ماهية القلق الاجتماعي بين علم النفس والفلسفة
د. حسام الدين فياض
2023-01-02 06:52
إن القلق قديم قدم الإنسانية، فالإنسان الذي عاش في عصور ما قبل التاريخ لم تكن حیاته البدائیة خالیة من مصادر القلق، رغم أن صراعه في ذلك الوقت كان ینحصر في مواجهة الحیوانات المفترسة ومحاولة التغلب علیها، وبصفة عامة فإن الإنسان في الأزمنة السابقة أكثر حظاً من هذا الزمن، فقد كان مصدر القلق لدیه من مصدر واحد، أما الیوم فتعددت مصادر القلق، فقد أصبح مجرد الاحتفاظ بالتوازن والسلام النفسي یستلزم جهداً فائقاً ومواجهة مستمرة في جبهات متعددة ضد مصادر القلق والتوتر.
یوصف القلق بأنه لعنة عصرنا ونحن جمیعاً معرضون له، لأن الحیاة المعاصرة تسعى بدون رفق لأن تضغط علینا بقوة ولیس هناك من لا یشعر بالاضطراب أحیاناً، لأنه لا یستطیع تحمل بعض أعباء حیاته الیومیة ومربكاتها التي تفوق قوة احتماله وطاقته. كما يمكن أن يتملك بعض الأشخاص سيل من مشاعر الخوف الذي يترك آثاراً سلبية لدى التعامل مع الآخرين، لتتولد مشاعر الارتباك والقلق لدى معايشة مواقف يومية اعتيادية، فتتحول لحالة من الرهاب الذي يعرف بالقلق الاجتماعي.
يعتبر اضطراب القلق الاجتماعي أحد أنواع الاضطرابات النفسية التي قد يصاب بها بعض الأفراد، حيث تتمظهر لديهم من خلال سيطرة الأفكار السلبية حيال اعتقادهم بالتعرض للإذلال أو الإحراج في الوسط الاجتماعي يشعرون فيه بالقلق من انتقاد الآخرين لهم، أو من خلال مراقبتهم، أو تكوين الآراء والأحكام حول شخصيتهم، أو ارتكاب الأخطاء في العلن بسبب قلة المهارات الاجتماعية التي يملكونها. وفي بعض الأحيان، قد يتحول هذا القلق إلى نوبة من الذعر، حيث يشعر الأشخاص الذين لديهم هذا الاضطراب بالخوف لمدة أيام أو عدة أسابيع من أحداث لم تحدث بعد، ومع أنهم يشعرون بأن أسباب هذا الخوف غير موجودة على أرض الواقع إلا أنهم لا يستطيعون تجاوز الخوف الذي لديهم بسببها.
وفي العموم، نجد أنه من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالتوتر والقلق في مواقف الاجتماعية والمهنية معينة. فعلى سبيل المثال، قد يسبب الخروج في موعد عاطفي أو إلقاء عرض تقديمي أمام جمهور كبير الشعور بتوتر وهذا أمر طبيعي، ولكن في حالة اضطراب القلق الاجتماعي (الرهاب الاجتماعي) نجد أن التعاملات اليومية والروتينية تسبب المصاب قلقاً بالغاً، وارتباكاً وشعوراً بالحرج بسبب الخوف من أن تكون محل مراقبة أو حكم سلبي من الآخرين لذا توصف الحالة هنا بأنها حالة مرضية.
1- مفهوم القلق الاجتماعي:
يعرّف بأنه شعور بعدم الارتياح، مثل التوتر أو الخوف، يمكن أن يكون خفيفاً أو شديداً. وقد يعترض أي شخص. أما اضطراب القلق العام هي حالة طويلة الأمد تجعلك تشعر بالقلق حيال مجموعة واسعة من المواقف والقضايا، بدلاً من حدث واحد محدد. ويمكن أن يسبب أعراض نفسية (عقلية) وجسدية. ويمكن القول القلق الاجتماعي بأنه اضطراب مزمن يتميز بخوف مفرط وغير مبرر من الإحراج والهوان في المواقف الاجتماعية، مما يؤدي إلى ضيق شديد وعدم القدرة على أداء الوظائف اليومية. ويعد القلق الاجتماعي اضطراباً شائعاً، ويبدأ إجمالاً في الطفولة أو سنوات المراهقة، وإن لم يتم علاجه أدى إلى انطوائية ومشكلات نفسية متعددة.
وهكذا فإن السمة المميزة لاضطراب القلق الاجتماعي هي القلق الشديد أو الخوف من الحكم عليك، أو التقييم السلبي، أو الرفض في موقف اجتماعي أو أداء فعل ما مثل: احمرار الوجه أو التعثر في الكلمات، أو أن يُنظر إليهم على أنهم أغبياء أو محرجون أو مملون. ونتيجة لذلك، فإنهم غالباً ما يتجنبون المواقف الاجتماعية أو المواقف المتعلقة بالأداء، وعندما لا يمكن تجنب موقف ما، فإنهم يعانون من قلق وضيق كبيرين، كما يعاني العديد من الأشخاص المصابين باضطراب القلق الاجتماعي أيضاً من أعراض جسدية قوية، مثل: معدل ضربات القلب السريع، والغثيان، والتعرق، وقد يتعرضون لهجمات كاملة عند مواجهة موقف مخيف. على الرغم من إدراكهم أن خوفهم مفرط وغير معقول، فإن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي غالباً ما يشعرون بالعجز عن قلقهم.
في حقيقة الأمر، لا تعتبر كل أنواع القلق مرضیة أو دلیلاً على اضطراب نفسي، فالقلق في حد ذاته ظاهرة طبیعیة، وإحساس، وشعور، وتفاعل مقبول، ومتوقع تحت ظروف معینة، وأحیاناً یكون للقلق وظائف حیویة تساعد على النشاط، وكذلك على حفظ الحیاة.
لذا سعى علماء النفس إلى تقسیم القلق إلى عدة أنواع ومنهم من اعتمد في تقسیمه للقلق على الأسباب التي أدت إلى نشأة القلق مثل فروید، ومنهم من اعتمد على الآثار المترتبة على القلق، ولكن أي كان المنطلق في تقسیم القلق فإن الباحث في هذا السياق یجد أن هناك شبه إجماع لدى علماء النفس في تقسیم القلق إلى قلق موضوعي، وعصابي، وقلق خلقي.
أ- القلق الموضوعي: وهو النوع الذي یدرك الإنسان أن مصدره خارجي، وهو عبارة عن رد فعل لإدراك خطر خارجي، أو لأذى یتوقعه الشخص مستقبلاً، ویسمیه العلماء عدة أسماء مثل القلق الواقعي، أو القلق الصحیح، والقلق السوي. وهذا النوع من القلق أقرب إلى الخوف ذلك لأن مصدره یكون واضح المعالم في ذهن الإنسان. ویطلق علیه أحیاناً القلق السوي، ویحدث في مواقف التحسب وتوقع حدوث ما لا تحمد عقباه كالخوف من الفشل، أو فقدان شيء، وأحسن الأمثلة لهذا الشعور هو قلق الطالب أثناء الامتحان أو قبله.
ب- القلق العصابي: وهو ینشأ نتیجة محاولة المكبوتات الإفلات من اللاشعور والنفاذ إلى الشعور والوعي، ویكون القلق هنا بمثابة إنذار للأنا لكي یحشد دفاعه حتى لا تنجح المكبوتات اللاشعوریة في التسلل إلى منطقة الوعي والشعور، وإذا كان القلق الموضوعي یعود إلى مثیرات خارجیة في البیئة فإن هذا القلق یرجع إلى عامل داخلي، وهو دفاعات الهو الغریزیة، التي توشك أن تتغلب على الدفاعات وتحرج الأنا إحراجاً شدیداً، لأنها تجعله في صدام مع المعاییر الاجتماعیة، وتجعله عرضة للعقوبات الذاتیة من جانب الأنا الأعلى. أي أن القلق العصابي هو الخوف من أن تخرج الحوافز الغریزیة للهو من دائرة السیطرة وهو یتضمن الخوف من العقاب الذي سیحدث. ویعني ذلك أن القلق العصابي توتر داخلي لا مبرر له، أي إنه حالة تهیؤ نفسي وبدني لمجابهة خطر موهوم، أو مبالغ فیه، بحیث لا یتفق التوتر الحاصل مع الظروف المؤدیة له.
ج- القلق الخلقي: هو نتیجة الصراع الذي سیحدث داخل الشخص، ولیس صراعاً بین الشخص والعالم الخارجي. وهو نوع من أنواع الخوف من الضمیر وینشأ عن الصراع مع الذات العلیا، وذلك نتیجة تحذیر أو لوم الأنا الأعلى للأنا، عندما یأتي الفرد أو یفكر في الإتیان بسلوك یتعارض مع المعاییر والقیم، التي یمثلها جهاز الأنا الأعلى أي إن هذا النوع یتسبب عن مصدر داخلي مثله مثل القلق العصابي الذي ینتج من تهدید دفاعات الهو الغریزیة، ویتمثل هذا القلق في مشاعر الخزي والإثم والخجل والاشمئزاز، ویصل هذا القلق إلى درجته القصوى في بعض أنواع الأعصبة، كعصاب الوسواس القهري الذي يصاحبه من السیطرة المستبدة للأنا الأعلى، ویخاف أكثر ما یخاف من لوم ضميره القاسي. كما ینشأ حین یحاول الفرد أن یخالف ما تعلمه من والدیه من مبادئ وأخلاق، وكذلك عندما یفكر في إشباع رغبات الهو، التي تتطلب منه أن یقدم على تجاوز كل ما هو محرم اجتماعياً ودينياً.
2- أعراض القلق الاجتماعي:
لا يعد الشعور بالخجل أو عدم الراحة في مواقف معينة بالضرورة مؤشراً على اضطراب القلق الاجتماعي، وبخاصة لدى الأطفال. وتتفاوت مستويات الشعور بالراحة في المواقف الاجتماعية تبعاً لسمات الشخصية وتجارب الحياة. فبعض الأشخاص متحفظون بطبعهم، والبعض الآخر أكثر انفتاحاً. وعلى العكس من العصبية اليومية، تشمل علامات اضطراب القلق الاجتماعي الخوف والقلق والعزلة بما يؤثر على العلاقات بالآخرين أو الأنشطة الروتينية اليومية أو العمل أو الدراسة أو غير ذلك من الأنشطة. وعادةً يبدأ اضطراب القلق الاجتماعي في بداية مرحلة المراهقة أو منتصفها، إلا أنه قد يبدأ أحياناً لدى الأطفال الأصغر سناً أو البالغين. وتنقسم أعراض القلق الاجتماعي إلى ما يلي:
أ- الأعراض الشعورية والسلوكية: قد تشمل مؤشرات اضطراب القلق الاجتماعي وأعراضه ظهور المؤشرات التالية بشكل مستمر مثل: (الخوف من المواقف التي قد يحكم فيها الآخرون عليك حكماً سلبياً، القلق من إحراج أو إهانة نفسك، الخوف الشديد من التعامل مع الغرباء أو الحديث معهم، الخوف من أن يلاحظ الآخرون أنك تبدو قلقاً، الخوف من الأعراض الجسدية التي قد تسبب شعورك بالإحراج، مثل احمرار الوجنتين أو التعرق أو الرعشة أو ارتجاف الصوت، تجنب فعل أشياء للآخرين أو الحديث معهم خوفاً من الإحراج، تجنب المواقف التي قد تكون فيها محور الاهتمام، القلق المسبق من نشاط أو حدث تخاف منه، الخوف أو القلق الشديد أثناء المواقف الاجتماعية، تحديد أدائك والتعرف على العيوب التي شابت تعاملاتك بعد موقف اجتماعي ما، توقع أسوأ العواقب الممكنة بسبب تجربة سلبية تعرضت لها أثناء موقف اجتماعي ما).
وقد يعبّر الأطفال عن قلقهم من التفاعل مع البالغين أو أقرانهم عن طريق البكاء أو نوبات الغضب أو التعلق بالوالدين أو رفض الحديث في المواقف الاجتماعية. ويتمثل نوع اضطراب القلق الاجتماعي المرتبط بالأداء في شعورك بالخوف والقلق الشديدين أثناء الحديث أو تقديم أداء أمام جمهور لا في الأنواع الأخرى من المواقف الاجتماعية الأكثر انفتاحاً على العامة.
ب- الأعراض الجسدية: قد تصاحب مؤشرات وأعراض جسدية اضطراب القلق الاجتماعي أحياناً، وقد تشمل على ما يلي: (احمرار الوجنتين، تسارع ضربات القلب، الارتجاف، التعرق، اضطراب المعدة أو الغثيان، صعوبة ملاحقة الأنفاس، الدوخة أو الدوار، الشعور بأن عقلك قد فرغ تماماً، توتر العضلات).
ج- الأعراض النفسية: وتتمثل في: (نوبة من الهلع التلقائي، الاكتئاب وضعف الأعصاب، الانفعال الزائد، عدم القدرة على الإدراك والتمییز، نسیان الأشیاء، اختلاط التفكیر، وزیادة المیل إلى العدوان).
د- الأعراض الاجتماعية: إذا كان المرء مصاباً باضطراب القلق الاجتماعي، فقد يكون من العسير عليه تحمل التجارب اليومية الشائعة (تجنب المواقف الاجتماعية الشائعة)، ومنها ما يلي: (التعامل مع أشخاص غير معتادين أو غرباء، حضور الحفلات أو اللقاءات الاجتماعية، الذهاب إلى العمل أو المدرسة، بدء محادثات مع الآخرين، التواصل البصري، المواعدة، دخول غرفة فيها أشخاص جالسون بالفعل، إعادة المنتجات إلى المتجر، تناول الطعام أمام الآخرين، استخدام مرحاض عمومي).
وقد تتغير أعراض اضطراب القلق الاجتماعي بمرور الوقت. فقد تشتد إذا كنت تواجه كثيراً من التغيرات أو التوتر أو مطالب في حياتك. ورغم أن تجنب المواقف التي تسبب اضطراب القلق الاجتماعي قد يجعلك تشعر بأنك أفضل في فترة قصيرة، فإن الراجح أن قلقك سيظل موجوداً على المدى البعيد إذا لم تحصل على العلاج اللازم.
3- أسباب القلق الاجتماعي:
إن شخصية الإنسان عبارة عن مجموعة من المواقف المتكررة، باختلاف سماتها ومواصفاتها، ولم تكن الشخصية التي تراها وتتعامل معها في أي شخص وليدة اللحظة، بل هي تراكمات منذ أن فتح عينيه على الحياة، وفي هذا العنصر سنحاول توضيح الأسباب التي تدفع الإنسان للدخول في القلق الاجتماعي، وهي كالآتي:
أ- الاستعداد الوراثي: تلعب العوامل الوراثية دور أساسي في الإصابة بالقلق الاجتماعي فقد أثبتت الدراسات أن الأطفال المولودين لآباء مصابين بالقلق الاجتماعي أكثر عرضةً لانتقال ذلك الاضطراب السلوكي إليهم من خلال الجينات الوراثية.
ب- الاستعداد النفسي: هناك عدد من الأسباب النفسية للقلق الاجتماعي، أبرزها بالرهاب، الإصابة بالاكتئاب والصدمات النفسية الناتجة عن الحوادث والاعتداء الجنسي وخاصةً في مرحلة الطفولة. بمعنى آخر ينحصر الاستعداد النفسي في الشعور بالتهديد الداخلي أو الخارجي الذي تفرضه بعض الظروف، والتوتر النفسي الشديد والأزمات والمتاعب والصدمات النفسية، والشعور بالذنب والخوف من العقاب وتوقعه.
ج- عوامل بيئية: تلعب العوامل الاجتماعية والبيئية السلبية المحيطة بالشخص دوراً سلبياً في التأثير على صحته النفسية، فهي قد تؤدي إلى الإصابة بالقلق الاجتماعي، والذي يصل إلى القلق الاجتماعي في حالة تواجد الشخص في بيئة عنيفة تفتقر إلى عنصر الأمان. حيث تزيد البيئة المشبعة بعوامل الخوف والهم من مواقف الضغط والحرمان وعدم الأمن واضطراب الحو الأسري ووقوع الكوارث الطبيعية والصناعية والحروب.
د- الناقلات العصبية: من المحتمل أيضاً أن يكون سبب القلق الاجتماعي الإصابة بالخلل في بعض المواد الكيميائية في الدماغ، والمعروفة باسم (الناقلات العصبية) حيث تعمل الدماغ على استخدام تلك الناقلات العصبية لإرسال الإشارات عبر الخلايا، هذا وقد أثبتت الدراسات أن هؤلاء من يعانون من القلق الاجتماعي لديهم خلل في تلك الناقلات العصبية.
ه- بنية الدماغ: هناك وظائف في مناطق محددة في بنية الدماغ تعمل بالضرورة على الإصابة بالاضطرابات النفسية ومنها الرهاب الاجتماعي، فقد أثبتت الأبحاث وجود اختلافات في مناطق محددة بالدماغ لهؤلاء المصابين بالقلق الاجتماعي، وهناك 4 مناطق بالدماغ لها دور في هذا، وهي جذع الدماغ، الجهاز الحُوفِي، قشرة الفص الجبهي، والقشرة الحركية للدماغ.
و- النشأة غير السوية: تعد التربية والنشأة منذ الصغر أهم النقاط التي تؤثر على حياة الطفل في الكبر، حيث لابد من التعامل الصحيح مع الطفل لتعزيز المبادئ الصحيحة والسوية، حيث يجب منحه مساحة من الحرية، للإدلاء برأيه المستقل في حدود الأدب واحترام الكبير، وعلى الأم مراعاة عدم التسلط في اتخاذ القرارات المنزلية، خاصةً ما يتعلق منها بحياة الطفل، مثل: اختيار الملابس، نوع الطعام، ألوان الأغراض الشخصية، وهكذا من أمور كثيرة يستعملها شخصياً، فلابد أن تنطبق على ذوقه لا ذوقك أنتِ، وهنا يأتي دور الوالدين الفعال في تعليمه كيفية الاختيار الصحيح الذي يناسبه.
ز- فقدان الثقة في النفس: يعد فقدان الثقة في النفس من أهم أسباب القلق الاجتماعي، فاكتسابها يقلل من فرص وجوده، والعكس صحيح عندما يفقد الشخص الثقة في ذاته، يكون في حالة قلق وخوف من كل المجتمع، ومن أكثر ما يفقد الشخص ثقته في نفسه هو تعرضه للتوبيخ المستمر من المحيطين به أسرياً في نطاق العائلة، المدرسة، أو النادي الرياضي، فيكون الانتقاد السلبي هو طريقة التعامل دون ملاحظة أي إيجابيات يقوم بها الطفل، فيتم تسليط الضوء على السلبيات فقط، فيتحول الطفل لماكينة إخراج سلبيات، حيث يشعر الطفل دوماً بعدم وجود جدوى من فعل الأمر الإيجابي، فهو لا يرهق نفسه في فعل ما يرضيك، لأنه بكل بساطة يعلم جيداً أنك لا ترى الإيجابيات، بل تستمع فقط بنقده.
ح- تأنيب الضمير: عند النظر عامةً إلى بعض الأمور، تجد أن تأنيب الضمير هو تصرف محمود، حيث يريد الشخص محاسبة نفسه ومعرفة الأخطاء التي وقع فيها، والمعالجة فيما بعد، ولكن في حالة المريض المصاب بالرهاب الاجتماعي، يتغير مفهوم هذه الجلسات، لتصبح جلسات جلد وتعذيب بدلاً من جلسات تأنيب للضمير.
وعلى العموم يقوم الفرد في هذا السياق بمراجعة سلوكياته اليومية، بأقصى صورة ممكنة، وتسليط الضوء على السلبيات بطريقة مبالغ فيها، دون وضع أي مبررات أو أعذار في الاعتبار، فيزيد من قلقه وتوتره، ويدخل في حالة أرق وعدم القدرة على النوم، بسبب التفكير المستمر، والبحث عن السبب الذي أدي إلى حدوث ذلك، وكيف أنه ترك الموقف حتى وصل لذلك الحد، وفي حالة المرض المزمن، فهو يحبس نفسه في عزلة تامة، وتتطور حالته للاكتئاب، وفي حالات قد يفقد حياته من شدة القهر.
4- فلسفة القلق الاجتماعي عند إريك فورم:
اتسمت المجتمعات الغربية بانفصال الناس عن أنفسهم وعن مجتمعاتهم، ولقد حدث هذا على الرغم من التقدم العلمي، والنمو الصناعي المتزايد، والسعي وراء الطرق، التي توفر السعادة، وتجلبها، وتؤمن الرفاهية للإنسان، ونتيجة مباشرة لذلك الانفصال، أصبح هناك اضطراب في التفاعل فيما بين العوامل النفسية المؤثرة والوسط الاجتماعي المحيط بالفرد، وبمعنى آخر بين بناء الفرد وبناء المجتمع، فالحياة الصناعية تتسارع يوماً بعد يوم، ويتحول فيها الإنسان إلى شيء مما يصيبه بالقلق واللامبالاة بالحياة، وقد يدفعه هذا في بعض الأحيان إلى كره الحياة والتذمر منها.
يشرح عالم النفس النقدي الألماني "إريك فروم" (1900-1980) المشكلات النفسية لإنسان القرن العشرين، حيث قال: إن إنسان القرن العشرين قد تشيأ وأصبح "شيئاً". لقد غادر مربع كونه إنساناً ليدخل في مربع كونه شيئاً من الأشياء التي تمتلك وتباع وتشترى، وهذا الإنسان أبرز معاناته تتلخص في القلق، فلا إيمان لديه، ولا قناعة، وقليل القدرة على الحب، يهرب إلى الانشغال الفارغ، إدمان الكحول، الانغماس المتطرف في الجنس، ولذلك تظهر عليه كل الأمراض النفسية الجسدية.
إن تطور وتقدم الصناعات الاقتصادية والتكنولوجيا المتطورة على حساب القيم الإنسانية هي من تقف خلف مخاوف "إريك فروم" أو ملاحظاته حول إنسان القرن الذي عاش فيه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا ماذا لو أن "فروم" عاش حتى عشرينيات القرن الحادي والعشرين؟ حيث أدت العوامل الاقتصادية إلى شعور الفرد بالتشيؤ، هذا الشعور الذي يجعل الإنسان يرى نفسه كأنه سلعة قابلة للتبادل التجاري، وهذا الأمر أثر بالفرد، وجعل شخصيته مسلوبة، ومعزولة عن إخوانه من أفراد جنسه، كما يشعر بالعجز والإحباط والانسحاب وعدم الأمن، بذلك لقد ازداد القلق أكثر، ازداد الشعور باللا جدوى، لقد دخل الإنسان عصر الاكتئاب والآلة، ويبدو أن الجيل الذي ينشأ حالياً خلف الشاشات المتنوعة، شاشات التلفاز والحواسيب والموبايلات ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تزداد يومياً بعد يوم قد ينقض تماماً الفكرة الأزلية بأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، لأن العلاقات الاجتماعية أصبحت شبه مفقودة لدى أبناء هذا الجيل في وقتنا المعاصر.
ومن انعكاسات التطور التقني أنه يؤثر سلباً في نفسية الإنسان وسلوكه، وكنتيجة مباشرة لهذا التقدم غدا الإنسان متلقياً سلبياً وكسولاً، وقد رافقه الشعور بالقلق، لأنه لا يرى معناً حقيقياً لحياته، فهو يضجر ويتغلب على ضجره بمزيد من التغيير المستمر للاستهلاك، ومحفزات الإثارة عديمة المعنى، وهذا ما يجعل تفكيره منفصلاً عن العواطف كما تنفصل الحقيقة عن الانفعال، والعقل عن القلب، فلا تستميله الأفكار لأنه غدا مفكراً بلغة الحسابات والاحتمالات، أكثر من تفكيره بالقناعات والالتزامات، وبسبب التكنولوجيا الحديثة فإنه يجري الآن تغيير كل نماذج الإنتاج والاستهلاك السابقة، ويجري أيضاً استبدال الإنسان المستقل بالإنسان الذي يتخذ قراراته بنفسه. ويرى فروم أن الأزمات التي تضاعفت أكثر في البلدان المتقدمة التي كانت قد وصلت بالمفاهيم الإنسانية إلى مراتب عليا تنحدر الآن، وكأن القرن السابق هو الزمن الأخير الذي كان يشهد الصعود الإنساني إلى أعلى مراتبه.
ويعتقد فروم أن الإنسان المعاصر ينحدر من ذلك الجبل نحو الهاوية مرة أخرى، نحو الأماكن السحيقة ونحو المنحنى الساقط، ولا نعرف من خلال تتبع التاريخ الإنساني كم مرة انحدر الإنسان أو مات تماماً على المستوى القيمي والإنساني، لكن في هذا العصر وهو على خلاف كل العصور السابقة نستطيع القول: إن الإنسان قد تحول إلى آلة ولا قيمة منفردة له دون النظر إلى حياته الصناعية أو الاستهلاكية. لقد كان هذا الإنسان هو نتاج صناعة الرأسمالية وغياب مفاهيم الإنسان التي تم التأسيس لها منذ أكثر من أربعة قرون، لكنه الآن يتهاوى ويفقد أهم خصائصه ليكون شبيهاً للآلة.
من المعروف أن الزيادة في الشيء خير، لكنها أصبحت في مجتمعنا المعاصر شراً إلى درجة أصبح السؤال يطرح وبإلحاح قصد المعالجة: هل تقود الوفرة والرفاهية الزائدة والفيضان عن الحد إلى سعادة المرء، أم هي سبيل نحو القرف والملل والخمول؟
يذهب فروم، وهو الممثل للجانب النقدي للحضارة المعاصرة في شقها النفسي أن الإنسان المعاصر أصبح مستهلكاً على الدوام وفوق حاجاته الأساسية، مما سبب له متاعب نفسية مقلقة. ويضرب لذلك مثلاً طريفاً هو: عندما تراقب شخصاً يأكل ويلفت انتباهك، ويتأكد لك أنه يأكل كثيراً، إلى درجة أنه يتناول الطعام من هنا وهناك، وكيفما اتفق، وكلما سنحت له الفرصة، ويلتهم الحلويات بخاصة وباستمرار، فإن هذه الشراهة والاستهلاك المفرط لا يكونا من أجل تحقيق الإشباع الفسيولوجي وضمان البقاء، بل هما من أجل طرد الخواء والإحساس بأننا من دون قيمة.
إن الشراهة هي محاولة للتحرر من الضيق الداخلي. فالمرء الذي يعاني الملل، يحس وكأنه فارغ لا قيمة له، وكأن شيئاً ينقصه كي ينشطه، فيستجيب لأكل الطعام، وكأنه يقول في نفسه: إنني شخص أمتلك شيئاً، إنني لست لا شيء. ويعمل على المزيد من ضخ الطعام لطرد الخواء. باختصار، الفراغ مفزع، والأكل المبالغ فيه ما هو إلا محاولة بائسة لطرد هذا الفراغ. بعبارة أخرى، الاستهلاك الكبير هو إعلان أن الإنسان فاقد لقيمته.
خلاصة القول، إن الإنسان لا يبحث عن شيء في الحياة إلا عن نفسه، أي إثبات ذاته ككائن مطلق. لأنه باختصار، كائن يتجاوز المادية، ومحركاته لا يمكن أن تكون فقط فسيولوجية أو نفسية أو اجتماعية، فهناك عوامل أخرى كامنة، تشكل الحافز الأساسي المحرك للإنسان، فإثبات الذات لا يكمن في امتلاك شيء أو آخر لأنها ليست هي الهدف، فتملك ما يحلو لك، فلن تهدأ ولن ترتاح. فخلاص الإنسانية وخلقها للمعنى لا يكمن في الاستهلاك أبداً. فالإنسان لن يكون إنساناً إذا ما لم يتم السماح لمواهبه الذاتية بالتفتح عن طريق الحرية والنشاط العفوي والحب. فقد قطع الإنسان نصف الشوط في حضارته واستطاع أن يتحرر من عبودية الخارج ولم يبق إلا أن يتحرر من عبوديته الداخلية الذاتية ليصبح متحررا في ذاته لا في سياقات مفروضة عليه.
5- القلق الإيجابي يولّد الإبداع:
قد يبدو الحديث عن توظيف مشاعر القلق والتوتر المرهقة بطريقة إيجابية غير منطقي، إلا أن علماء النفس يؤكدون أنه يمكن تحويل تلك المشاعر السيئة إلى طاقة إيجابية. يفكر الإنسان بطبيعته في كل خطوة يقوم بها وهذا أمر عادي لمواجهة تحديات الحياة وما تحتاجه من قرارات ومواقف مناسبة، لكن إذا بالغ الإنسان في التفكير يدخل في متاهة تسمى التفكير المفرط أو فرط التفكير. وفق دراسات عديدة، يعتبر القلق الإيجابي من أهم المفاهيم التي تقود حياة الإنسان نحو الإبداع والتميّز، ويمكن أن يساهم هذا النوع من الإجهاد الإيجابي في مشاعر التفاؤل والإثارة حول الحياة.
وقد أثبتت الدراسات أن القلق الإيجابي يرتبط لدى فئات مهنية واسعة عادة بمشاعر الإثارة والتحدي بدلاً من القلق أو الخوف. وتقول الدراسات السيكولوجية إن الأشخاص الذين تنتابهم حالات القلق يشعرون ببعض الراحة والطمأنينة، فتجاوز الشعور بالقلق يفتح أمامهم سلوكيات تتسم بالإيجابية والعقلانية في التعاطي مع متغيرات الحياة اليومية. فالقلق الإيجابي هو قلق فكري يخلق التجديد في الحياة ويقود الأفراد نحو الابتكار والإبداع.
تلعب نظرة الفرد وشخصيته دوراً أساسياً في تحديد نوع القلق أم إيجابي أو سلبي، حيث يختلف ذلك وفقاً لنظرة الفرد لطبيعة المشكلة التي يواجهها والمهمة الموكلة إليه وطبيعة قدراته وشخصيته ومستواه التعليمي، كما أن الفكرة والعاطفة والشعور تجاه أمر ما تنتج هذا السلوك. فالفكرة قد تسيطر على الفرد وتؤثر على سلوكه وأدائه بشكل سلبي وهنا يكون القلق سلبياً. لذا يجب النظر إلى الأمور بطبيعتها دون تضخيم، وتحديد المهام الموكلة إلينا ومعرفة قدراتنا التي يمكن أن ننميها، فمع التدريب والهدوء يمكن أن ننظر إلى الأمور بشكل أفضل.
- الخاتمة:
إذا كان لا يمكن دائماً منع اضطرابات القلق، فإن تعليم الناس أن يتبينوا الخطر الحقيقي من المخاوف أساس في الوقاية والعلاج. إلى ذلك، أثبتت الدراسات أن النوم المنتظم، والتنفيس عن المشاعر السلبية، وممارسة الرياضة المنتظمة، واستخدام أسلوب الاسترخاء مثل التأمل، والابتعاد عن المشروبات التي تحتوي على منبهات والتدخين، وتجنب استخدام العقاقير دون إشراف طبي، والتي يمكنها كلها أن تجعل نوبات القلق أكثر سوءاً.
هذا وينصح بتناول وجبات الطعام بانتظام، حيث يساعد هذا على ثبات مستويات السكر في الدم، وبالتالي يمنع تقلّبات المزاج، إلى جانب الإكثار من تناول مشتقات الألبان القليلة الدسم، إذ تحتوي على كميات من الكالسيوم والمغنسيوم، مما يساعد على تهدئة الأعصاب. ويعتبر اللوز وبذور السمسم من الأغذية الغنية بالمغنسيوم. وعلى الصعيد الاجتماعي يساعد نظام الدعم الاجتماعي من خلال اختيار أصدقاء أو أفراد من الأسرة يمكنهم الاستماع للشخص والعكس صحيح. ويمكن أن يكون التفاعل مع أشخاص يتمتعون بروح الدعابة قراراً صائباً.
وهكذا نجد أن الإنسان يتكون من عنصرين أساسيين، الأول: العنصر المادي، المتمثل في جسم الإنسان وأعضائه، والثاني: العنصر الروحي. وهما عنصران هامان، لا تستقيم حياة المرء إلا بصلاحهما، ولكل من هذين العنصرين غذاؤه ودواؤه الذي يصلحه ويحفظ له توازنه، فإذا فقد هذا الغذاء والدواء حدث خلل في تكوين الإنسان، فيشقى في هذه الحياة، إما شقاءً مادياً، يتمثل في الأمراض والعاهات والآفات التي تصيب جسمه، أو شقاءً معنوياً، يتمثل في القلق والضيق وفقدان السعادة الحقيقية.
إن سعادة الإنسان لا تكمن في حصوله على الدنيا وملذاتها، وإنما تكمن في إيمانه بالله تعالى، وحينئذ ينشرح صدره، ويقول الله تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: 125). كما أن من أهم أسباب الرضا والسعادة: الإيمان بقضاء الله وقدره، بحيث يعلم المرء أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وليس منه بد، وما أخطأه لم يكن ليصيبه مهما حاول أن يجلبه إليه، فكل شيء بقدر الله سبحانه وتعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49).
كما أن المعاصي تورث الوحشة، فإن التقوى والعمل الصالح يورثان السكينة والطمأنينة، فمن اتقى الله عز وجل فإنه لا يخذله أبداً، كما أن التقوى تبعد وساوس الشيطان عن الإنسان، وتبصره بالحق، وفي هذا الصدد يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201). فالسير على منهج الله تعالى سبب من أهم أسباب السعادة، وقد تكفل سبحانه وتعالى بعدم الخوف والحزن للمتبعين لهدى الله سبحانه، قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38).