نهج الرؤى السلوكية وطريقة تفكير الحكومات

شبكة النبأ

2024-04-25 05:11

لطالما سعت الحكومات إلى فهم سلوك من تحكمهم والتأثير فيه، حتى وإن كان دور الدولة مثار جدلٍ حاد. ففي القرن السابع عشر، على سبيل المثال، حاول توماس هوبز، في كتابه البارز «الليفياثان»، تطبيق المبادئ العلمية لتحليل كيفية تفاعُل الناس في المجتمع، وبناء حكومةٍ فعَّالة بناءً على الاستنتاجات. مع مرور الوقت، بدأَت الحكومات في المطالبة بمزيدٍ من الطرق المُتطورة لفهم ومعالجة المشاكل المجتمعية. واستجابةً لذلك، شهد القرن العشرون ظهور اقتصاديين باعتبارهم «خبراء تقنيين مشورتهم ضرورة لصنع القرار»، والاقتصاد باعتباره النمَط السائد في تحليل السياسات.

كان أحد أسباب هذا التغيير أن نظرية الاختيار العقلاني قدَّمَت عمليةً واضحة لفهم السبب وراء تصرُّف الناس على النحو الذي اتبعوه، والتنبؤ بسلوكهم المُحتمَل؛ استجابةً لإجراءات الحكومة. بعبارةٍ أخرى، تساعد الحكومات في فهم مشكلةٍ ما. لننظر إلى الجريمة على سبيل المثال. إذا كان لدى الحكومات مواردُ محدودة فقط، فما أفضل طريقةٍ لاستغلال هذه الموارد لضمان أن تكون مستويات الجريمة مقبولة لدى الناخبين؟ في عام ١٩٦٨، قال الاقتصادي جاري بيكر إن الإجابة على هذا السؤال هي «الاستغناء عن النظريات الخاصة … بمواطن القصور النفسي [للمجرمين]»، والاتجاه، بدلًا من ذلك، نحو «توسيع نطاق التحليل المُعتاد للخيار للاقتصاديين ببساطة».25 بعبارةٍ أخرى، تطبيق مبادئ نظرية الاختيار العقلاني: يرتكب الأشخاص الجرائم إذا كانت الفوائد، كما يَرونها، تتجاوز التكاليف. ويمكن تلخيص هذه التكاليف بأنها حاصلُ ضربِ فرصة إلقاء القبض عليه في العقوبة المفروضة على من يُقبَضُ عليه.

لذلك ينبغي أن تجد أفضل السياسات الحكومية أرخصَ الطرق لزيادة التكاليف على المُجرمين المُحتمَلين. ويمكن أن توفِّر هذه الرؤيةُ الأساسية لصُناع السياسات مسارًا للبدء في وضع السياسات. على سبيل المثال، قد يكون تحسين إنارة الشوارع إحدى الطرق لزيادة فرصة القبض على المجرمين، بحيث تُصبح الجرائم أكثر وضوحًا وظهورًا. وقد اختبرَت تجربةٌ حديثةٌ واقعية هذا النهج عن طريق التخصيص العشوائي لمشروعات الإسكان العام في مدينة نيويورك لمجموعتَين؛ إحداهما حصلَت على إنارة للشوارع، والأخرى لم تحصل عليها. ويبدو أن زيادة الرؤية قد أثَّرَت بالفعل على السلوك. فقد وجد الباحثون أن مصابيح الإنارة في الشوارع أدَّت إلى انخفاضٍ بنسبة ٣٦ في المائة على الأقل في «مؤشر الجرائم» الليلية التي تُرتكَب في الأماكن المفتوحة، والتي تشمل جرائم مثل القتل والسرقة والاعتداء.26 يمكن لواضعي السياسات بعد ذلك إجراء «تحليل التكلفة والعائد» لتحديد ما إذا كان هذا النوع من النتائج يُبرِّر تكلفة توفير إنارة الشوارع.

وأخيرًا، وعلى مستوًى أعلى، يمكن لمنظورٍ اقتصادي أن يوفِّر إطارًا عامًّا لتحديد ما إذا كان يجب على الحكومة التصرُّف واتخاذ إجراءٍ أصلًا ومتى. يُشير نموذج الفاعل العقلاني إلى أن التدخُّل الحكومي قد يكون ضروريًّا إذا كانت هناك «إخفاقات في السوق»، والتي يُمكن أن تشمل الاحتكارات (حيث يتركز قَدرٌ كبير جدًّا من القوة في يد لاعبٍ واحدٍ في السوق)، والتفاوتات في المعلومات (حيث يكون طرفٌ واحد في المعاملة التجارية يعرف أكثر من الآخر)، أو العوامل الخارجية السلبية (حيث يفرض نشاطٌ ما تكاليف على أشخاصٍ خارج المعاملة، أو على المجتمع ككل، وأفضل مثال في هذا الشأن التلوث). وحال حدوث إخفاقات السوق هذه، فالنموذج الاقتصادي يقدِّم أيضًا مقترحاتٍ لكيفية استجابة الحكومات لها، مثل توفير المعلومات للحدِّ من التفاوتات، وفرض الضرائب لإعادة توزيع الثروة أو عدم تشجيع الإجراءات ذات التأثيرات الخارجية السلبية، وتنظيم الأنشطة إذا وُجِدَ أن تكاليفها الاجتماعية ضخمةٌ جدًّا.

وجَدَ علم النفس صعوبةً في التنافُس مع هذا العرض. فلم يستطع تقديم الإطار الواسع النطاق نفسه والمقبول عمومًا الذي أسفر عن نتائجَ واضحةٍ لواضعي السياسات. لم يكن لدى الرئيس الأمريكي «مجلس مُستشارين نفسيين» ليجلس جنبًا إلى جنب مع «مجلس المُستشارين الاقتصاديين» الذي أُسِّسَ في عام ١٩٤٦، واتبع واضعو السياسات لمُعظم الوقت نصيحةَ بيكر ﺑ «الاستغناء» عن نظريات علماء النفس.

من الواضح طبعًا أنه ليس صحيحًا أن علماء النفس ليس لهم أيُّ مساهمات في صُنع السياسات، لا سيما في مجالاتٍ مثل النقل والصحة والبيئة. على سبيل المثال، من الستينيات فصاعدًا، وجد كثيرٌ من البلدان أن نموذج الاختيار العقلاني التقليدي لم يكن مُفيدًا في زيادة استخدام حزام الأمان عند القيادة، واعتمدَت بدلًا من ذلك على مفاهيمَ مُستقاةٍ من العلوم السلوكية، مثل الثقة المفرطة وأهمية الإعدادات التلقائية، من أجل الحصول على نتائج. وحاول «التسويق الاجتماعي» تحسين النتائج الاجتماعية باستخدام العلوم الاجتماعية لتحديد محرِّكات السلوك التي لم تُستوعَب جيدًا في النماذج الاقتصادية. وبينما شهد التسويق الاجتماعي شعبيةً منذ ثمانينيات القرن الماضي فصاعدًا، فقد اضطلع بدَورٍ ثانوي في التسويق لأي سياسةٍ قرَّرها بالفعل صُناع سياساتٍ يستمعون إلى الاقتصاديين.

غير أن هذا الوضع بدأ يتغيَّر خلال الخمسة عشر عامًا الماضية أو نحو ذلك. فقد بدأ واضعو السياسات والحكومات في الاهتمام بعلم النفس والعلوم السلوكية. وهناك سببان رئيسيان لهذا التحول؛ الأول يتعلق بارتفاع الطلب، والثاني يتعلق بتحسُّن العرض.

فيما يتعلق بالطلَب، كان هناك قلقٌ متزايد من أن نهج الاختيار العقلاني قد يكون له أوجهُ قصور. وفي بعض الحالات، كان صُناع السياسات يُدركون أن سلوك الناس لم يكن مُتماشيًا مع توقعات النماذج الاقتصادية. ولنأخُذ الامتثال الضريبي مثالًا. يعتمد النموذج الاقتصادي الأساسي لفهم الامتثال الضريبي بصورةٍ مباشرة على تحليل جاري بيكر للجريمة، الذي ذكرناه فيما سبق. إن العوامل الوحيدة التي تؤثِّر على السلوك الضريبي لشخصٍ ما في هذا النموذج هي احتمالية التدقيق، وحجم الغرامة أو شدة العقوبة، ومعدَّلات الضرائب، والدخل. كانت المشكلة أن صانعي السياسة كانوا يحصُلون على بياناتٍ لا يبدو أنها تتماشى مع توقعات النموذج؛ وبدا أن ثمَّة عواملَ أخرى تؤثِّر على الامتثال أيضًا. وبحلول عام ٢٠٠٧، تسنَّى لأحد المُعلِّقين التصريح بأن «البحث التجريبي يُظهِر باستمرار أن النموذج العقلاني لا يعمل كما كان الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدُد يقصدون». واستجابة لذلك، ركَّزَت السلطات الضريبية أكثر على معاملة دافعي الضرائب باعتبارهم عملاء يحتاجون إلى معلوماتٍ واضحة، واحترام، وخدمة على قَدْر من الكفاءة.

ربما أولَى صناع السياسات اهتمامًا خاصًّا لهذا النوع من البيانات الناشئة؛ لأن القرن الحادي والعشرين شهد أيضًا اهتمامًا مُتجددًا بوضع السياسات على أسسٍ قائمة على الأدلة. يدَّعي مثل هذا النهج أنه أقلُّ اهتمامًا بالأيديولوجية أو النظرية أو التخصُّصات الأكاديمية؛ لأنه ركَّز بدلًا من ذلك على اكتشاف «ما يُجدي». لذا، إذا لم تعُد النماذج الاقتصادية تُوفِّر توقعاتٍ موثوقة لما سيُجدي، لربما كان صُناع السياسات أكثر استعدادًا للشروع في البحث عن بدائلَ أفضل. شكَّلَت الأزمة المالية التي حدثَت في عام ٢٠٠٨ دافعًا إضافيًّا. فقد أظهَرَت أن النهج الاقتصادي الحالي الذي يتَّجِه نحو التنظيم قد فشل بوضوح، وأن سلوك المؤسسات كان أكثر تماشيًا مع نهج «الأرواح الحيوانية» المُحَدَّث الذي كان الاقتصاديون السلوكيون يُطوِّرونه. علاوةً على ذلك، أدَّت الأزمة المالية في كثيرٍ من البلدان إلى زيادة الضغط على الماليات العامة، ما دفع صُناع السياسات إلى البحث عن نُهُجٍ جديدة، وكان السيناريو المثالي لها أن تكون غير مُكلفة.

عندما تحوَّلَت أنظارهم إلى خياراتٍ أخرى، بدا علم الاقتصاد السلوكي خيارًا مُحتملًا جذابًا. فكما أشرْنا بالفعل، احتفظ علم الاقتصاد السلوكي بإطار الاختيار العقلاني المألوف، ولكنه دمج فيه النتائج النفسية الجديدة أيضًا (مثل الانحرافات عن هذا الإطار). واعتبر صُناع السياسات أن هذا يقدم تفسيراتٍ موثوقة لبعض المشكلات التي واجهوها، بالإضافة إلى تقديم أدواتٍ جديدة لصياغة توقعاتٍ أفضل في المستقبل. في هذه المرحلة، قد يبدو علم الاقتصاد السلوكي وكأنه تحديثٌ تقني لا يشكِّل خطورةً نسبيًّا. بالإضافة إلى ذلك، وكما سنرى بعد قليل، كان لهذا النهج أيضًا بعض المُدافعين الموهوبين الذين نجحوا في التركيز على ما هو جديدٌ ومثيرٌ للاهتمام بشأنه.

لذا، ففي نحو منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تلتقي خيوط التاريخ الثلاثة معًا؛ صعود علم الاقتصاد السلوكي، والإجماع على نظريات المعالجة المزدوَجة في علم النفس، وزيادة اهتمام الحكومات بالتفسيرات الجديدة للسلوك البشري. وقد هيَّأَت هذه العوامل الظروف المناسبة لميلاد نهج الرؤى السلوكية.

«الدَّفْعَة»

في هذه المرحلة الواعدة، تعاوَن ريتشارد ثالر مع الباحث القانوني البارز كاس صنستين لوضع اقتراحٍ عملي لكيفية تطبيق الحكومات للأدلة التي ناقشناها حتى الآن. وكانت النتيجة كتاب «الدَّفْعَة»، الذي نُشر في عام ٢٠٠٨. كانت الحُجة الأساسية التي صاغها ثالر وصنستين راقيةً ورائعة. غالبًا ما يستخدم الناس نظامهم التلقائي، مما يعني أن سلوكهم ينحرف عن نظرية الاختيار العقلاني. وعلى حدِّ تعبير المُؤلفَين، نحن «بشر ولسنا اقتصاديين». غير أن هذه الانحرافات يمكن توقُّعها؛ ومن ثَم يمكن لصُناع السياسات، بل وينبغي عليهم، التخطيط لها.

والخطوة الأولى هي أن نفهم كيف يمكن للسمات التي تبدو غير مهمة لطريقة عرض الخيارات («هندسة الخيارات») أن يكون لها تأثيرٌ كبير على قراراتنا؛ لأن هذه السمات يمكن أن تُحفِّز اختصاراتنا الذهنية استجابةً لذلك. بعد ذلك، يجب على صُناع السياسات تصميم «هندسة الخيارات» هذه بحيث يصبح هناك احتمال أن يستجيب النظام التلقائي من خلال تفضيل الخيارات التي تجعل الشخص في وضعٍ أفضل، بناءً على تقدير هذا الشخص. ومن الأهمية بمكان ألا يكون الأشخاص مُجبَرين على اتخاذ هذا الخيار، بل لا بد أن يكون لديهم الحُرية في اختيار خيارٍ مختلف، إذا أرادوا ذلك. بعبارةٍ أخرى، «يُدفَعون» بلُطف نحو خيارٍ واحد أو مجموعة من الخيارات، بدلًا من إجبارهم على قبولها.

 إن ثالر وصنستين واضحان تمامًا في أن الدَّفعة يجب (أ) ألا تحظُر أي خيارات؛ (ب) ألا تُغيِّر الحوافز الاقتصادية للفرد بصورةٍ ملحوظة (عن طريق فرض ضرائبَ أو غراماتٍ ضخمة)؛ و(ﺟ) أن يكون من السهل تجنُّبها (أي لا ينبغي أن تفرض أنواعًا أخرى من التكاليف على من يختارها). وعلى حد تعبيرهما: «إن وضع الفاكهة على مستوى العين يُعتبَر دَفْعة. أما حَظْر الوجبات السريعة فليس كذلك».

يقدم الاقتباس السابق الخاص باختيار الطعام فكرة عن الطريقة التي أُلِّفَ بها الكتاب؛ فهو ساخر، وقوي، وتحاوري، وغالبًا ما يكون جريئًا إلى حدِّ التبجح. يقدم الجزء الأول سلسلةً من الأوهام المثيرة للاهتمام ونقاط الضعف الإدراكية ثم يشرح سبب حدوثها. وتعرض الأجزاء التالية أمثلةً تُوضح كيف يمكن لهذه الدروس أن تُغير طريقة تفكيرنا فيما يخصُّ مجموعة من المشكلات المتعلقة «بالصحة والثروة والسعادة». هل الناس لا يدخرون ما يكفي للتقاعد؟ قم بتغيير الإعداد التلقائي بحيث يُسجَّل الأشخاص تلقائيًّا في خطَط أصحاب العمل للمعاشات، بدلًا من الاضطرار إلى التقديم عليها، واجعلهم يلتزمون بزيادة معدلات مُساهمتهم عندما يحصلون على زيادة في الراتب في المُستقبل. هل معدَّلات استهلاك الطاقة المنزلية آخِذة في الازدياد؟ قدِّم ملاحظاتٍ سريعةً للمُستهلكين عن مقدار الطاقة التي يستهلكونها، وساعِدهم على مقارنة استهلاكهم باستهلاك الآخرين.

لم يكن ثالر وصنستين جيدَين في عرض أفكارهما فحسب، بل اتخذا خياراتٍ ذكيةً عند تطويرهما لمفهوم الدَّفْع نفسه. ولعل أكثرها وضوحًا هو أنهما صمَّما مفهوم الدفع بعناية كي يرُوق لكلٍّ من اليسار واليمين من الطيف السياسي. بل إن ثالر وصنستين قد توصَّلا إلى عبارةٍ جديدة تعكس هذا التوازن، ألا وهي «النزعة الأبوية التحرُّرية». إن دفع الناس نحو اتجاهٍ بعينِه يتخذ طابعًا أبويًّا؛ لأنه يحدِّد الخيار «الأفضل» (وإن كان لتحقيق الأهداف التي يُحدِّدها الأفراد بأنفسهم) ويُحاوِل توجيه الناس نحو هذا الخيار. ولكنها أبويةٌ تحرُّرية لأنها لا تحذف الخيارات وتتصرَّف بلُطف: إذا كانت لدى الناس رغبةٌ قوية في الاختيار على نحوٍ مختلف، فيمكنهم فعل ذلك. وهذا يعني في نظر المؤلِّفَين أنَّ الدفع يُمثِّل «طريقًا ثالثًا حقيقيًّا» بين اليسار واليمين.

أثبتَت جوانبُ أخرى من مفهوم الدفع أنها مُقنعة أيضًا. إحدى الحُجَج التي دفع بها ثالر وصنستين بقوة هي أنه لا يُوجَد تصميمٌ مُحايد. فيتعيَّن على صُناع السياسات دائمًا اتخاذ قرارٍ بشأن الخيارات التي يجِب تقديمُها أولًا، أو بتحديد ما سيحدُث إذا لم يتَّخذ شخصٌ ما خيارًا على الإطلاق. يمكن القول، بعبارةٍ أخرى، إنهم «مُصمِّمو خيارات» فعلًا. في أي كافتيريا، سيكون هناك دائمًا بعض العناصر في قائمة الطعام أكثر بروزًا من غيرها، ومن ثم يُرجَّح أن يقع عليها الاختيار. لماذا إذن ندع تموضع الخيارات لتُحدِّده الصدفة أو العادة فحسب؟ الاستنتاج المنطقي هنا هو أن الجميع منخرطون في عملية الدفع، شاءوا أم أبَوْا؛ ومن ثَم لا بد أن يكونوا على درايةٍ بما يفعلونه.

تميَّز الدفع أيضًا بأنه بدا رخيصًا. فنظرًا لأنه غالبًا ما كان يركِّز على كيفية ترتيب مجموعةٍ قائمة من الخيارات، كانت هناك إمكانية لتحقيق تغييراتٍ ذات قيمةٍ دون الاستعانة ببرنامج إنفاقٍ كبير. كان كل ما عليك هو إعادة تصميم نموذجٍ موجود أو تغيير توقيتِ حافزٍ ما (على الرغم من أنه حتى هذه الأنواع من التغييرات عادة ما تنطوي على نوعٍ من التكلفة في الحقيقة) فحسب. وكما أشرنا للتو، أطربَ ذلك صُناع السياسات الذين كانوا يُعانون من ضائقةٍ مالية بعد عام ٢٠٠٨.

غير أن التأكيد على أن عمليات الدفع زهيدة التكلفة قد يُثير أيضًا انتقادًا بأنها تعالج القضايا الكبرى بشكلٍ سطحي فحسب. فبما أن الحوافز الاقتصادية والتغييرات التشريعية لم تكن مطروحة على طاولة النقاش، فكيف كان يمكن لعملية الدفع بذل ما يكفي من الجهد الشاق لمعالجة المشكلات المُجتمعية المتغلغلة؟ تدارك ثالر وصنستين بعضًا من هذا النقد بالتخفيف من ثقل ادعاءاتهما. إنهما لا يزعُمان أن عمليات الدفع التي يقترحونها تُمثل حلولًا متكاملة لكل مشكلةٍ يعرضونها. بل إنها مسارات لم يَرتَدْها أحدٌ بعدُ يُمكنها تحقيق تحسيناتٍ ملموسة بتكلفةٍ منخفضة. ويعترف ثالر وصنستين بكلِّ أريحية بأن الدفع لن يكون كافيًا في بعض الأحيان.

أتت جهودُ المؤلِّفَين، لإتاحة أفكارهما وجعلها ذات صلة ومقبولة، بثمارها. فالجمعُ بين الرؤى النفسية المتاحة والأفكار السياسية الصديقة للبيئة الداعية للعودة إلى الطبيعة قد استغل الرغبةَ المتزايدةَ في إيجاد بدائلَ للنماذج الاقتصادية القياسية. وكانت النتيجة أن استمرَّت مبيعاتُ كتاب «الدَّفْعَة» في التزايد؛ إذ بيع أكثر من ٧٥٠ ألف نسخة ونوقِشَ على نطاقٍ واسع في الدوائر السياسية، حيث أثبَت ثالر وصنستين أنهما مُحامِيان مُقنِعان. بل إنه في عام ٢٠٠٩، انضَم صنستين نفسه إلى الحكومة رئيسًا ﻟ «المكتب الأمريكي للمعلومات والشئون التنظيمية»، الذي يُركِّز على التنظيم. وكانت مهمة صنستين هي تطبيق الاقتصاد السلوكي لزيادة فاعلية التنظيم وتقليل الأعباء التي يفرضها.

جلبَت المكانة البارزة التي نالها كتاب «الدَّفْعَة» انتقاداتٍ أيضًا، وكانت الاتهامات الرئيسة التي وجِّهَت إليه أنَّ الدفع ينطوي على تلاعُب، أو استخفافٍ بعقول الناس وكأنهم أطفال، أو قصور، أو فردانيةٍ مُفرطة، أو قائم على أدلةٍ غير كافية. وسنُناقش هذه الانتقادات في وقتٍ لاحق. ثمَّة عاقبةٌ أخرى هي أن هذا المفهوم قد ثبت في أذهان كثيرٍ من الناس باعتباره الطريقة الوحيدة لتطبيق علم السلوك على السياسة، مما يَعني أن المناهج الأخرى كانت تكافح لجذب الانتباه. وعلى الرغم من نجاحه الهائل، لا يزال كثير من صُناع السياسة لا يعرفون على وجه التحديد كيفية تطبيق هذه الأفكار عمليًّا؛ إذ كانت ثمَّة حاجةٌ لعمليةٍ أكثر تفصيلًا ووضوحًا يمكن دمجُها في الطرق الحالية للقيام بالأشياء. وسنشرح الآن كيف لَبَّت مجموعة من التطوُّرات في المملكة المتحدة هذه الحاجة، وخلقَت بذلك نهجًا جديدًا لتطبيق العلوم السلوكية على السياسة، ألا وهو نهج الرؤى السلوكية.

* مقتطف من كتاب (الرؤى السلوكية)، للمؤلفين مايكل هالزوورث وإلزبِث كيركمان، ونشر مؤسسة هنداوي

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي