معالجة الإصابات الأخلاقية
موقع للعلم
2023-09-06 03:49
بقلم: آنا هاروود جروس
يُدرك معظمنا ذلك الشعور المزعج بالندم الناجم عن فرط التأنيب على أثر ارتكاب بعض الأخطاء الحقيقية أو الآثام المُتصورة في ماضينا. ربما آذينا شخصًا بشكل مباشر أو فشلنا في التصرف عندما شعرنا بأنه كان يجب علينا أن نفعل شيئًا. هذا الشعور له قيمة؛ فالذنب، عندما يكون قابلًا للتكيف معه، يُحفزنا على تقييم وجوده وربما اتخاذ إجراءات إصلاحية، أو إعادة النظر في المرة القادمة التي نُواجه فيها موقفًا مشابهًا.
لكن ماذا نفعل عندما ينبع هذا الذنب من أفعال جرت في مواقف تتعلق بالحياة أو الموت -كتلك في ساحة المعركة أو داخل غرفة طوارئ- ويتعذر التكيف معه قطعًا؟ ماذا يحدث عندما يُعاد تحليل عمل كان مصيريًّا ومُسوَّغًا في لحظات الشدائد الجسيمة، أو على الأقل بدا أنه كذلك، مع إزالة العنصر الحاسم للتهديد المُباشر للحياة؟ ماذا عندما يتصاعد الشعور بالذنب ليصبح أكثر إزعاجًا بمرور الوقت ويختلط بالعار والهروب واليأس؟
هذا هو نوع الذنب المُرتبط بالإصابة الأخلاقية، وهو مصطلح وصفه بريت ليتز -من جامعة بوسطن- وزملاؤه عام 2009 بأنه التداعيات النفسية "للأحداث المؤذية أخلاقيًّا، مثل ارتكاب الأفعال التي تنتهك المعتقدات والتوقعات الأخلاقية الراسخة (في نفس كل فرد) أو الفشل في منع تلك الأفعال أو مشاهدتها إذ تقع". في السنوات الأخيرة، وَلّد هذا المفهوم قدرًا كبيرًا من الاهتمام البحثي، وركز معظمه على المحاربين القدامى في الولايات المتحدة الذين فشلوا في الاستجابة بشكل جيد لعلاج اضطراب كرب ما بعد الصدمة (PTSD)، وكذلك على التحليلات الوصفية التي تُفيد بانتشاره بين قطاع المحاربين القدامى بشكل عام. وعلى الرغم من أن أعراض الإصابة الأخلاقية تتداخل في نواحٍ كثيرة مع أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة (وغالبًا ما يجتمعان معًا) ، إلا أن الأبحاث أظهرت أنهما حالتان مختلفتان، إذ تتسبب الإصابة الأخلاقية في مُعاناة كبيرة حتى بين المحاربين القدامى الذين لم يتم تشخيصهم باضطراب كرب ما بعد الصدمة. ومع غياب عامل الخوف المرتبط باضطراب كرب ما بعد الصدمة لدى أولئك الذين يعانون من إصابة أخلاقية، فإن العديد منهم غير مؤهل للعلاج من هذه الحالة، أو لا يطلب العلاج على الإطلاق. ثمة حافز كبير يدفعنا لتجنُّب التعامل مع الإصابة الأخلاقية باعتبارها حالةً مرضية، لكن تفهُّم الصعوبات الفريدة الواضحة في هذه الحالة الخاصة قد يكون مفتاحًا لتطوير علاجات أكثر فاعليةً للعديد من آلاف المحاربين القدامى الذين يعانون من صدمات مرتبطة بالحرب.
على الرغم من أن أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة -مثل تجنُّب عوامل التذكير بالحدث المؤلم، وأنماط التفكير الاقتحامية- قد تكون موجودةً أيضًا في الإصابة الأخلاقية، يبدو أن هذه الأعراض تحقق أغراضًا مختلفة في كلتا الحالتين؛ إذ يتجنب المصابون باضطراب كرب ما بعد الصدمة الخوف بينما يتجنب المصابون بإصابة أخلاقية محفزات الشعور بالعار. توجد دراسات مُقارنة قليلة بين اضطراب كرب ما بعد الصدمة والإصابات الأخلاقية، لكن ثمة بحثًا يقارن بشكل غير مباشر بين الحالتين من خلال التفريق بين أنماط اضطرابات كرب ما بعد الصدمة المُستندة إلى الخوف والأخرى غير المستندة إلى الخوف (أي الإصابة الأخلاقية)، التي ثبت وجود علامات بيولوجية عصبية مختلفة خاصة بها. وفي السياق العسكري، توجد أمثلة لا تحصى على الأحداث التي يحتمل أن تكون مؤذية أخلاقيًّا (PMIEs)، التي يمكن أن تشمل قتل الآخرين أو جرحهم، أو المشاركة في الانتقام أو استخدام العنف المفرط، أو الفشل في إنقاذ حياة رفيق أو طفل أو مدني. وقد ثبت أن التعرُّض لتلك الأحداث يُفضي إلى مجموعة أكبر من أعراض الكرب النفسي، تتضمن مستويات أعلى من الشعور بالذنب والغضب والعار والاكتئاب والعزلة الاجتماعية، مقارنةً بتلك التي تظهر في أنماط اضطراب كرب ما بعد الصدمة التقليدية.
يصعُب التعامل مع الشعور بالذنب في العلاج النفسي، وغالبًا ما يبقى بعد العلاج القياسي لاضطراب كرب ما بعد الصدمة (إذا كان المصاب قادرًا على الحصول على العلاج من الأصل). في الواقع، قد يكون الذنب أحد العوامل التي تدفع أكثر من 49 في المئة من المحاربين القدامى إلى ترك العلاج، المُستند إلى الأدلة، لكرب اضطراب ما بعد الصدمة، أو قد يُفسر لمَ لا يحقق 72٪ من المصابين، في بعض الأحيان، درجةً من الشفاء بعد هذا العلاج تكفي لاستبعاد تشخيص اضطراب كرب ما بعد الصدمة لديهم، على الرغم من التحسُّن الواضح في أعراضهم. في معظم الأحيان، يتم التعامل مع أعراض الإصابات الأخلاقية في العيادة النفسية من خلال علاجات اضطراب كرب ما بعد الصدمة التقليدية؛ إذ تُعالج أفكار الذنب والعار على نحوٍ لا يختلف عن علاج إدراكات مُشوهة أخرى. لكن عند التعامل مع الشعور بالذنب والأحداث المرتبط بها على أنها "شعور وليس حقيقة"، حسبما تذكر عالمة النفس ليزا فينلي في ورقة بحثية صدرت عام 2015، فإننا نحاول تقليل تلك المشاعر أو تخفيفها بسلوك طريق مختصر يجنِّب المصابين الإحساس بالمشاعر المشروعة والمعقولة بعد أنشطة مرتبطة بالحرب. وتضيف فينلي أن "الفكرة القائلة بأننا -الأطباء- قد نتحسن في إقناع الناس بعدم الشعور الذنب بعد تورطهم في حوادث مؤلمة، هي فكرة قصيرة النظر بشكل مخيف من عدة نواحٍ"، فمن ناحية، يمكن أن يتسبب الشعور بالذنب والعار وأعراض الإصابة الأخلاقية في معاناة نفسية، بل وسلوكيات مُدمرة للذات، ومن ناحية أخرى، فإن "علاج" هذه الأعراض دون إتاحة الفرصة لاستيعاب مشروعيتها وآثارها على المدى الطويل داخل الأطر الأخلاقية والمجتمعية والدينية للمصاب يمكن أن يخفي الصراع دون معالجة جوهره.
إن الإصابة الأخلاقية، لا سيما خارج الولايات المتحدة، غير مفهومة جيدًا، والآثار المترتبة على خيارات العلاج المختلفة الخاصة بها تحظى بفهم أقل. ما نعرفه هو أنه في جميع أنحاء العالم، يكابد أولئك الذين يعانون من إصابات أخلاقية صعوبةً أشد في مواجهة صراعاتهم الداخلية، وأن الفشل في فعل ذلك يمكن أن يؤدي إلى أعراض جسدية، وانسحاب من التفاعل الاجتماعي، وتكوين علاقات غير صحية ، واتباع سلوكيات خطرة أو مدمرة للذات. وقد أظهر العلاج القائم على الاستعداد المتزايد للشعور بالأحاسيس المؤلمة، وتطوير مرونة نفسية أكبر، واستيعاب مفهوم القيم الشخصية، التي ربما انتُهكت في أثناء الخدمة، والسعي لإرسائها من جديد، أظهر فوائد أولية لمَن يعانون من الإصابة الأخلاقية. يبدو أن المبدأ الأساسي في جميع برامج العلاج هو رغبة المُعالج في تسهيل تجربة شعور المريض بالذنب والعار، متبعًا منهجًا استكشافيًّا يتجنب إصدار الأحكام أو إزاحة تلك المشاعر أو نزع مشروعيتها.
إن فهم الإصابات الأخلاقية له أهمية كبيرة؛ نظرًا للعدد الكبير من المحاربين القدامى الذين لا يستفيدون من علاجات اضطراب كرب ما بعد الصدمة التقليدية، وارتفاع مستوى أعراض الذنب بين المحاربين القدامى، وتقارير الأطباء الذين يصفون الإصابات الأخلاقية دون امتلاك الأدوات اللازمة للتعامل معها. علاوةً على ذلك، قد يتضح أن مفهوم "الإصابة الأخلاقية" مفيد في فهم المستويات المتقدمة من الإنهاك الكلي التي نجدها لدى أفراد الأطقم الطبية، وكذلك لدى أولئك المشتغلين بمهن ترتفع فيها نسب التعرُّض لمواقف تطرح إشكاليات أخلاقية، مثل الصحافة. تُوفر الإصابة الأخلاقية فرصةً مثاليةً للمقاربات متعددة التخصصات، التي تتضمن الاهتمام بالمكونات الروحية والمجتمعية والنفسية. وفي حين يزعم العديد من المُعالجين والباحثين أن الانتباه لأعراض الشعور بالذنب والعار موجود بالفعل في علاجاتهم التي تركز على الصدمة، يُشير البحث إلى أن التطرُّق إلى مشاعر الخيانة والغضب تجاه القوات العسكرية أسهل على المعالجين من التعامل مع الأفعال المشكوك فيها أخلاقيًّا التي ارتكبها المُصاب. إن التعامل مع تلك المُعضلات الأخلاقية يظل تحمُّله أصعب كثيرًا.