بين الإقبال والإدبار
علي حسين عبيد
2018-01-14 05:30
الإقبال مفردة تعني أن كلّ شيء مادي أو معنوي سوف يضع نفسه وإمكانياته في خدمة الإنسان، ومن تُقبِل عليه الحياة، سوف يحصد نتائج تصب في صالحه كفرد، وفي صالح الجماعة التي ينتمي لها، أما الإدبار فهي بالضد من ذلك تماما، حيث يجد المرء نفسه محاصرا بالمشكلات والعراقيل المختلفة التي تجعل من حياته عبارة عن سلسلة من المصاعب الجمة، وما أن يتجاوز إحداها بعد جهد جهيد حتى يجد نفسه إزاء أخرى أشد قسوة وتعقيدا.
كيف يحصل ذلك؟؟ وبكلمة أخرى لماذا يكون إقبال الحياة من حصة شخص ما، بينما يكون الإدبار من حصة آخر، فهل هي صناعة تمتهن الإقبال والإدبار، وإذا كان الأمر كذلك، من يقف وراء صنع هذين المسارين، وهل هناك حصة للشخص نفسه في هذا الأمر؟؟.
في الواقع بحسب مختصين، فالإقبال والإدبار تكاد تكون صناعة شخصية بالدرجة الأولى، وجلّ الأمر يتعلق بالتركيبة النفسية للبشر، وبتركيزه على التفاؤل والتخطيط للنجاح حينما يكون الإقبال أحد توقّعاته وآماله، وعلى العكس عندما ينشغل نفسيا بالإدبار والإحباط، فإن نصيبه من ذلك سيكون كبيرا وسيبقى يدور في فلك الإحباط طويلا، ولا يكتفي بصنع ذلك لشخصه، وإنما يتعداه الى المجتمع، أي أنه سيكون إنسان صانع الإدبار.
وقد يصبح الإنسان منذ نعومة أظفاره صانعا للإقبال والتفاؤل والنجاح، ولعله من غرائب الحياة، أن يتقن الإنسان فن صناعة الإدبار والمعرقلات!، ويشارك أو يسعى عن قصد او من دونه، الى زرعها بين عموم الناس،لا لشيء إلا لكونه من الصنّاع المهرة لهذا النوع المؤلم والبائس من أنواع العيش، على أن المشكلة لا تتوقف عند الحدود الشخصية لصانع الإدبار فقط، بل تتعداه الى النسيج المجتمعي ككل، فيصبح أولئك الأفراد او الجماعات، أدوات تصلح وتسعى لنشر الألم والتردد والبؤس بين الجميع، ولكن هناك من يرى أن الحياة نفسها قد تدير ظهرها للبشر، هذا صحيح بالطبع!.
لكن هناك إنسان مهيّأ نفسا للتعاطي مع الإدبار، وهناك على العكس من ذلك تماما، فتجده متفائلا مقبلا حتى في أقصى الأزمات والمصاعب، لكن الإنسان المنسجم مع الإدبار والهزيمة، سوف يعكس ذلك على المجتمع من دون أدنى ريب، وبهذا سوف يكون قادرا على صنع المتاعب بشكل دائم، إضافة الى نشر السلوك والتفكير المتراجع، لأنه يتحرك في هذا الاتجاه بصورة آلية، بمعنى أنه تربّى على هذا النوع من السلوك، لذلك لا يرى ضيرا في الترويج لمنهجه وسلوكه في الحياة، إنه في هذه الحالة يصبح مشكلة في حياة المجتمع، ولا يكتفي عند هذا الحد، لذلك يسعى كي لا يكون وحده في هذا المضمار، فيتحرك وينشط من خلال أعماله وأفعاله وأقواله وأفكاره كي يبثّ ويزرع البؤس والإحباط بين عموم الناس، لدرجة انه يعتاد السلوك التخريبي ولا يجد فيه حرجا من الآخرين، كأنه يقوم بعمل لا غبار عليه ولا يسيء لأحد، بينما هو إساءة فادحة بالآخر من دون وجه حق.
الرجال الناجحون لم تُقبل عليهم الحياة إلا بعد أن روّضوها كما يشاءون وليس العكس، وهم أبعد ما يكونوا عن الاستسلام أو التراجع بسبب الإدبار، لهذا كان دور الأشخاص الناجحين مفيدا لهم أولا ومن ثم للمجتمع ككل، لأن التراجع والتردد والشعور بالإحباط يمنع الإبداع من الظهور، والمشكلة أن هنالك أناس جبلوا على الإساءة للمجتمع من خلال أنشطتهم الحياتية اليومية، فيسعون الى تعكير الأجواء ويشجعون على بث المشاكل بين النسيج المجتمعي، حيث يعيش الناس في أجواء محتقنة خانقة، لا تنتمي لروح الترفيه، ولا تساعد على الارتقاء بالمواهب او الطاقات الفاعلة، فيذهب الإدبار وصانعوه إلى تدمير السجايا الجيدة في المجتمع، ومن الأسباب الأخرى ذلك الوهم الكاذب المُسيطر على عقول الكثيرين وأرواحهم، حيث يكون الواحد منهم سعيدًا في حاضره، فيأبى التمتع بما هو فيه من نعمة وخيرات، وغالبا ما يتساءل المرء المحبَط بالإدبار ليُنَغِصَّ على نفسه بنفسه حياته: هل سأكون كذلك في المستقبل؟. ألا تُدبر الدنيا بعد إقبال؟. ألا ينتظرني بلاء أو ألم؟، وهكذا يظل في تصوراته الوهمية، حتى تتراكم سُحب القلق في سمائه، فلا هو انتفع بما في يده، ولا استطاع أن يخترق حُجُبَ الغيب؛ وذلك من ضلال الرأي وسوء التصرف، بعد استسلم الشخص للإدبار والإحباط والتردد.
من هنا نلاحظ أن المجتمعات المتمدنة، لا تنشغل بعوامل الإحباط كمنهج عمل لها في حياتها، وإنما تنشغل بالإدبار كي تعالج أسبابه وتتخطاه الى الإقبال والنجاح، وتخطط لصناعة السعادة، من اجل الإبداع والابتكار وتحسين الإنتاج، وهي تسعى على الدوام لخلق الفرص الكافية التي تساعد على بث روح التفاؤل بين افرد ومكونات المجتمع، ولا تسمح بصناعة الإحباط، ولا تتيح الفرصة لصنّاعه بالنجاح في مسعاهم، أي أن المجتمعات المتطورة تحارب هذه النزعات التي تهدف الى نشر اليأس والنكوص والتراجع بين الناس، وبالتالي تنتهي إلى إضعاف الإرادة الفردية والجمعية على حد سواء، الأمر الذي ينعكس على مجمل الأوضاع الجيدة للمجتمع، لذا ينبغي أن نتحاشى تداعيات الإدبار، ونجتهد في صناعة الإقبال والتميّز على المستويين الفردي والجمعي.
ومن الملاحظ أن المجتمعات المتطورة تحاصر الإحباط بقبضة من حديد، وتبادر بسرعة الى معالج الشخص المحبَط، وتدخله في معالجات نفسية وفترات نقاهة حتى تؤهله كفرد متفائل في المجتمع، من هنا ينبغي محاصرة السلوك السلبي، وعدم السماح له بالانتشار، خاصة أننا في طور البناء، ونحتاج الى الأجواء والعوامل الداعمة للإرادة، وليس الى ما يثبط العزيمة، والأخير هدف واضح يسعى الى تحقيقه أولئك الذين يتقنون الإدبار والهزيمة، ويصنعون المشاكل والمعوقات، وفقا لطبيعتهم وشخصيتهم التي تسعى نحو التعويق، ما يلزمنا بمكافحة هذا المنهج الخطير من خلال وضع الخطط الفكرية العملية اللازمة.
أما الجهات التي يجب أن تأخذ على عاتقها مكافحة الإدبار والإحباط، وتنمية الإقبال والتفاؤل لدى الأفراد ومن ثم المجتمع، فهي بالطبع المؤسسات الفكرية والعلمية، والدوائر الحكومية والأهلية، وجميع المنظمات ذات الأنشطة الثقافية والفكرية، فالأمر بالنتيجة لا يتعلق بشخص بعينه، بقدر ما يتعلق بحاضر ومستقبل المجتمع كله، فأن تسهم في صناعة مجتمع متفائل غير ما تسهم بصناعة مجتمع محبط.