
او صورة اخرى لتلك الأم التي كثيراً ما تصف ابنتها بانها فاشلة كما تتوقع لها ان تكون مستقبلا وكما وصفتها امها، حتى وان كانت ليست كذلك، فكثرة التعزيزات السلبية ستثبط عزيمة الابن –البنت وستجعل منه شخصية كما رسمها لها الاهل (الاب والأم)، وهكذا فإن الطفل صورة ناصعة نستطيع ان نحافظ على نصاعتها وبياضها ونقائها او نلوثها بما نضع عليها من اوساخ، وهذه الاوساخ او النظافة هي الافكار التي ننسجها نحن من دواخلنا وما نعانيه، فنسقطه (اسقاط مشاعرنا المكبوتة) على ابناءنا.
وهناك فروق فردية بين الافراد في التقبل سلباً او ايجابياً، تطرفا او اعتدالاً بكل الاوامر والنواهي والسلوكيات واحياناً نجد البعض الآخر من الاطفال يكون تقبله دون الحد الادنى فهو يفوت اكثر مما يخزن ويمسح اكثر مما ينقش في ذاكرته ومخزنه المعرفي ولكن حديثنا هنا عن التقبل الاعتيادي تحت ظل ظروف التنشئة الاسرية، ففي اتجاه التعصب يكون الامر كذلك حيث يجد الابن التعزيز الكافي لهذا التكوين الفكري والنفسي، ويقول (د.جليل شكور) فإثارة الاهل لأبنائهم منذ الصغر تؤثر في مستوى طموحهم عندما يشبون وفق ما يتلقون من اثارة محبطة او مشجعة، فيزرعون فيهم وحسب هذه الاثارة مستوى من الطموح يوازي درجة هذه الاثارة ومن ثم ترسم لهم نمط الحياة ومسارها في المستقبل.
ان التعصب نوعاً من التحيز الاعمى لفرد او جماعة او لمذهب او دين او لسياسة او لفريق رياضي او لفن معين او لمدرسة فكرية وهو شعور مرضي يفتك بالمجتمع ويدّمر فيه روابط الآلفة
والمحبة والتعايش ويدفع به الى الضياع والتمزق، والتعصب يأخذ اشكالا متعددة ويكتسبه الفرد من خلال التربية الاسرية داخل الاسرة اولا ومن ثم يجد التعزيزات الملائمة والاثابات المناسبة من خلال التنشئة الاجتماعية، لذلك ينبغي ان يحذر الاهل من زرع هذا المرض في نفوس ابناءهم في بداية تكوين اسس نفسياتهم وشخصياته، فالتعصب هو رؤية احادية للأشياء والافكار والناس تقوم على الانغلاق، هذا الانغلاق يجعل من النفس الانسانية اكثر عرضة لرفض الآخر وعدم القدرة على التكيف مع الاجواء الاخرى مهما كانت سليمة وخالية من التلوث القائم على التعصب، وعلى هذا الاساس فان المتعصب يجد في الاثابة العائلية لسلوكه المتطرف تعزيزاً له.
اما خارج اسرته حينما يختلط مع الاخرين في المدرسة والجامعة والعمل واختيار الزوجة سيجد التناقض الواضح بما يحمله من افكار، وما هو موجود في الواقع، فالسوية هي ان يتقبل الآخر، والحالة المرضية هي ان يتقبل ممن يسانده في مذهبه او دينه او فكره السياسي حتى ولو كان مخطئاً او يتعارض مع المجموع، ويقول علماء النفس ان اي اختلال في هذا التوازن وبخاصة بين ما يتعلمه الفرد من قيم ومثاليات وتربية في اسرته، وبين ما يراه معاشاً من انحدار وتدهور في القيم يؤدي به الى الضياع والاضطراب النفسي، والانسان حينما يجد ان ما تعلمه في اسرته وبين اهله من قيم مثل البغض والكره والعدوانية تجاه الآخر من المذهب او الدين او الفكر او الاتجاه السياسي، فانه سيعيش في مأزق نفسي وبخاصة اذا احس ان الفجوة تشمل القيم العالية والمثالية التي تعلمها في اسرته وبين الواقع المناقض لما يقال له ويتعلمه كل يوم من خلال اختلاطه بالآخرين.
ففي الاسرة التي اكتسب الطفل منها قيم بغض الآخر من المذهب المعاكس له او من الدين الاخر لدينه، ووجد عكس ما تعلمه، فالآخر يرحب به ويتعاون معه ويتقبله لا كما زرعوا اهله في تفكيره وقيمه صورة الآخر المرعبة والسوداء، فإن قيمه سوف تختل وان صورته عن ذاته سوف تتدهور ويحاكي ذاته، اين الصح الان؟ الاهل وقيمهم ام الواقع؟ وهذا ينطبق تماماً على فكرة الامانة والاخلاص والخيانة، فالأهل يزرعون صور متعددة عن الشجاعة والبطولة وضرورة اقدام الرجل على منافسة الآخر تحت اية ظروف مريحة او قاهرة ويجب عليه ان يسرق اللقمة من فم الآخر حتى ولو كان طفلا جائعا وهي كما تعلمها قمة الشجاعة والاقدام وعكسها هو الخضوع والجبن والانهزام، وازاء ذلك حينما يمارس حياته يرى الاخرين سلوكه بانه سلوك متوحش قائم على المنافسة والمزاحمة وتحقيق المكاسب مهما كانت الاثمان التي تكلفه وربما حياته في بعض الاحيان، هذه الصورة وصورة الامانة والخيانة وتطبيقاتها في الحياة العملية وكيفية حسابها، فتحقيق المكسب مهما كان تبريره، حراما كان ام حلالا، سرقة ام احتيال، لايعني شيئاً، كل شيء يزول والخالق هو الذي يفرز بين الحلال والحرام، هذه اشكالية جديدة لدى البعض ممن يؤمنون بقيم السماء ويعتقدون بالأديان، حتى زحفت هذه القيم التي وجدت تعزيزات مناسبة واثابات ملائمة في احيان كثيرة من الاسرة اولا ثم المدرسة والمجتمع ثانياً حتى بات الحصول على اي شيء من الآخر مكسب به من الاحقية بما لا يدانيه الشرع او الدين او القيم السماوية او الدنيوية.
تعد القيم مؤشراً به يستدل الانسان على الخطأ والصواب في سلوك الآخرين وبه يقيس قربه او بعده عن السواء فاذا تداخلت واختلت القيم لدى الفرد فأن المجتمع لابد ان يجد المعايير للتعامل بين الافراد، ولا يمكن ان يبقى المجتمع فترة طويلة بدون معايير، فبعض البلدان التي تعرضت لفترات طويلة من الحكم الدكتاتوري افرزت سلوكيات متناقضة مع الواقع الانساني السوي حتى بات الفرد في هذه المجتمعات ان يقلب الموازين وتهتز لديه القيم ويتسرب الشك في داخله وربما تنهار ثقته بنفسه وبالمحيطين به وتتكون لديه مشاعر النقمة والعدوان.
ولاشك في ان مثل هذا التدهور في نظام القيم المعنوية والدينية والخلقية والوطنية والتعاملات بين افراد المجتمع يربك الانسان ويجعل سلوكه مضطرباً ويجعل منه شخصية هشة مفككة مضطربة وازاء ذلك تصبح الامانة في مثل هذه المجتمعات غنيمة وتصبح قيم القتل لبني البشر شجاعة مهما كانت مسوغاتها ودوافعها وتصبح قيم الحصول على المكاسب مهما كانت نوعها غنائم ويصبح سلوك افراد المجتمع الافتراس والتوحش بدلا من سلوك التفاهم والتوافق مع الآخر.
ولدينا امثلة في عالمنا المعاصر منها شعوب الاتحاد السوفيتي السابق الذي تحول فيه سلوك المجتمع الى سلوك اقرب الى الحيوانية منه الى الانسانية حتى باتت الحاجة هي السائدة عبر حكم النظام الخاطئ للاشتراكية في الاتحاد السوفيتي السابق وتحول الناس الى جياع عبر اجيال وتوارثوا الحاجة الى ابسط الاشباعات النفسية والمادية وصارت الشجاعة هي ان يحصل الفرد على اعلى ما يستطيع في الكسب المشروع وغير المشروع وتمثل ذلك في صورة المافيات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
وكذلك الحال في تجربة افغانستان وتجربة الحكم الدكتاتوري في العراق عبر خمس وثلاثين سنة من التسلط وحكم حزب البعث، فاهتزاز القيم عند الشعب العراقي الذي عرف عنه الايمان الصادق وسيادة قيم السماء وانتشار الاديان فضلا عن الخيرات والثروات العديدة، ربما عد من اغنى بلدان العالم القديم والحديث حتى تحول بسبب طول فترة الحرمان الى شحة في الغذاء والماء والقيم السماوية فنشأ لدى بعض الناس الذين تأثروا كثيرا في ظل هذه الظروف سلوكا مغايرا لما عرف عن اهل العراق من كرم وشجاعة واكرام الضيف.
في ظل هذا التفكك الاسري وتعزيز سلطة حزب البعث لقيم الجوع والحاجة والفاقة والحرمان، برزت ظواهر خطيرة لم تكن مألوفة اساسا في هذه البلاد من قبل مثل قيم التوحش والافتراس والغدر والتعصب المذهبي والديني ورفض الاخر مهما كان على خلق قويم او سوية في التعامل، فنشأت الجماعات الارهابية المدعومة من بقايا النظام المهزوم السابق تريد تفتيت ما تبقى من قيم في هذا المجتمع حتى صار التعزيز والاثابة يقوم على ايقاع الاذى والقتل في اكبر عدد من الاطفال والشيوخ وطلبة الجامعات وهم يؤدون الامتحانات او هم على مقاعد الدراسة وبشكل عشوائي او اغتصاب النساء وهي احدى شيم قيم وسلوكيات رجال حزب البعث المنهار والنظام السابق بكل فصائله واجهزته، هؤلاء صنفوا الناس على اساس انهم عراقيون ولابد ان ينتقم رجال النظام السابق من كل عراقي مهما كان دينه او مذهبه، فشحن نوازع التعصب الطائفي او القومي او الديني ضد الاقليات او الاديان او المذاهب هو السائد في فكر المجاهدين من المتعصبين في الدين او المذهب او القومية.
وهكذا هو الحال في المجتمعات الاخرى التي تعرضت للحكم الدكتاتوري بحسب الشدة والقوة وخصوصا بدول جوار العراق، فقد اختفت من قيم المجتمعات اشباع الحاجات الاساسية بشكلها السوي وظل الفرد يصارع من اجل الحصول على حقوقه وعلى لقمة عيشه، فاهتزت كل القيم الاجتماعية والوطنية وازاء ذلك فان التعزيز الدائم للسلبيات داخل الذات يجعل من الفرد آلة بلا مشاعر، يقتل ويسرق مال الآخر دون أدنى رقيب ذاتي، والسبب يرجع لكثرة ما تعرض له من تعزيز واثابة وتشجيع لهذه الجوانب السلبية من القيم حتى بات سلوك التعصب معياراً للسوية لدى المتعصبين، وبات سلوك الخيانة معياراً للشطارة والكسب مهما كان نوعه وسلوك القتل معياراً للايمان الديني للمتطرف الاسلامي وهو معبر للشجاعة والبسالة والجنة الموهومة، وسلوك السرقة معياراً للجرأة والاقدام، وسلوك التنكيل والاذى معياراً للرحمة في عقول المتعصبين من المتدينين حتى برزت ظاهرة قطع الاعناق ورمي رؤوس الابرياء بلا شريعة او دين وهو فقه الجهاد الجديد لدى المتطرفين الاسلاميين حصراً.