سيكولوجية المُراهنة.. كيف يفسر العلم هوسنا بلعبة الفانتازي؟

وكالات

2021-11-14 07:33

بقلم: لؤي فوزي/ الجزيرة نت

"هو يتظاهر بإدارة فريق غير حقيقي مُكوَّن من لاعبين حقيقيين يلعبون لفِرَق أخرى حقيقية، ينافس به فِرَقا أخرى غير حقيقية يتظاهر بإدارتها مشجعون قد يكونون مهتمين بتشجيع فِرَقهم الأصلية أو لا، ولكنهم، في جميع الأحوال، لا يزالون مهتمين بفِرَقهم الخيالية. هل أتقنت الوصف؟".

(مالاكي كلركن، محرر التايمز الأيرلندية يصف لاعبي الفانتازي) (1)

منذ عام واحد تقريبا، قرَّر الكاتب الرياضي الأيرلندي مالاكي كلركن أن يكتب رأيه بصراحة في لعبة الفانتازي، وتحديدا فانتازي البريميرليغ، وفي مقال نشرته التايمز الأيرلندية، انطلق الرجل في وصلة جلد عنيفة وقاسية لمدمني هذه اللعبة.

طبقا لكلركن، الذي يبدو في العقد الرابع أو الخامس من عمره، فلعبة الفانتازي هي أغبى لعبة اخترعها البشر على الإطلاق لأسباب عديدة؛ فبغض النظر عن قدرتها العجيبة على التلاعب بانتمائك، وإفساد متعة المشاهدة عليك، وحقيقة أنها لا تُضيف إليك أي معرفة كروية فعلية، فهي أيضا تُنتج قدرا هائلا من المعلومات والإحصائيات والتحليلات يستحيل أن يستوعبها عقل بشري، وبالتالي تبتلع مساحة ضخمة من وقتك في محاولة الركض خلف السراب.

كلركن يُشبِّهها بلعبة "PacMan" الشهيرة، وكأنها تتغذى على كل وقتك المخصَّص للترفيه والراحة بلا هوادة، وبلا شبع. هذا يقودنا للسبب الأخير الذي يذكره الرجل؛ الإحساس بالخجل، وربما العار، كلما سألك أحدهم عما تفعله، ثم ارتسمت على وجهه علامات الاستغراب والشفقة بعد أن أجبته.

ما يجعل مقال كلركن مهما للغاية ليس انتقاده المتطرف لمدمني الفانتازي، ولكن حقيقة أنه واحد منهم كما يعترف في نهايته، وهي المفارقة التي تُحيِّر الكثيرين من علماء طب النفس والاجتماع؛ أن الهوس باللعبة ليس مقترنا دائما بالإعجاب بها، بل في كثير من الأحيان يتحوَّل إلى حالة إدمان واعية، تكره اللعبة وتُعدِّد الأسباب لذلك، ولكنها لا تستطيع التوقف عن ممارستها في الوقت ذاته.

أعي.. لا أعي

المثير هنا في حالة كلركن وغيره أن هذه الحالة من النقد الواعي تتناقض بشدة مع جوهر اللعبة ذاته، الذي يقوم بالأساس على مجموعة من الانحيازات العاطفية غير الواعية، فعقولنا لا تفكر بمنطقية طوال الوقت كما نتخيل، بل غالبا ما تتخذ طرقا مختصرة نتجاوز فيها المنطق السليم لنتمكَّن من اتخاذ قرارات تُشعرنا بالراحة النفسية أو السعادة، ونحن نفعل ذلك دون وعي.

طبقا لخبراء موقع "Fantasy Football Scout" الشهير، هناك 10 انحيازات معرفية (Cognitive Biases) على الأقل تتحكَّم في قراراتنا أثناء لعب الفانتازي، وأغلبها يضمن حتمية الفشل في الوصول إلى تشكيلة فائزة، ويمكن اختصار أبرز هذه الانحيازات في التالي: (2)

أولا: الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias):

أبو الانحيازات المعرفية ومنبع أغلبها، وهو ما يفعله عقلك عندما يتجاهل المعلومات التي تناقض رأيا كوَّنته سابقا.

ثانيا: الاستدلال بالندرة (The Scarcity Heuristic):

باختصار، هو الربط غير المنطقي بين ندرة الشيء وقيمته، أي الافتراض بأن سعر اللاعب المرتفع، وبالتالي صعوبة ضمِّه لتشكيلتك، دليل على قيمته العالية، وهو ما يتجاهل حقيقة أن أسعار اللاعبين ترتفع أو تنخفض بأثر رجعي بناء على أداء الموسم الماضي، لا الحالي.

ثالثا: مغالطة المُراهن (The Gambler’s Fallacy):

قد تكون أشهر مغالطة يرتكبها لاعبو الفانتازي على الإطلاق، وهي تعني الافتراض بأن الوضع سينقلب حتما إذا قدَّم اللاعب أداء أفضل أو أسوأ من المتوقَّع، وهي مرتبطة بالمراهنات لأنها المغالطة التي يقوم بها كثير من المراهنين عندما يخسرون أموالهم في البدايات، فيستمرون في المراهنة معتقدين أن الخسارة لا يمكن أن تستمر.

رابعا: تأثير الجموع (The Bandwagon Effect):

الأبسط والأكثر انتشارا، أي تحديد قيمة الرأي بناء على عدد معتنقيه.

خامسا: الانحياز للحديث (Recency Bias):

المبالغة في قيمة المعلومات الحديثة الطازجة لا لشيء إلا كونها حديثة، وهو ما يحدث عندما تختار لاعبا أحرز ثلاثية في الأسبوع الماضي، بافتراض أنه سُيكرِّر الأمر في الأسبوع القادم.

دوبامين

هذه الانحيازات تؤثر بالسلب على أغلب لاعبي الفانتازي أغلب الوقت، والسؤال الذي يُحيِّر الجميع لا يزال كما هو؛ إذا كان بإمكاننا التحلي بهذه الدرجة من التجرد والوعي أثناء تقييم آثار اللعبة علينا، كما فعل كلركن، فلماذا إذن لا يمكننا التحلي بالتجرد ذاته أثناء ممارستها فعليا؟ لماذا نخضع لهذه الانحيازات التي تتسبَّب في خسارة تشكيلتنا أو عدم تحقيقها العدد المطلوب من النقاط؟ السؤال يكتسب أهمية مضافة عندما تعلم أن الأمر ذاته ينطبق على اللاعبين الذين يدفعون المال لقاء المعلومات الإضافية، أو الإحصائيات المتعمقة، مثل لاعبي فانتازي دوري كرة القدم الأميركية الذين تقول "The Insider" إن 70% منهم يخسرون المال شهريا، بينما يستأثر 1.3% منهم فقط بما يتجاوز 90% من المكاسب. (3)

كل هذا دفع العلماء لمحاولة الإجابة عن السؤال، ففي دراسة صدرت عام 2007 عن مجلة الاتصال بواسطة الحاسوب (Journal of Computer-Mediated Communication)، لخَّص لي ك. فاركوهار وروبرت ميدز أنواع مستخدمي ألعاب الفانتازي طبقا لدوافعهم، وكان النوع الأكثر انتشارا هو ذلك الذي يمارس اللعبة للمرح فقط لا غير، ولا يهتم كثيرا بما يصاحبها من تحليلات وإحصائيات، إذ تتلخَّص أهدافه في التفاخر المعتاد بعد الفوز -إن حدث- واستخدامه في الترويج لنفسه خلال المناقشات اليومية العابرة. (4)

المشكلة هنا، كما تعلم، أن احتمالات تحقُّق هذا الفوز نادرة للغاية، ورغم ذلك يستمر الهوس باللعبة في التزايد حتى بين هؤلاء الذين لا يتابعون الرياضة الفعلية أو يشاهدون مبارياتها، وهو ما يُفسِّره علماء الأعصاب وطب النفس بجرعة الدوبامين -هرمون المتعة أو النشوة- التي نحصل عليها عندما نشعر بأننا على وشك تحقيق مكسب ما، وأحيانا حتى عندما نخسر بفارق بسيط. (5)

رهان آمن

عموما، تُعَدُّ المراهنة -بالوقت أو المال- نشاطا قائما على المخاطرة، وهذا يجعلها مصدرا من مصادر المتعة، حيث إنها تُحفِّز ما يسميه علماء الأعصاب "دائرة المكافأة" (Reward Circuit) في المخ، إذ إننا نعتقد أن كل مخاطرة تتضمَّن احتمالا للمكسب بطريقة ما، وهذا هو ما يُسبِّب إفراز الدوبامين، ولكن كيف نشعر بأننا على وشك تحقيق المكسب إذا كانت احتمالات الفوز شبه منعدمة منطقيا؟ (5)

في الواقع، المفاجأة تكمن في أنه لا تناقض هنا؛ لأن هذا الشعور بالمكسب الوشيك ناتج عن احتمالات الفوز المنعدمة أصلا! هذا ما يوضِّحه بحث مهم نشرته جامعة كامبريدج في 2007 أيضا، إذ يُعتقد أن فرصة الفوز الضئيلة تدفع الناس إلى ما يمكن اعتباره "مراهنة آمنة"؛ أي المخاطرة بقيمة هم مستعدون لخسارتها بالفعل، سواء كانت مبلغا من المال أو مساحة من الوقت، وبمجرد اتخاذ القرار فإننا نكون مؤهلين نفسيا للتغاضي عن الخسارة ما دام هناك احتمال، ولو كان ضئيلا، لحدوث العكس. (6)

هذه هي المعادلة التي تجعل الأمر منطقيا في أدمغتنا؛ التضحية بما يمكننا خسارته مقابل احتمال بسيط في الحصول على قيمة أكبر من وجهة نظرنا، بل إن دراسة أخرى نُشرت في المكتبة الوطنية الأميركية للطب (US National Library of Medicine) عام 2009 تقول إن تجنُّب الخسارات بفارق بسيط "Near-Misses"، أو مجرد الاقتراب من المكسب بالفارق نفسه يحفزان الشعور ذاته بالمتعة والسعادة، بل ويدفعاننا للتجربة مرة أخرى، وهو ما يندرج أيضا تحت مغالطة المراهن (Gambler’s Fallacy) السالف ذكرها، إذ إن الاقتراب من التشكيلة الفائزة في هذه الجولة هو ما يجعلنا نفترض أننا مرشحون للفوز في الجولة القادمة. (7)

هذا هو ما يجعل الأمر كله أشبه بمخاطرة مجانية تمنحنا جرعة من الدوبامين بلا مقابل، وهذا هو ما يجعل ألعاب الفانتازي مثيرة للغاية بالنسبة للكثيرين منّا، فاحتمالية الفوز الضئيلة القائمة طوال الوقت، التي لا يدفع الناس مقابلا لها سوى أوقات فراغهم، أو أوقات عملهم الرسمية في بعض الحالات، هي مصدر دائم للإثارة والحماس، نتخيل أنه مجاني.

حرق أعصاب

وفي حين أن الأبحاث والدراسات تولي اهتماما أكبر بهؤلاء الذين ينفقون أموالهم للفوز في الفانتازي بطبيعة الحال، لسبب بسيط هو أن الخسارة في هذه الحالة محسوسة ومادية، فإن الدكتور روبرت لوستيغ من جامعة كاليفورنيا يعتقد أن إفرازات الدوبامين المتتالية لا تقل خطورة بدورها، ففي كتابه "اختراق العقل الأميركي" (The Hacking of the American Mind)، يوضِّح لوستيغ أن إدمان هذه الجرعات الصغيرة من الدوبامين يؤدي إلى حرق الأعصاب، بالمعنى المجازي والحرفي أيضا. (8)

نظرية الرجل بسيطة للغاية؛ الدوبامين يثير الأعصاب، وعندما تُثار الأعصاب باستمرار في وقت قصير -كما هو متوقَّع مع لعبة تحمل نتائج أسبوعية- فإنها تموت تدريجيا، وحينها يبدأ الجسم في استخدام آلية دفاعية لتحجيم أثر كل جرعة جديدة من الدوبامين، فيُقلِّل عدد المستقبلات العصبية التي تصل إليها لتجنُّب أكبر ضرر ممكن، وبالتالي نحتاج إلى جرعة أكبر من الدوبامين في كل مرة لكي نحصل على التأثير السابق ذاته، أي باختصار؛ ما يعرفه الطب بالإدمان. (9)

لوستيغ يعتقد أن هذا هو الفارق الجوهري بين عاطفتين كثيرا ما يخلط بينهما الناس؛ المتعة والسعادة، فالأولى مادية، وتنتج عن إفراز الدوبامين، ويمكننا الشعور بها فرديا والإكثار منها يؤدي إلى الإدمان. أما الثانية فمعنوية، وتنتج عن إفراز السيروتونين، ولا تُختبر إلا في جماعات، والإكثار منها ليس له أضرار طبية.

المفاجأة هنا أن الفانتازي ليست لعبة شريرة بحد ذاتها، بالطبع هي تساعد على تنشيط هذا النوع من الإدمان لدينا بشكل غير واعٍ وتدريجي، ولكنها من الممكن أن تكون وسيلة للتواصل الاجتماعي مع الأهل والأصدقاء كذلك، ففي استطلاع أجرته كلية سان جون فيشر في نيويورك بين طلابها، قال 83% من المصوتين إن السبب الأول لممارستهم للعبة هو الرغبة في التواصل مع المقربين والمجتمع المحيط، ولكن تظل نتائج الاستطلاع مقلقة على أية حال، إذ ذكر عدد كبير نسبيا من المصوتين أسبابا أخرى مثل الرغبة في كسب المال أو الهروب من الواقع. (10)

أغلب الناس يستطيعون التحكُّم في اندفاعاتهم حينما يتعلق الأمر بالمال. بعض الدراسات تقول إن نسبة هؤلاء الذين يراهنون بشكل مَرَضي قادر على تدمير حياتهم لا يتجاوزون 0.2-0.5%، ولكن ربما هذا هو ما يجعل لعبة مثل الفانتازي شديدة الجاذبية؛ أنها تمنحنا إدمانا من نوع آخر.(11)

"إنها لعبة غبية، شديدة الغباء، تشعرني بأنني غبي وتافه لدرجة لا يمكن للعبة الأصلية أن تشعرني بها أبدا، لدرجة لا يمكن لأي شيء في الكون أن يشعرني بها أبدا.

ومع ذلك لا أُطيق الانتظار حتى يبدأ الموسم الجديد".

(مالاكي كلركن، محرر التايمز الأيرلندية) (1)

https://www.aljazeera.net

...............................
المصادر:
1- فانتازي كرة القدم؛ هوس بسيط وغبي للكثيرين – The Irish Times
2- سيكولوجية فانتازي كرة القدم – Fantasy Football Scout
3- نظام القروش والأسماك الصغيرة يسيطر على لعبة الفانتازي ويسحق فرص أغلب اللاعبين في الفوز – The Insider
4- دراسة: أنواع مستخدمي ألعاب الفانتازي ودوافعهم – Journal of Computer-Mediated Communication
5- لماذا نراهن على ألعاب الفانتازي رغم أن الاحتمالات تقف ضدنا؟ – The Insider
6- سيكولوجية المراهنة – University of Cambridge
7- دراسة: الاقتراب من الفوز والخسارة بفارق بسيط تحفز المزيد من المراهنة – US National Library of Medicine
8- كتاب "اختراق العقل الأميركي" لدكتور روبرت لوستيغ – Amazon
9- الفارق بين المتعة والسعادة لدكتور روبرت لوستيغ – Slobex
10- استطلاع طلاب جامعة سان جون فيشر؛ السر لجاذبية ألعاب الفانتازي – St. John Fisher College
11- دراسة: مراجعة نوعين من الإدمان؛ المراهنة المرضية وتعاطي المخدرات – US National Library of Medicine

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي