السعادة بين الأهداف الخارجية والداخلية

شبكة النبأ

2023-10-11 04:47

قد تكون الرغبة في مواكبة أقراننا طبيعةً بشرية. إلا أن الضغط المستمر لبلوغ مستوياتٍ وضعها آخرون يجعلنا أشدَّ نِقمةً على حياتنا. فالمستغرقون في عددِ أكبرِ المقارناتِ الاجتماعية أقلُّ سعادة، وأقل رضًا عن حياتهم، وأكثر اكتئابًا

هذه بعضَ الاستراتيجيات البسيطة التي يمكنك استخدامها لتتحوَّل بطريقة تفكيرك عن الآخرين وتصبَّ اهتمامك على البحث عن السعادة بداخلك.

تجنَّب المقارنات

كتب كيرت فونيجات قصيدةً رائعة يقصُّ فيها حديثه مع الكاتب جوزيف هيلر أثناء حضور حفلٍ أقامه ملياردير. حين سأل فونيجات هيلر عمَّا يشعر به وهو يعلم أن هذا الملياردير يربح في اليوم الواحد أكثرَ مما سيربح هيلر يومًا من مبيعات روايته «الخدعة ٢٢»، أجابه هيلر بأن لديه شيئًا لن يتيسَّر للملياردير أبدًا. سأله فونيجات: «وما هو؟».

فقال هيلر: «العلم بأن لديَّ ما يكفيني.»

تعطي هذه القصيدة مثالًا حيًّا على أن تجاهُل المقارنات هو السبيل الوحيد للعثور على السعادة الحقيقية. وكما يقول اقتباس شهير من التوراة: «مَن هو الغني؟ إنه الراضي عن نصيبه» (فصول الآباء ٤: ١). يتفاوت الناس تفاوتًا كبيرًا في درجة ميلهم لمقارنةِ أنفسهم بالآخرين.

يمكننا كذلك أن نعتادَ، مع التدريب، عقْدَ المقارنات التي تجعلنا راضين، لا ساخطين. من الأسباب التي تجعل الناس المُشاركين في الأنشطة التطوعية يعربون عن تمتُّعهم بصحةٍ وسعادة أفضل أن هذه التجربة تغيِّر طبيعةَ المقارنات التي يعقدونها.

إن كان التحوُّل باتجاه المقارنات لا يأتيك تلقائيًّا؛ فها أنا أقول لك إنني حسَّنت من قدرتي على تبنِّي ذلك التوجُّه الذي أسفر عن نتائجَ أفضلَ تُحقِّق مزيدًا من السعادة. حين كان ابني، باحثُ اللغة الإسبانية، يعاني صعوباتٍ شديدة، وكنت محبطةً بعض الشيء إزاء مستقبله الدراسي، جعلت أُذكِّر نفسي (أحيانًا كل ساعة) أنه «على الأقل ليس مصابًا بسرطان الدم». أعلم أنها فكرةٌ مقبضة بعض الشيء، لكن هناك في الواقع آباء في كل أنحاء العالم يُفضِّلون لو كان ابنهم يعاني صعوبةً في تعلُّم اللغة الإسبانية بدلًا من معاناته العلاج الكيماوي.

عبِّر عن امتنانك

قد تكون طبيعة بشرية - لدى العديد منَّا على الأقل - أن نَلتفِت إلى السلبي في حياتنا، بدلًا من الإيجابي. لكن كما يقول الفيلسوف إبكتيتوس: «عاقل هو مَن لا يأسى على ما ليس لديه، ويُسرُّ بما يملِك.»

تُشير الأبحاث إلى استراتيجية بسيطة جدًّا لزيادة سعادتنا: ركِّز على ما تمتن له. في إحدى الدراسات قسَّم الباحثون الناس إلى ثلاث مجموعات:

طُلب ممن في المجموعة الأولى أن يكتبوا خمسة أشياء شعروا بالامتنان عليها في حياتهم خلال الأسبوع المنصرم (مجموعة الامتنان)؛ ضمَّت قوائمهم أشياء مثل الرب وعطف الأصدقاء وفريق رولينج ستونز.

طُلِب ممن في المجموعة الثانية أن يكتبوا خمسة مكدِّرات يومية من الأسبوع السابق (مجموعة المكدِّرات)، فاحتوت قوائمهم على أشياءَ مثل كثرة الفواتير الواجب سدادها، ومشقة العثور على مكان لانتظار للسيارة، والمطبخ الفوضوي.

اقتصرت المجموعة الثالثة على كتابة خمسة أحداث وقعت خلال الأسبوع السابق (المجموعة الضابطة)، ضمَّت قوائمهم حضور مهرجان موسيقي، وتعلُّم الإنعاش القلبي الرئوي، وتنظيف خزانة.

قبل بدء التجربة، كان جميع المشاركين قد داوموا على كتابةِ يومياتٍ لتدوين حالاتهم المزاجية وصحَّتهم البدنية وعموم أوضاعهم. فاستطاع الباحثون عندئذٍ المقارنة بين التغيُّرات التي طرأت على الأشخاص في هذه المجموعات المختلفة مع الوقت.

ماذا تظنهم وجدوا؟ شعر الذين في مجموعة الامتنان بانشراحٍ أكثر بنسبة ٢٥ في المائة كاملة - إذ كانوا أكثرَ تفاؤلًا إزاء المستقبل وأشد امتنانًا عن حياتهم. وكان من الأشياء الجديرة بالانتباه على وجه التحديد أن الذين في هذه المجموعة مارسوا كذلك التمارين الرياضية أكثرَ من الذين في مجموعة المكدِّرات أو مجموعة الأحداث بنحو ساعة ونصف، وعانَوا أعراضًا مَرضية أقل.

هل يُجدي هذا النوع من المناهج المبسطة مع الشباب والأصحاء نسبيًّا من الناس فقط، الذين لديهم على كل حال العديد من الأشياء ليشعروا بالامتنان لها، والقليل نسبيًّا من المنغِّصات في حياتهم؟ للتأكد من هذا الأمر، استعان الباحثون في دراسة لاحقة ببالغين يعانون الاضطراباتِ العصبية العضلية، التي تُسبِّب ألمًا في المفاصل والعضلات وكذلك ضمورًا للعضلات؛ ومن ثمَّ تؤدي إلى عجز بالغ.

طلب الباحثون من هؤلاء الناس أن يكتبوا يوميًّا على مدار ثلاثة أسابيع عن أحد موضوعين: طُلب من بعضهم أن يكتبوا عن تجارب حياتهم اليومية فحسب (كان هؤلاء في المجموعة الضابطة)، في حين طُلِب من الآخرين الكتابة عن الأشياء التي يشعرون بالامتنان لها في حياتهم اليومية (كانوا هؤلاء في مجموعة الامتنان).

مرةً أخرى، كشف هذا البحث أن الكتابة عن الامتنان أدَّت إلى فوائد عظيمة. فالناس الذين كانوا في مجموعة الامتنان كانوا أكثرَ قناعةً بحياتهم في مجملها وأكثر تطلعًا إلى الأسبوع المقبل. ومما يستدعي الاهتمام أنهم كانوا كذلك يَنعمون بنوم أفضل، وهو اكتشاف بالغ الأهمية بما أن النوم باستغراق غالبًا ما يُؤدِّي إلى السعادة وصحة أفضل كذلك.

على نفس النحو، مريضات سرطان الثدي اللواتي أتمَمْن برنامجًا للامتنان على الإنترنت لستة أسابيع، ظللنَ خلاله يُمضين ١٠ دقائق أسبوعيًّا في كتابة خطابٍ يُعبِّرن فيه عن امتنانهنَّ لشخص في حياتهن، بدا عليهن رفاه نفسي أفضل وتكيُّف أفضل مع السرطان. تشير هذه النتائج إلى أن مجرد الكتابة عن الأشياء التي تمتنُّ لها يعود بفوائد بدنية، وليس نفسية فقط، حتى بين مَن يعانون حالاتٍ صحيةً خطيرة، بل وتهدِّد حياتهم.

لذلك امنح نفسك دقيقةً لتضع خطةً تزيد بها من الامتنان في حياتك. أولًا: اكتب قائمةً في الجدول أدناه ذاكرًا الأشياء التي تشعر بالامتنان عليها في حياتك الآن - وليس الأشياء التي ستمتنُّ عليها حين تتقاعد، أو تفوز باليانصيب، أو حين تشتري منزلًا جديدًا.

ثم ضع خطةً للعثور بانتظامٍ على طرقٍ للتركيز على الامتنان. دوِّن في دفترِ يومياتٍ للامتنان قبل الخلود للنوم كلَّ ليلة أو بمجرَّد أن تستيقظ، أو ابدأ في تقليدٍ أُسري بالجلوس حول مائدة العشاء كلَّ ليلة واذكر شيئًا واحدًا تشعر بالامتنان عليه في ذلك اليوم، أو اعتزم إرسالَ بريد إلكتروني أو خطاب شكر كل شهر إلى شخص في حياتك.

ابحث عن المعنى

بدأتُ هذا الفصل بوصف الضغط المتواصِل الذي يُعانيه مراهِقو بالو ألتو أثناء سعيهم للقبول في أرقى الجامعات. لكنَّ هؤلاء الطلاب، وآباءهم وأقرانهم، يبحثون عن السعادة في الأماكن الخاطئة. فلا يوجد دليل على أن الأشخاص الذين يَلتحقون بجامعات مرموقة أو يزاولون أعمالًا مجزية ماديًّا يشعرون بسعادة أكبر.

إذن ما الذي يستحضر السعادة؟ إنه فعْل الأشياء التي تجدها أنت شخصيًّا ذات جدوى، سواء في عملك أو مجتمعك أو أسرتك. يتوقَّف الأمر على مرحلتك العمرية، قد يكون باختيار تخصص تشعر بشغفٍ نحوه في دراستك الجامعية، أو انتقاء نشاط تطوعي في مجتمعك المحلي، أو اختيار مهنة أو مجال مُعيَّن. وكما قالت إميلي أصفهاني سميث، مؤلِّفة كتاب «قوة الهدف: العثور على الرضا في عالم مَهووس بالسعادة»، حين كتبت عن التحديات التي يواجهها الشباب في عالمٍ مليء بالمقارنات: «لن يُصبحوا مارك زوكربيرج التالي. لن يحصلوا على مقالات تنعى وفاتهم في صحف مثل هذه. لكن هذا لا يَعني أن حياتهم معدومة الأهمية والقيمة. فكلنا لدينا دائرة من الأشخاص الذين نستطيع أن نؤثِّر على حياتهم ونجعلها أفضل - ومن الممكن أن نجد معنًى لحياتنا في ذلك.»

لديَّ صديقة ظلَّ زوجها يعمل طوال سنوات في مؤسسة مالية كبرى في وول ستريت. وذات يوم عاد إلى المنزل واعترف لزوجته بأنه يبغض وظيفته ويريد أن يستقيل. رغم أنه كان ما زال أمامهما قروض مصروفات جامعية واجب سدادها، فقد دعمت قراره؛ وهو يعمل الآن رجل إطفاء. حين سألتها كيف تغيَّرت الحياة بعد هذا التحوُّل الكبير في مساره المهني، راحت تصِف بحماسٍ شغفَه بوظيفته. يبدو أنه صار مُقبلًا على عمله لأنه عثر أخيرًا على غايته. وهذا يعود عليه، وعليها، بسعادةٍ أكبر بكثير عن راتبه المرتفع السابق.

تؤكِّد البيانات التجريبية أهميةَ الاشتراك في أنشطةٍ بناءة كعنصرٍ أساسي من عناصر السعادة. فقد كشفت دراسة حديثة مثلًا عن أن محامي الخدمة العامة - محامي الدفاع المجاني، والمحامين المستقلِّين الذين يعملون لصالح المؤسسات غير الهادفة الربح، والمدعين الجنائيين - يُفيدون بحالاتٍ مزاجية يومية ورفاه أفضل من المحامين الذين يعملون في مؤسسات تقليدية (أكثر فخامة). فما المسئول عن تلك الاختلافات؟ حسنًا، ربما ليست ساعات العمل هي المسئولة، بما أن المحامين في كلتا المجموعتين يعملون فترات ممتدة (حتى إن كان مَن يعملون في مؤسسات ومضطرين لتسجيل عدد معيَّن من الساعات يُعبِّرون عن مستوياتٍ أدنى من السعادة). ليست المسألة مسألةَ مال بالتأكيد، بما أن محامي الخدمة العامة يُحقِّقُون أرباحًا أقلَّ بكثير ممَّن يعملون في مؤسسات ربحية.

أغلب الظن أن المسئول بحق عن التفاوت الكبير في مستوى السعادة بين هاتين المجموعتين هو نتيجة مباشرة لهدفٍ واهتمام شخصي أسمى يجده محامو الخدمة العامة في وظائفهم. وكما أشار هؤلاء الباحثون: «لا تتوقَّف حياة المحامي السعيدة على التقديرات أو الثراء أو الوجاهة بقدرِ ما تتوقف على العثور على عملٍ يُثير حماسه ويشغل اهتمامه، ويجد فيه رسالة شخصية ويهتم بمد يد العون للآخرين.»

تُعطي المقارنات المستمرَّة في مجتمعنا انطباعًا خاطئًا بأن السعادة تكمُن في السعي وراء أهداف خارجية، تشمل الأغراض المادية والمنزلة والوجاهة. لكن تدلُّ هذه الاكتشافات على أن السعادة الحقيقية تكمُن في الواقع في السعي وراء أهداف داخلية، موجَّهة لنمو الشخصية والتواصل مع الآخرين تواصلًا بنَّاءً.

* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية

ذات صلة

مستقبل عضوية فلسطين في الأمم المتحدة وآثارهاالتعليم العالي: المشهد المحذوفضرورة الشراكة العراقية التركيةالخواطر النفسانية والوساوس الشيطانيةالسياسية الامريكية في المنطقة فقاعة ضارة