إيجاد السكينة بعد الخسارة!

شبكة النبأ

2023-12-23 06:44

أحدُ الاقتباسات المفضَّلة عن قيمة المِحَن مذكور في كتاب رائع؛ ألا وهو «موسم خسارتي» لبات كونروي. يَسرُد هذا الكتاب أحداثَ موسم غير موفَّق بالمرة لفريق سلةٍ تابع لمدرسة ثانوية، وما تعلَّمه لاعبو ذلك الفريق من هذا الموسم. وها هو ذا الاقتباس:

(دائمًا ما تكون الكتب الرياضية عن الفوز؛ لأن القراءة عن الفوز أشدُّ متعة وبهجة بكثير من القراءة عن الخسارة. الفوز رائع من كل ناحية، لكن موسيقى الخسارة الأشد كآبة تتردَّد في أنحاءٍ أعمقَ وأثرى. الخسارة مُعلِّم أشدُّ قسوة وأكثر صرامة، حازم لكنه بصير؛ إذ يدرك أن الحياة أشبه بالمعضلة منها بالمباراة، وأشبه بالمحنة من الرحلة الآمنة. لقد دعمتني خبرتي عن الخسارة خلال المراحل المضطربة من حياتي حين كانت تصلني خطابات الفصل من العمل، وحين نفد رصيدي بالبنك، وحين أخبرت أبنائي الصغار أنني سأترك أمَّهم، وحين استبد بي اليأس، وحين بدأت أحلام الانتحار تبدو كأنها أغانٍ رومانسية عن الخلاص... رغم أنني تعلمت بعض الأشياء من المباريات التي فزنا بها ذلك العام، فما تعلَّمته من الخسارة كان أكثر بكثير).

يُعبِّر هذا الاقتباس عن الفائدة الحقيقية التي يمكننا جميعًا اكتسابها من الخَسارة، ما دُمنا قادرين على تصوُّر تلك الخسارة بطريقة تفكير إيجابية. وبما أنه من المُستحيل أن نعيش الحياة من دون أن تَلحق بنا الخسائر، فعلى الأقل بوسعنا جميعًا أن نحاول تذكُّر تلك التجارب وإدراك ما أضافته لحياتنا وليس ما سلبته فقط.

في يوليو عام ٢٠٠٤ تُوفيَت أمي وهي في السابعة والخمسين بسرطان المبيض، بعد أربعة شهور فقط من التشخيص. كان الأمر كما قد تتخيَّلون مفجِعًا؛ فقد أمضيت شهورًا في حدادٍ على هذه الخسارة، وأتساءل إن كنت سأجد السعادة مرةً أخرى. لكن مع الوقت، والتمرُّن، تعلَّمت أنْ أدرِك ما كسبته بعد وفاتها وأن أقدِّره، مثل توثيقِ علاقتي بشقيقي وتحوُّلٍ كنت في أمَسِّ الحاجة إليه في أهدافي المهنية.

من الممكن أن يكون العثور على المنحة في خِضَم ظروف مصيرية عسيرة أمرًا بالغَ الصعوبة، خاصةً بالنسبة إلى أولئك الذين لا يجدون سهولةً في الانتباه إلى الجانب المضيء من تلقاء أنفسهم. لكن من ناحية أولئك الذين قد يحتاجون إلى مساعدةٍ لتبنِّي هذا النوع من طريقة التفكير الإيجابية، هناك استراتيجيات معيَّنة أثبتت الأبحاث التجريبية أنها قد تُجدي نفعًا، حتى عند مواجهةِ مآسٍ وخسائرَ بالغة.

التركيز على المباهج الصغيرة في الحياة اليومية

إن كنت تحاول التأقلم مع خسارةٍ كبرى، فسيكون من العسير بحق أن تجد الكثيرَ من السعادة في هذا الموقف. لكن إذا جعلت جلَّ انتباهِك للمسرَّات الصغيرة في الحياة اليومية، فمن الممكن أن تصنع اختلافًا كبيرًا أثناء اجتيازك حدثًا مدمِّرًا. بدلًا من الانشغال بالحدث، انشغل بأحد الأنشطة التالية:

- اذهب في تمشيةٍ بالخارج وتمعَّن في جمال الطبيعة؛ رائحة الحشائش بعد تشذيبها، وألوان الزهور، وصوت الطيور وهي تغرِّد.

- تواصَل مع صديق عزيز؛ بكتابة خطاب أو الاتصال أو اللقاء لاحتساء القهوة وتبادل آخر أخباركما.

- انشغلْ بطريقة أو بأخرى بقراءة رواية، أو مشاهَدة التلفزيون، أو مشاهدة فيلم، أو تنظيم خزانة.

- مارسِ الرياضة (بأي طريقة تجدُها مناسِبة لك)، احضر درس يوجا، أو اذهب للركض، أو تنفَّس بعمق وابسط عضلاتك.

مهما كانت ظروفك، حاول أن تَعثُر على بضع دقائق ممتعة في كل يوم. وكما تقول شيرل ساندبيرج: «أكبر مفارقة في حياتي أن فقدان زوجي ساعدني أن أجد شعورًا أبلغ بالامتنان - امتنان للطف أصدقائي، ومحبة عائلتي، وضحكات أبنائي.» هذا التحوُّل في طريقة التفكير هو الذي يعزِّز السعادة.

أقِم صداقات

من التحديات التي تَحول دون العثور على السعادة إثرَ أيِّ خَسارة كبرى أن الناس يشعرون بالعزلة والوحشة في حزنهم. قد تجد الدعم الاجتماعي بوفرةٍ عقب الخسارة مباشرة، لكنه يَختفي خلال بضعة أيام أو أسابيع - أسرع بكثير مما يتبدَّد الحزن. وحتى حين يتوفَّر الدعم، قد يفتقر الناس للقدرة على التعاطُف بحق مع الخَسارة.

الذين يتواصَلون مع الآخرين، وخاصة مَن يفهم طبيعة الخسارة، يجدون يسرًا أكبرَ في التأقلم والعثور على السعادة مرة أخرى. جماعات المواساة الرسمية وغير الرسمية من الممكن أن تمنح دعمًا مفيدًا لأولئك الذين عانَوا من فقدان شخص عزيز. حيث يستطيع الناجون أن يحكُوا تجاربهم، ويحصلوا على النصح بخصوص التأقلم، ويناقشوا أسئلة محيرة (مثل: لماذا حدث هذا؟ هل الحياة عادلة؟ هل هناك إله؟). يرى العديد من الناس أن الاشتراك في جماعة دعم مع ناسٍ آخرين يفهمون ما يمرون به يساعدهم على الحد من شعورهم بالوحدة. كذلك تفيد بعض الأدلة بأن مناهج التدخل القائمة على الجماعات قد تؤدي إلى الحد من شدة الحزن بدرجةٍ أكبر من العلاج الفردي.

قيَّم الباحثون في إحدى الدراسات استجابةَ الناجين من حادث إطلاق النار الجماعي الذي وقع في جامعة فيرجينيا للتكنولوجيا عام ٢٠٠٧، الذي مات فيه ٣٣ شخصًا. رغم أن بعض الطلاب كما هو متوقَّع ظهرت عليهم معدَّلات أعلى من الاكتئاب والقلق على مدار العام التالي، فلم يظهر تغيُّر كبير على طلاب آخرين من ناحية الحالة المزاجية العامة، سواء للأفضل أو الأسوأ. لكن كان الاكتشاف الأجدر بالانتباه أن بعض الطلاب كانوا بالأحرى أفضل حالًا في العام التالي لهذه المأساة. إذ إن الطلاب الذين التمسوا الدعم الاجتماعي لدى طلاب آخرين وأقاموا علاقاتٍ أقوى معهم أظهروا في واقع الأمر تراجعًا في مستويات القلق والاكتئاب. من ثَم، فإنه عند وقوع أحداث مأساوية بحق، يجني الذين يتواصلون مع الآخرين فوائدَ جمَّة.

اصنع بعض الخير، مهما كانت الظروف

حتى عند مواجَهة مأساةٍ بشعة، يظلُّ بإمكاننا صنْع بعض الخير للآخرين؛ إن لم يكن لأنفسنا. تزخر الحياة بقصصٍ مُلهِمة عن أشخاص استطاعوا النجاة، بل وازدهروا في مواجهة مأساة كبرى بأن جعلوا من خسارتهم خيرًا. وإليكم ثلاثة أمثلة قوية:

حين وُلِد برايسون ابن آمي أندرسون ميتًا بعد ٢٢ أسبوعًا فقط، كانت محطَّمة. لكن حين اقترح عليها الأطباء أن تربط ثديها لمنع تكوين اللبن، أصرَّت آمي على الشروع في ضخ اللبن للتبرُّع به لمساعدة الأطفال المبتسرين. (إطعام لبن الأم للأطفال المبتسرين بإمكانه أن يُقلِّل بدرجةٍ كبيرة من احتمال إصابتهم بمشكلاتٍ صحية بالغة الخطورة.) ظلَّت آمي طوال ثمانية شهور تضخُّ اللبن، فتبرَّعت بإجمالي ٩٢ جالونًا من حليب الأم، وقد وجدت في اختيارها هدفًا عظيمًا. إذ قالت: «كان هذا هو الهدف من حياة برايسون وسوف أستجيب له.»

في ٢٥ أكتوبر عام ٢٠١٢، واجهت مارينا وكيفن كريم كابوسًا لا يُوصَف: إذ أقدمَت المربية على طعن ابنتهما لولو ذات الست سنوات، وابنهما ليو ذي العامين حتى الموت. وفي الشهر التالي، أقام آل كريم صندوق لولو وليو لتقديم برامج الفنون والعلوم للأطفال الفقراء. وقال كيفن كريم في أول حفلٍ لجمع التبرعات (الذي نفَدَت تذاكره): «إن حياتهما هي مصدر الإلهام الذي يُحفِّزنا.»

لا شكَّ أنكم تتذكَّرون حادث كولومباين المروِّع الذي وقع في أبريل عام ١٩٩٩، حيث أطلق اثنان من الطلاب النارَ وقتلا ١٣ شخصًا قبل أن ينتحرا هما أنفسهما. في فبراير ٢٠١٦، سو كليبولد، أم أحد الجانيَين، نشرت كتابًا بعنوان «حساب أم: العيش في أعقاب المأساة»، الذي يَسرُد قصة أسرتِها. كان هدفها من كتابة هذه القصة الشخصية جدًّا أن تُساعد الأسر الأخرى على التعرُّف على الإشارات التي لم تلحظها في ابنها، على أملِ أن تسهم تلك المعلومات في الحول دون حدوثِ مآسٍ في المستقبل. وسوف تُستخدم كل أرباحها من هذا الكتاب في تمويل منظَّمات خيرية تُعنى بالأمراض العقلية والحيلولة دون الانتحار.

تُبرهِن هذه الأمثلة الواقعية على ما تلعبه طريقة التفكير الإيجابية من دورٍ قوي في مساعدة الإنسان على العثور على رسالة في الحياة وقُدرة على التأقلم مع ظروفٍ عصيبة بحق. إن كنت تعاني بعد خسارة فادحة، فابحث عن طريقةٍ لخلق بعض الخير من التجربة - ربما بالسعي للتوعية بمرض، أو إنشاء مِنحة دراسية أو جائزة على شرفِ شخص عزيز، أو التطوُّع في منظمةٍ تساعد الآخرين الذين تعرَّضوا لمثلِ تلك الخَسارة. بتبنِّي طريقةِ تفكير إيجابية موجَّهة لفعل الخير، ستستطيع التأقلُم مع الخسائر التي يستعصي قبولها، حتى تجِدَ مع الوقت القناعةَ والسعادة والسكينة.

* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد