تظاهرات الشباب والعقد النفسية في العقل السياسي العراقي
الحلقة الثالثة
أ. د. قاسم حسين صالح
2019-10-24 07:52
تحدثنا في الحلقتين السابقتين عن ما امتازت به تظاهرات الفاتح من تشرين اول/اكتوبر2019، وثقافة التظاهر وسلوك الاحتجاج. في هذه الحلقة نحلل عقل وشخصية من كان السبب..أعني الحاكم العراقي.
اللافت ان الحياة السياسية في العراق لم تفرز بعد التغيير قائدا سياسيا بمستوى رجل دولة. ومع ان المحللين السياسيين يعزون ذلك الى ان التغيير في العراق جاء بتدخل اجنبي، فاننا نرى ان القوى السياسية العراقية كانت اشبه بفرق عسكرية متجحفلة في خنادق، لكل خندق عنوان وقائد.. يجمعها هدف واحد هو التخلص من النظام، وتفرّقها مصالح حزبية وطائفية وقومية.. ولأن ما يجمعها ينتهي بانتهاء النظام، فان المصالح تتولى اذكاء الخلاف فيما بينها على حساب المصلحة العليا الخاصة بالوطن وهذا ما حصل.
فالشخصية السياسية العراقية اعتمدت بعد التغيير العزف على الوتر الطائفي لترويج نفسها بين طائفتها تمهيدا لفوزها بالانتخابات ومنها تحديدا نشأ ما اصطلحنا على تسميته :(البرانويا السياسية) التي كانت احد اهم اسباب الكارثة العراقية بعد التغيير، وأكدت لنا نحن المعنيين بالاضطرابات النفسية ان في القادة السياسيين العراقيين من " الأفندية" و"المعممين" فرقاء مصابون بـ(البرانويا) التي تعني بمصطلحات الطب النفسي اسلوبا او شكلا مضطربا من التفكير يسيطر عليه نوع شديد وغير منطقي ودائم من الشك وعدم الثقة بالاخر، ونزعة ثابتة نحو تفسير افعال الاخرين على انها تهديد مقصود.
ولهذا فأنه يحمل ضغينة مستديمة لمن يخالفه الرأي (العلماني مثلا) ويرفض التسامح عما يعدّه اهانة اعتبار جسّدها المتظاهرون باهزوجات موجعة ( الله واكبر ياعلي الأحزاب باكونه - ما نريد حاكم ملتحي نريد حاكم يستحي..)، وانه على استعداد للقتال او المقاومة والاصرار بعناد على التمسك بالسلطة بغض النظر عن الموقف.. تجسّد ذلك في ( احتجاجات تموز ر 2018)، وفي تراجيديا تظاهرات الفاتح من تشرين اول/اكتوبر 2019.
وللتذكير، ان تظاهرات( 2011) طالبت بمحاسبة الفاسدين، فحماهم السيد نوري المالكي بمقولته الشهيرة التي ستدينه تاريخيا (لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لأنقلب عاليها سافلها)، وواصل حمايتهم بتخدير بالوعود خلفه السيد حيدر العبادي الذي وعد بضربهم بيد من حديد وما فعل. ولأن المتظاهرين هتفوا في شباط 2011( باسم الدين باكونه الحراميه).
فأن الفاسدين أضمروا لهم العقاب بمزيد من الأهمال ولكم ان تستعيدوا ما جرى من التعامل الشرس والمهين مع المحتجين في انتفاضة تموز 2018.
وللتوثيق، اننا من عام( 2010 ) كنّا شخصنا العقل السياسي الفاسد في السلطة بمصطلح جديد ادخلناه في علم النفس العربي هو (الحول العقلي) وهو عملية ادراكية ناجمة عن تعصب طائفي تجبره على تصنيف الناس الى مجموعتين:(نحن) و(هم) يحّمل الجماعة الأخرى مسؤولية ما حدث من أذى أو أضرار ويرى انها على باطل، ويرى جماعته انها على حق مطلق حتى لو كانت شريكاً بنصيب اكبر في أسباب ما حدث، وقلنا بالصريح ان شخصا بهذه الصفة المرضية لا يصلح أن يكون قائدا لمجتمع تتنوع فيه الأديان والمذاهب والقوميات.
وبالمقابل، تولّد لدى العراقيين اقتران شرطي بين السلطة والظلم، ناجم عن تكرار السلطات المتعاقبة لممارسة الظلم على الناس. ومع ان النظام العراقي بعد التغيير يوصف بانه نظام ديمقراطي بحسب الدستور، فان اقبح ما ارتكبته السلطات الرئاسية الثلاث فيه انها انتهكت مبدأ العدالة الاجتماعية في الديمقراطية، فاستأثرت بالثروة وتركت اكثر من خمسة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر، فيما هم ينعمون بالرفاهية وتبذير الثروة.
مثال ذلك، ان عدد الحمايات لأعضاء مجلس النواب كان 14800 منتسبا يتقاضون 156 مليار دولارا من اصل 316 مليار دولارا للموازنة المالية لعام 2014، بموجب المذكرة التي قدمها النائب (الراحل) مهدي الحافظ الى رئيس مجلس النواب طالبا فيها تخفيض عدد الحمايات الى النصف.
وعقدة اخرى هي ان العقل السياسي الفاسد مصاب بالدوغماتية التي تعني الجمود العقائدي او الانغلاق الفكري الذي يفضي الى تطرف ديني، مذهبي، قومي او قبلي، وتعدّ بحسب دراسات علمية انها – الدوغماتية- احد اهم واخطر اسباب الأزمات السياسية والاجتماعية، وانها(مرض) خالقي الأزمات من القادة السياسيين.. ما يعني ان العقل السياسي العراق مأزوم سيكولوجيا ومنشغل فكريا بالماضي، فيما عقل الشباب منفتح ومنشغل بالمستقبل، وان الفجوة بينهما هي التي جعلتهما جبلين لا يلتقيان، وللتوضيح بسخرية فان تحشيدهم للشباب في مسيرات للطم والنواح يعدونه انجازا كبيرا وأهم عندهم، من توفير فرص عمل لهم!.
ومن عام 2008 كتبنا عبر (المدى والحوار المتمدن والمثقف) وقلنا عبر الفضائيات ان قادة العملية السياسية العراقية لن يستطيعوا ان يتحرروا فكريا من معتقدات ثبت خطؤها، ولن يستطيعوا ان يجدوا حلّا او مخرجا لما هم فيه، بل انهم سيعرّضون ملايين الناس الى مزيد من الأذي، وقد حصل ما كنّا حذرنا منه في تظاهرة تموز 2018. وزادوها بشاعة وقبحا وعارا بتظاهرات الفاتح من تشرين اول 2019 في سابقة ما حصلت في تاريخ العراق السياسي..ناجم في احد اسبابه عن وجود خصومة بين الحاكم العراقي وعلماء النفس والأجتماع، ولأنه اعتاد على ان يحيط نفسه باشخاص يقولون له ما يحب ان يسمعه!.
ويبقى التساؤل: الى اين نحن ماضون؟
والجواب تؤكده حقيقة سيكولوجية، ان الحاكم الذي يسقط اعتباريا واخلاقيا في عيون شعبه يتحول الى مستبد يفهم ان قمع التظاهرات هي الوسيلة الوحيدة لبقائه في السلطة، وان تظاهرات الشباب وضعت العراق امام بديلين: اما ثورة تطيح بالفاسدين، او حربا بين اميركا وايران.. لمن يكون فيها العراق؟