التعصب والاتجاهات

(دراسة أولية في طبيعة المجتمع العراقي المعاصر)

أ. د. قاسم حسين صالح

2019-08-07 06:38

إن المعنى الحرفي لكلمة التعصب في اللغة الإنجليزية (Prejudice) هو الحكم المسبق. فيما ينظر علماء النفس الاجتماعي للتعصب على انه اتجاه سلبي غير مبرر نحو فرد، قائم على أساس انتمائه إلى جماعة لها دين أو طائفة أو عرق مختلف، أو اتجاه عدائي نحو جماعة معينة قائم على أساس الانتماء إليها. ويعني أيضا النظرة المتدنية لجماعة أو خفض قيمتها أو قدراتها أو سلوكها أو صفاتها ليس لها أساس منطقي. كما يعني أيضا إصدار حكم غير موضوعي بشأن جماعة معينة. وهو اتجاه مؤذي قائم على تعميمات غير دقيقة بخصوص جماعة على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الجنس، أو أي فرق أو اختلاف آخر قابل للملاحظة، يتضمن شيئا سلبيا قائما على اعتقاد الشخص بشأن جماعة أخرى غير جماعته.

والسؤال: ما سبب نشوء هذا التعصب؟.

والجواب يكمن في ((الصور النمطية Stereotypes)) بوصفها المكوّن المعرفي للاتجاه التعصبي، والتي تعني تحديدا : تعميمات غير دقيقة يحملها الفرد بخصوص جماعة معينة، ولا تستثني أحدا منها.. وقد تكون هذه التعميمات إيجابية وقد تكون سلبية. والتعميم الإيجابي يتضمن صفة جيدة أو مفضّلة يضفيها الفرد على جماعته التي ينتمي إليها، ولنفترض أنها ( س ) فيقول : إن جميع المنتمين إلى ( س ) أذكياء أو طيبون مثلا. فيما يتضمن التعميم السلبي صفة سلبية أو غير مفضلة يضفيها الفرد على الجماعة الأخرى التي تختلف عن جماعته في العرق أو الدين أو الطائفة، ولنفترض أنها ( ص ) فيقول : إن جميع المنتمين إلى (ص) هم أغبياء وشريرون مثلا. وهكذا يتبين لنا أن الصور النمطية ( Stereotypes ) - وهي في الأصل مستعارة من عالم الطباعة التي تعني القالب الذي يصعب تغيره بعد صنعه- سواء كانت إيجابية أم سلبية هي أحكام خاطئة أو غير دقيقه، و أنها تكون مؤذيه لثلاثة أسباب :

الأول : إن الصور النمطية تسلب قدرتنا على التعامل مع كل عضو في الجماعة على انه فرد بحد ذاته. ذلك ان المضمون النفسي للصور النمطية الاجتماعية يعني تصورات مجردة بالغة التبسيط والتعميم يحملها الناس عن جماعتهم أو عن جماعة أخرى. فعندما نحمل صورة نمطية عن جماعة، فإننا نميل إلى أن نتعامل مع كل عضو فيها كما لو كان شخصاً يحمل كل صفات الجماعة، بغض النظر عما إذا كان هذا الشخص يحمل تلك الصفات أم لا. وحتى لو كانت الصورة النمطية صحيحة جزئياً أو قائمة على حقيقة معينة، فإن الكثير من أفراد تلك الجماعة سوف يختلفون عن الصورة النمطية لجماعتهم بأمور جوهرية.

إن أحد أشكال الأذى الذي ينجم عن ذلك هو أننا إذا كانت لدينا صورة نمطية عن جماعة عرقية أو طائفية معينة بأنها قليلة الذكاء مثلاً، فإن النتيجة الخطيرة المترتبة عليها أن الفرص التربوية و الوظيفية لجميع أفراد تلك الجماعة ستكون قليلة إن لم تكون معدومة.

الثاني : إن الصور النمطية تقود إلى توقعات ضيقة بخصوص السلوك. فصورنا النمطية تقودنا إلى أن نتوقع بأن أفراد جماعة معينة سيتصرفون جميعهم من دون استثناء بطريقة معينة. ففي سبيل المثال، نحن نتوقع من النساء أن يتصرفن جميعهن بطرائق مهذبة، وبتعاون وعطف وشفقة، فيما نتوقع من الرجال أن يتصرف جميعهم بأساليب خشنة وعدوانية وتنافسية. وما ينجم عن هذا ان الفرد، سواء كان رجلاً أم امرأة، إذا تصرف بطريقة لا تتطابق مع الصورة النمطية التي نحملها عن الجنس الذي ينتمي إليه، فإننا سننظر له كما لو كان شاذاً.

وعليه، فإن الصور النمطية يمكن أن تكون قوة محددة للأشخاص الذين لا يتطابق سلوكهم مع توقعاتنا الضيقة.

والثالث : إن الصور النمطية تقود إلى عزو خاطئ. فعلى وفق نظرية العزو القائمة على فكرة أن الناس يكونون مدفوعين لاكتشاف الأسباب الأساسية للسلوك كجزء من جهودهم لأن يجعلوا معنى لتصرفاتهم من خلال وصولنا إلى تعليلات سببية لما يصدر عن الآخرين وعن أنفسنا من سلوك في المواقف الحياتية المختلفة، فإنه غالباً ما يعزى السبب إلى مصدرين : داخلي أو ذاتي يخص الشخص القائم بالسلوك، وخارجي يخص الآخرين أو الموقف الذي نكون فيه.

وما يحصل لدى الفرد المتعصب انه يعزو الصفات الإيجابية إلى شخصه والى جماعته التي ينتمي إليها، ويعزو الصفات السلبية إلى الجماعة الأخرى التي يختلف عنها في القومية أو الطائفة أو الدين.

والمؤذي في ذلك، انه في حالة حصول خلاف أو نـزاع بين جماعته والجماعة الأخرى فإنه يحّمل الجماعة الأخرى مسؤولية ما حدث من أذى أو أضرار، ويبرئ جماعته منها، حتى لو كانت جماعته شريكاً بنصيب اكبر في أسباب ما حدث.

ونستزيد أكثر فنقول : إن علماء النفس الاجتماعي انشغلوا لعقود من الزمن بدراسة الصور النمطية، وتوصلوا الى أن انطباعاتنا الأولى عن الآخر تنشأ أو تقوم أساسا على توقعاتنا المسبقة. فحيثما ندرك موضوعا أو حدثا ما فأننا نقوم داخليا بتصنيفه من خلال مقارنة المعلومات القادمة إلينا بما تخزنه ذاكرتنا من موضوعات أو حوادث سابقة مماثلة،استقرت فيها على شكل مخططات Schemas. ويعني المخطط (نظرية ) عن الكيفية التي يعمل بها العالم المادي والاجتماعي، بأن تقسّم ( الناس، الأشياء، الحوادث، والمواقف ) الى أصناف تأخذ صيغة مكوّن معرفي تساعدنا على إدراك وتنظيم ومعالجة المعلومات. وبهذا يكون المخطط، معارف ومعتقدات منظّمة بخصوص عالمنا الاجتماعي. وكما تستعمل المخططات في التعامل مع الأشياء والحوادث الجديدة، بأن نبحث في الذاكرة عن المخطط الأكثر اتساقا معها، فأننا نستعملها أيضا مع الناس الذين نقابلهم أو نعيش معهم. فنحن نصنف الأفراد على أساس خصائص معينة مثل : العرق، الجندر أو الجنس، العمر... أو بعلاقتهم بهويتنا الاجتماعية مثل ( نحن مقابل هم ). بل أننا نصنفهم أحيانا حتى على أساس المنشأ أو الانتماء الجغرافي. تأمل ذلك في العراقيين عندما يقابل أحدهم شخصا يقول له أنه من : البصرة أو سامراء أو الموصل أو العمارة أو الناصرية "وهي مدن عراقية "...فأنه يتصرف معه بمعالجة المعلومة بناء على الصنف الاجتماعي أو الجغرافي أو العرقي...أو أي صفة أخرى تكون لها دالة على انتماء الشخص.وقل الشيء نفسه عن اتماءات جغرافية في بلد عربي آخر " الصعيد والاسكندرية والقاهرة في مصر مثلا ".

والذي لا نعلمه أن الصور النمطية تعمل فينا وتقرر سلوكنا بنشاط تلقائي ( أوتوماتيكي ). تأمل ذلك – مرّة أخرى – في العراقيين عندما يتعرف أحدهم على شخص يقول له انه من :قبيلة شمّر مثلا، أو زوبعي، أو ياسري...، أو تكريتي، أو بصري، أو عاني، أو كوفي، أو مصلاوي...،فأنه يتصرف معه بطريقة معينة، حتى ليصبح الأمر في تصنيفم للناس على أساس : ( المدينة، أو العشيرة، أو الجنس، أو العرق...) يشبه عملية قيادتهم للسيارة... أعني عملية تلقائية أو تعودية، تعمل على مستوى يكون خارج درايتنا به.

والذي لا نعلم به أيضا، أن الصور النمطية تعمل ترابطات أو اقترانات وهمية بين أحداث أو موضوعات غير موجودة في الواقع، تدفعنا الى أن نعمل استدلالات نبني عليها أحكاما غير دقيقة. خذ، في سبيل المثال، الترابطات أو الاقترانات الوهمية الآتية عند العراقيين :( المصلاوي والبخل، البصراوي وخفة الدم، الكوفي والغدر، الشروكي- العمارتلي بشكل أخص- وقلة الذوق، الدليمي والفطارة..).والشيء نفسه موجود في كل المجتمعات تقريبا.

والأمّر من ذلك أن هذه الأوهام تتحكّم في الكثير من تصرفاتنا ونحن عنها غافلون !. وأننا لن نكون في مأمن من الكارثة حتى لو وصفنا أنفسنا وتحدثنا عبر القنوات الفضائية بأننا نعشق الديمقراطية قولا وفعلا، فيما نحن في بيوتنا ومع أهلينا متعصبون حدّ النخاع !.

التعصب العرقي ( Ethnocentrism):

يعدّ التعصب العرقي اخطر أنواع التعصب و أكثرها أذى. وتعنى العرقية Ethnocentrism، النزعة لدى الفرد نحو تفضيل الجماعة التي ينتمي إليها على باقي الجماعات الأخرى. ونظرته إلى جماعته على أنها مركز كل شئ، والحكم على الآخرين بمقاييسها. وتميل الجماعة العرقية إلى ان تضع نفسها فوق الجماعات الأخرى، وتنظر بازدراء إلى الغرباء عنها، وتعتقد أن طريقتها في الحياة هي الطريقة الصحيحة.

وثمة حقيقة نفسية خافية عن الناس هي انهم يحابون جماعتهم العرقية، وينظرون إلى أعضائها بمنظار غاية في المحاباة. إذ يرون أنفسهم بأنهم يمتلكون صفات لطيفة، وسلوكاً مهذباً، وانهم محبوبون للغاية. والعامل المزاجي في هذه الحقيقة النفسية هي ان الناس ينـزعون إلى تصنيف عالمهم الاجتماعي الى صنفين (( نحن )) و (( هم )). وانه من هذا التقسيم ينشأ التعصب و الصراع و التحيز و التمييز.

وما يدعو للدهشة والتأمل ان أفراد الجماعة العرقية ينزعون الى رؤية قدر كبير من الاختلاف ( لا التشابه ) فيما بينهم كأفراد، فيما يرون قدراً اكبر من التشابه ( لا الاختلاف ) بين أفراد الجماعة الأخرى. لنأخذ صفة الكرم في سبيل المثال. فعندما يطبقونها على أنفسهم، فانهم يرون في أعضاء الجماعة التي ينتمون إليها من هو كريم، ونصف كريم، وبخيل، وبخيل جداً. أما إذا طبقوها على أفراد جماعة عرقية أخرى، فهم يرون فيهم جميعاً، بخلاء دون استثناء. وقس على ذلك خصائص أخرى، مثل : الذكاء، الصدق، الأمانة، الشجاعة… وما يعاكسها من صفات. ( تفحص نفسك وتفحصها بين افراد مجتمعك ).

وعلينا أن نعترف بحقيقة نفسية أخرى، هي حاجة الإنسان إلى هويتين : واحدة للذات وأخرى اجتماعية. الأولى تمثل كينونته ووجوده و( أناه ) الخاص به. والثانية تمثل عضويته في جماعة مرجعية ( قومية، دينية، مذهبية...). ونشير هنا الى أن الاعتزاز بالقومية أو الدين أو المذهب، يحقق حاجتين نفسيتين لدى الإنسان : الحاجة الى هوية اجتماعية والحاجة الى الانتماء، وهما حاجتان إنسانيتان مشروعتان، شرط أن لا تكونا مصابتين بالتضخم الذي يقود الى الاستعلاء، أو الإحساس بالنقص الذي يفضي الى الشعور بالاضطهاد، وكلاهما من صنف ( البارانويا ). وأبشع ما في البارانويا أنها اذا ما تمكنت من صاحبها فأنه يصاب بهذيان ( لأتغدى به قبل أن يتعشى بي )، ولن يرتاح إلا بعد أن يفعلها، وهذا ما حصل بين العراقيين في عامي 2006 و2007، لدرجة أن القتل صار يستهدف من أسمه " عمر " و "حيدر " و "كاكا سيروان" !.

ان للعربي الحق في أن يعتز بعروبته، والحق نفسه للكردي في أن يعتز بكرديته، وكذا التركماني والقوميات الأخرى. وكما للسنّي الحق في الإيمان بمذهبه، فأن للشيعي الحق نفسه في الإيمان بمذهبه، وكذا الايزيدي ومن هو على مذهب آو دين آخر..وهذا ما هو سائد في المجتمعات الديمقراطية الغربية..بل أنك تجده حتى في المجتمع الهندي المتعدد الاعراق والأديان والمذاهب.

غير أن الجانب السلبي في الهوية الاجتماعية يبرز عندما يعمد صاحبها، شعوريا أو لا شعوريا، الى إعلاء مكانة واعتبار الجماعة التي ينتمي إليها، وتفضيلها على الجماعات الأخرى.

والغالب في مجتمعنا العراقي، أن الجماعات المرجعية العرقية تميل إلى أن تهتم اكثر بتغذية الجانب السلبي من هذه الهوية في تنشئة أطفالها، وتعزيزه في الحديث اليومي للراشدين منهم، والتركيز عليه في خطاباتها السياسية والثقافية والدينية بأن تعمد إلى تضخيم ما أصابها من حيف أو ظلم من الجماعات الأخرى ( بمعنى انهم طيبون والآخرون أشرار )، او الإكثار من تمجيد تاريخها والزهو به،لا بصيغة تبيان حقيقة موضوعيه واعتزاز مستحق إنما بصيغة تحمل، تصريحاً او تلميحاً، أفضليتها على الجماعات الأخرى، وإنها كانت، عبر تاريخها الطويل، منزّهة من كل خطأ، وإن كانت ارتكبته فأن الآخرين كانوا هم السبب !. وهذا لسان حال كل الجماعات في كل المجتمعات، ظالمة كانت أم مظلومة، حتى لتحسبها سجية في البشر !.

وما لم ينضج وعينا الى مستوى إدراك أن حق الآخر مشروع كمشروعية حقنا، ونرتقي تلقائيا الى سلوك مهذب يحترم الهوية الاجتماعية للآخر، فأن الحال يؤول الى ما يمكن تسميته ( حرب المعتقدات ). والمشكلة أن المعتقد اذا ما أصيب بـ ( الالتهاب ) يصير هو ( فيروس ) التعصب..ينتشر بين ( نحن مقابل هم ) في عدوى هستيرية تشعل حربا تكون أشد ضراوة وأكثر سخفا من حروب الأيديولوجيات.

أسباب التعصب والصور النمطية وسبل خفضها:

تمثل الصور النمطية المكوّن المعرفي لاتجاه التعصب. ونعيد إلى الذهن بأن الصورة النمطية Stereotype تعني : تعميمات أو أحكاما غير موضوعيه بخصوص جماعة معينه، لا تستثني من أفرادها أحدا، بالرغم من وجود اختلافات حقيقية فيما بينهم. ويمثل التمييز Discrimination المكوّن السلوكي لاتجاه التعصب. ويعني التمييز: فعلاً عدائيا أو سلبياً أو مؤذياً غير مبرر نحو أفراد من جماعة قائم أساساً على عضويتهم في تلك الجماعة، وليس لسبب آخر. وهذا يعني أن أي إنسان يمكن أن يكون هدفاً للتعصب.

ويمكن تحديد أربعة جوانب في الحياة الاجتماعية تفضي إلى التعصب هي :

الطريقة التي نفكر بها، والطريقة التي من خلالها نضفي المعنى على الأشياء، والطريقة التي تخصص بها موارد العيش والثروة، والطريقة التي نتمثل بها المعايير والقواعد الاجتماعية.

إن عملية الإدراك أو التعرف الاجتماعي مهمة في خلق الصور النمطية التي تفضي إلى التعصب. والخطوة الأولى في نشوء التعصب تبدأ بتصنيف بعض الأفراد في جماعة واحدة على وفق صفات أو خصائص معينة، ووضع الآخرين في جماعة أخرى على وفق صفاتها أو خصائصها المختلفة. فالفكرة الأساسية في الإدراك الاجتماعي هي أن تجميع التنبيهات يكون قائماً على أساس ما بينها من تشابهات، ومقابلتها بتنبيهات على أساس ما بينها من اختلافات. ومن هذه الفكرة تنشأ عملية عقلية أخرى تقسّم الناس الى ما اصطلح على تسميته بـ (( داخل الجماعةIn- group)) و (( خارج الجماعة Out-group )). ومن هذه العملية ينجم ما نريد ان نسميه بـ (( الحَوَل الادراكي ))، وهو مصطلح من عندنا نريد ان ندخله في ثقافتنا. ويكون هذا الحَوَل على نوعين :

حَوَل داخلي : يرينا ما هو إيجابي في جماعاتنا ولا يرينا ما هو سلبي فيها.

وحَوَل خارجي : يرينا ما هو سلبي في الجماعة الأخرى، ولا يرينا ما هو إيجابي فيها.

و الواقع إننا جميعاً مصابون بهذا الحَوَل، والاختلاف فيما بيننا هو في الدرجة ليس إلا.

و إذا كان تصحيح الحَوَل البصري يتم من خلال عدسات معينة، فأن (( حولنا العقلي )) يمكن تصحيحه أيضا من خلال :

 التربية.

 الثقافة.

 الاختلاط.

 العدالة.

ففيما يخص التربية، فإننا نعني بها كل أشكال التعليم الرسمي في المدارس و التنشئة الأسرية، والتعّلم الاجتماعي بمجالاته المختلفة. وبما أن التعصب سلوك، فانه يتم تعلّمه مثل أي سلوك آخر. فأذا كان الوالدان - في سبيل المثال - يحملان صورة نمطية سلبية عن جماعة تختلف معها في الطائفة أو العرق او الدين… فأن أطفالهما سيحملون الصورة النمطية نفسها، ويتصرفون بنفس الطريقة. وإذا ما وجدوا تعزيزا لها من أقرانهم فأن تلك الصورة ستتقوى لديهم، ويصعب من ثم تعديلها.

والملاحظ على المجتمع العراقي " ومعظم المجتمعات العربية " أن عقله محشو بصور نمطية لا تحصى، وبشكل عجيب غريب. ففضلاً عن الصور النمطية المتعلقة بالعرق والدين والطائفة والجندر ( المرأة والرجل بالمفهومين النفسي والاجتماعي )… فأن فيه صوراً نمطية أخرى قائمة على أساس المدينة. فـ (( المصلاوي )) لدينا عنه صورة نمطية، وكذا : البصراوي، والنجفي، والعاني، وناصريه، والدليمي... وأهل أربيل لديهم صورة نمطية عن أهل السليمانية، والعكس موجود أيضا، " وبعضهم على بعض يقول النكات !"..

و الأغرب انك تجد صوراً نمطية قائمة على أساس المحّلة : ابن الفضل، ابن باب الشيخ، ابن الشواكه، كظماوي، معظماوي ( وكلها أحياء سكنية في بغداد- وربما تجد ما يشبه ذلك في عواصم عربية أخرى )… وما يجعلك تندهش أنهم يعِّدون أنفسهم مختلفين تماماً بعضهم عن بعض، بالرغم من انهم يسكنون في محلات متجاورة. ولا تجد تفسيراً لذلك سوى انهم مصابون بـ (( الحَوَل العقلي )).

وثمة أربع ملاحظات :

• الأولى، إن " الموروث السيكولوجي البدوي " في رذيلة التعصب ما يزال يتحكم بنا لاشعوريا، برغم أننا غادرنا الجمال والحمير الى المرسيدس والأيرباص، وأننا تركنا بنات العشيرة السمراوات وتزوجنا الشقراوات عابرات المحيطات. فضلا عن أننا نجهل بأن هذا التعصب مصحوب برذيلة أخرى هي هاجس " بارانويا " الشك بالآخر والخوف من غدره.

• الثانية، أن عقولنا،نحن العراقيين بالذات، تتحكم بها ما نجم عن أحداث مضى عليها قرون لا ما يمليه علينا الحاضر من أحداث وإدراك معاصر. وأن اللاشعور الجمعي للعامة من الناس قولب عقولهم من ألف سنة على حوار السيف بدلا من حوار الكلمة في خلافاتهم السياسية والفكرية.

• الثالثة،إن العربي عموما مصاب بهوس الملكية الشخصية لثلاثة : المرأة والأرض والسلطة. أعني أنه اذا حصل على السلطة فان قيمه التي ورثها من ألف سنة تدفعه الى أن يعظ عليها بأسنانه، وينفرد بها انفراده بزوجته.

• والرابعة، أن نضج الوعي السياسي ( الحالة التي يصل فيها العراقي الى أن ينتخب : الكردي عربيا والعربي كرديا والسنّي شيعيا والشيعي سنّيا..." يبدو أنه يخضع لنفس قوانين النضج البيولوجي..أعني أن يتم عبر مراحل. وأن " الشعب العراقي " هو الآن في مرحلة الحبو في وعيه بالانتخابات الديمقراطية بعد ست سنوات أمضاها في مرحلة الرضاعة..

ومع أنه من غير المعقول أن نطلب من رضيع " بدوي " القفز بالزانة !، فأن الكثير من السياسيين العراقيين يدّعون أن هذا ممكن..ومطلوب أيضا، مع أن أفضلهم نضجا لم يصل بعد مرحلة الحداثة..في الممارسة، برغم أنه يجيد صناعة الكلام بامتياز.

وبالعودة الى مناهجنا الدراسية ( اعني تحديداً : كتب المطالعة والتربية الوطنية والديمقراطية وحقوق الإنسان…) فان عليها أن تنتبه للصور النمطية التي أشرنا الى عدد منها، وتعمل على محوها، خاصة بعد أن شاع بين تلاميذ المدارس سؤال بعضهم لبعض :" أنت سنّي لو شيعي ؟!".وهو أمر مخجل وخطير جدا على مستقبل الجيل القادم، ينبغي على مناهجنا الدراسية معالجتها، وان تلتقط موضوعات تعتمد الحوار وسيلة لحل النـزعات بين الجماعات والأفراد.وأن تبتعد تماما، خاصة كتب التربية الدينية، عن كل ما يوحي ولو ضمنيا بما يفرّق بين المذاهب، وأن يكون ذلك بتعاون المؤسسات الثقافية والمؤسسات التربوية. فالتربويون يجيدون اختيار مثل هذه الموضوعات، فيما المهتمون بالثقافة ( لاسيما المعنيون منهم بثقافة الأطفال ) يمتلكون الأسلوب المشوق في صياغة مفرداتها، وسعة الخيال في جمالية صورها. وعليها ان تركز في مسألة غاية في الأهمية هي ان تعيد لقيمة (( الحياة )) اعتبارها بعد أن هوت من مكانتها السامية بفعل حروب كارثية، ثم أجهز عليها الإرهاب ببشاعة الوحوش الضواري. فضلاً عن رخص حياة العراقي بعيون العسكري الأجنبي (( المتحضر جداً! )).

ويبقى على الناس تعزيز وتعميق الاختلاط والاتصال الحميم فيما بينهم. غير ان هذا لن يكون - كما ينبغي - ما لم يشعر الجميع بأنهم متساوون في المكانات، وان توزع الثروة بينهم بالعدالة، ليحيوا الصلات الاجتماعية القديمة المعروفة عنهم بروح عصرية جديدة، بعد أن أرعبها انعدام الأمن الذي اجبر الناس على الهجرة أو الجلوس في بيوتهم، أو القبول بالموت على أنه قدر محتوم، برغم يقينهم أنهم يلقون بأنفسهم الى التهلكة..في أي شارع يمشون !.

أخـيراً.

إن نقطة الشروع في تحقيق هذا المشروع، هي أن نعترف جميعاً بأننا مصابون بما اصطلحنا عليه : (( الحَوَل الإدراكي )).. اعني انحيازنا الى جماعتنا ونظرتنا لهم بعين الرضا، عين المحب للمحبوب، والى الغير بعين تبدي المساوئ، عين الكاره للمكروه. وان نكون راغبين حقاً في تصحيحه. ففي ذلك أجمل المنافع وأرقى الصفات …أحوجها أن لا يوصف السياسي من العراقيين بأنه (( أحول عقل )) !.

والحقيقة أنني لا أستثني من هذا الحول أحدا، فهو مرض شائع في العقل العربي والإسلامي، ما يزال يشكل أحد أهم أسباب مآسينا وتخلفنا أيضا. وأنه ما لم يتم علاجه بإعادة صياغة ثقافتنا وخطاباتنا الدينية والسياسية والإعلامية " القنوات الفضائية بشكل خاص"، واسهام المواقع الإلكترونية والصحافة التقليدية في تحرير الوعي الشعبي من أوهام ومعتقدات معبئة بالحقد والكراهية... فأننا سنبقى نتعارك والعالم يضحك علينا. فأكثر مشاهد الكوميديا سخرية، تلك التي يتعارك فيها مجاميع من الحولان !.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي