علم العلامات (السيميوطيقيا)
د. حمزة هاتف عبد الجبوري
2021-02-28 08:25
(وَعَــــلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)
سورة النحل: ١٦.
في البدء كانت العلامة، والعلامة بوصفها مصطلحا أوسع وأشمل من الكلمة فهي تحتويها وتتجاوزها فالكلمة في ذاتها نوع لفظي في العلامات تنطلق دلالتها من قيمة اللفظ في ثقافه ما، فالصوت في حد ذاته لا يعني وإنما يتشكل المعنى عبر القيمة الدلالية المرتبطة بالكلمة، وهذه الرابطة تستمد شرعيتها من لغة ما فالكلمة (لا) تدل على الرفض في لغة العرب ولا تدل على شيء في اللغة الإنكليزية، كما أنها تمثل أداة التعريف للمفرد المؤنث في اللغة الفرنسية، فالدلالة مرتبطة أصلا بالقيمة التي تضيفها عليها لغة ما أو ثقافة ما.
ولنأخذ مثلا أخر: يشكل لبس الأسود علامة الحداد في بعض البلدان وفي أقاليم أخرى يلبس أهلها ملابس بيضاء في العزاء فالأسود والأبيض علامتا حداد في ثقافات متباينة تكتسبان دلالتيهما من السياق الثقافي إلا أن اختلاف لون الحداد لا يغير من كون اللون (اسود أو ابيض) مقوما تعبيريا يستخدم لتوصيل رسالة معينة الى متلق، ودلالته لن تخفى على أفراد الجماعة التي تستخدمه، ويمكننا أن نستدعي أمثلة لا حصر لها في استخدام الألوان لغرض التوصيل كالأزرق للطفل والوردي للطفلة والأصفر للغيرة والأخضر للتجدد، وكما تستخدم الجماعة الألوان علامة دالة في معاملاتها اليومية أو الطقوسية، ويتفق الرسامون والشعراء في توظيفها لأغراض تعبيرية وإيحائية، وهكذا يصبح اللون بشكل واع أو غير واع، موصلا لرسالة أو حالة أو موقف.
وما يصح على اللون يصح على المحسوسات الأخرى، فالحرير يختلف عن القطن كما يختلف الجلد عن البلاستيك إلا أن الفرق، ليس في الملمس فقط بل في المجال الدلالي والإيحائي كذلك وهذا ما يستبطنه تجار العطور حينما يترجمون رسالة العطر في دعاياتهم الى عبارات جذابة مضمونها الأنوثة الناعمة أو الشبق الجامح أو الحداثة المتحررة أو الأرستقراطية..... الخ بل أن ما يصح عن المحسوسات باعتبارها عناصر دالة تقوم بالتوصيل يصبح أيضا على الأشكال والتكوينات التي نعايشها.
فمن منا لا يشعر بالفارق النفسي عند جلوسه في قاعة عرض تقليدية تفصل بين الجمهور وخشبة المسرح بستارة، وكلنا ندرك أن المنضدة المستديرة في الندوات والاجتماعات تعني التساوي بين الأطراف المشاركة، كما لا يغيب على المتفرج على الآثار الفرعونية حينما يرى فرعونا عملاقا وبجانبه زوجته التي لا تكاد تصل الى ركبته مدلول تشويه النسبة بين الرجل والمرأة أو الحاكم والرعية.
ودلالات التكوينات كدلالات الألوان والكلمات ترتبط بثقافة ما، فتصغير حجم فرد ما في الرسم يدل على هبوط منزلته الاجتماعية أو قد يدل على بعدة من منظور الرسم وهكذا نجد أن المنضدة المستديرة التقليدية التي يأكل عليها أفراد العائلة الواحدة في أنحاء الوطن العربي لا تحمل بالرغم من استدارتها دلالات الطاولة المستديرة في المفاوضات الدبلوماسية في العالم.
ولكن العلامة وان كنا نجدها بصورة عامة مرتبطة بالثقافة فهي لا تعتمد عليها. فهناك علامات ترتبط بالطبيعة وبالغريزة وتستقل استقلالا تاما عن الثقافة، فعدما تهاجر الطيور في موسم البرد طلبا للدفء فهي تستجيب لعلامات طبيعية في الطقس فهذه علامات ترتبط بالفصيلة الحيوانية (معينة) ومؤهلة لتقبلها والاستجابة لها كذلك النحل عندما يوجه بعضه بعض في رقصات إشارية الى رحيق الزهور ومواطن الغذاء، فحركات النحل الإيقاعية لا تتشكل عبر مواضعه وسيلة اتفاق وإنما تورث وتتنقل في شفرة الجينات.
وهناك علامات لا هي ثقافية ولا طبيعية صرفة وإنما تجمع وتتأرجح بين الاثنين فمثلا احمرار الوجه قد يدل على الخجل إذ أن تصاعد الدم عملية فسيولوجية طبيعية عندما يكون الإنسان محرجا إلا أن ربط هذه الظاهرة البدنية بالحياء ليس إلا التفسير الثقافي لظاهرة طبيعية ويمكننا أن نفترض أيضا قد يكون احمرار الوجه دليلا على الغضب وأيضا تجشؤ الضيف بعد الأكل يستحسن في بعض الثقافات يعده دلالة على التذوق ويستهجن في ثقافات أخرى حيث يدل على قلت الذوق.
وهكذا نرى أن الكلمة هي جزء من حقل اعم واشمل وهي العلامة، صحيح أن الكلمة مركز محوري في هذا الحقل إلا أن العلامة لا تقتصر على الكلمة بل تتعداها واحيانا تستخدم الكلمة استخداما مجازيا فيتوسع قائلها في مدارها الدلالي قاصدا منها العلامة كما يستخدم الشراع للدلالة على السفينة فعندما يقال (تكلمت الأطلال) فنحن نعلم أن الأطلال لا تتكلم ولكن القائل يقصد أن الأطلال (الديار) عبرت، وهي تعبر لا ناطقة بالحرف ولا مشيرة باليد وإنما وجودها في حد ذاته معبر عن مرور الأيام وتواليها وأثرها.
وان اردنا أن نضرب امثلة عن الأحلام وتفسيرها من قبل ابن سيرين و فرويد في إطارها: هي علامات تشكل (كلاما) لها معجمها الخاص وبواسطتها يمكن تأويلها وشرحها. ولكن الأحلام لا تشكل كلاما بالمعنى المفهوم للكلمة لان الأحلام لا تشكل من كلمات منطوقة أو مكتوبة بل من علامات وصور ويمكننا أن نقول أنها علامات تنتمي الى لغة ولكنها ليست لغة شفوية أو تحريريه وإنما لغة علامات سيمونطقية.
وقد تنفق أو نختلف مع طريقة ابن سيرين أو فرويد في تفسيرهما للأحلام ولكن لابد أن نشير أنها تندرج تحت علم العلامات، كما تندرج الدراسات اللغوية والألسنية تحت السيميوطيقيا وهذا بالرغم من أن منطلق ابن سيرين وفرويد علماء اللغة غير نابع من موقف سيميوطيقي أي من وعي يكون بحثهم مرتبطا بعلم العلامات.
ومما لا شك فيه أن الإنسان يشكل مع محيطه نسيجا متشابكا من العلاقات وهذه العلاقات مبنية على أنظمة من العلامات فنحن نتفاعل مع الآخرين والعالم عبر علامات يخيفنا البرق والرعد فنختفي في الكهوف تحزننا الأطلال فنتوقف عندها باكين يقهرنا العدو فنثور فالبرق والرعد علامتا غضب الطبيعة عند الإنسان البدائي.
والأطلال علامة ضيم الأيام عند البدوي كما أن طائرات العدو المدمرة علامة للفتك به، وهكذا ندرس التاريخ لا على أساس انه سجل بما حصل من أرشيف أحداث وإنما من منطلق سيميوطيقي باعتباره مجموعة من العلامات الدالة والعلامات النفسية أي له نظامه وقواعده، وهذا فعلة مفكرون مثل ابن خلدون وفيكو وماركس لقد تجاوزوا في دراستهم للتاريخ الجمع التراكمي للأحداث وتوصلوا الى التأمل والفحص في دلالة الأحداث ونظمها أي أن الحدث بالنسبة لهم كان علامة في نظام من العلامات حاولوا أن يستقرؤه ويصفوه وحتى عندما نختلف معهم لفشلهم في ادراك حدث معين أو تقصيرهم، ولا يمكننا أن ننكر أن ما قدموه هو محاولات جادة في التعامل مع التاريخ باعتباره حقلا من العلامات.
كما أن البيارق والأزياء والألقاب والبديع من الممكن النظر إليها من منطلق سيميوطيقي وبهذا تسهم هذه الدراسات في توحيد التعامل مع مختلف الجوانب الإنسانية، كما أن دراسة علاقات العلامات والقواعد التي تربطها والذي يمكن أن ندرج تحت هذا الباب علم الجبر والمنطق والنحو والعروض.
وهكذا نرى كيف أن استخدام الرؤية السيميوطبقية توحد بين الحقول المختلفة للعلوم ويحارب تفتتها والانشطـــــــــــار القائم بين التصنيف المبني على الملاحظة الامبريقية من جهة وبين التنظير المبني علــــــى الملاحظة الذهنية من جهة أخرى. فهي محاوله لربط الحقول.
- تعريف العلامة:
كيف يمكن أن نعرف العلامة؟ هل هي وحدة ثنائية المبنى أم وحدة ثلاثية هل العلامة كيان مستقل أم أنها وسيط؟
يعد سوسير أن العلامة وحدة ثنائية المبنى تتكون من وجهين لا يشبهان وجهي الورقة ولا يمكن فصل احدهما عن الأخر، الأول هو الدال وهو عند سوسير حقيقة نفسية أو صورة سمعية تحدثها في دماغ المستمع سلسلة الأصوات التي تلتقطها أذنه وتستدعي الى ذهن المستمع صورة ذهنية أو مفهوم هو المدلول، ولذلك يمكن أن نستنتج من هذا التعريف أن العلامة عند سوسير هي نتاج عملية نفسية غير أن الشائع لمصطلح سوسير يعرف الدال على انه سلسلة الأصوات نفسها لا الصورة الصوتية التي تحدثها في دماغ المستمع وعلى هذا يصبح الدال في هذا السياق الجديد حقيقة مادية لا نفسية، ولذلك نجد أن بعض من انتقده من خلال إصراره على حصر تعريفه للعلامة داخل العمليات النفسية التي تتم في ذهن المستمع أو المتكلم أما المدلول فهو الصورة الذهنية التي تستدعيها سلسلة الأصوات في ذهن المستمع، وتنشأ دلالات العلامة من عملية الربط بين الدال والمدلول (سوء نظرنا الى الدال على انه حقيقة مادية أو حقيقة نفسية) فاذا التقطت الأذان سلسلة من الأصوات لا تثير في الذهن أي مفهوم فلا يتم توليد دلالة ما ولا يمكن اعتبار سلسلة الأصوات، هذه جزءا من علامه فتظل مجرد ضوضاء.
أن المدلول بالنسبة لسوسير هو المعنى العام المجرد وقد ننظر الى هو المعنى العام من منطلقين: -
- المنطلق الأول: هو منطلق شموله أو ما يصدق علية هذا المعنى من حيث انه يدل على مجموعة أفراد الجنس.
- والمنطلق الثاني هو تضمنه لمجموعة الصفات المشتركة بين جميع أفراد الجنس، ومثال ذلك أن المعنى المجرد لكلمة (شجرة) مثلا يصدق على مجموع غير معين من الأشجار يندرج تحته مجموعة الصفات المشتركة بين جميع الأشجار.
وخلاصة القول في تعريف الدال والمدلول عند سوسير انهما حقيقتان نفسيتان الأولى أي (الدال) هو الصورة الشخصية التي تولدها في الذهن الأصوات التي يسمعها المتلقي والثاني أي (المدلول) هو التصور الذهني الذي تشيره الصورة السمعية في ذهن المستمع وهذا التصور الذهني يجمع بين شمول المعنى المجرد (أي الدلالة على جميع أفراد الجنس) وبين المفهوم (أي الدلالة على الصفات المشتركة بين أفراد الجنس).