دور مؤسسات المجتمع المدني في دعم وتعزيز حقوق الإنسان
د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
2025-07-12 05:36
المنظمات غير الحكومية كيانات تنشأ بموجب القانون لتحقق أهداف مرسومة لها، وهي بالغالب تهتم بالعمل التطوعي غير الربحي وتتخصص في المجالات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الدينية، حيث تضم بين جنباتها العديد من الناشطين في المجالات الإنسانية والخيرية، وهي معنية بالدرجة الأساس بدعم الحقوق والحريات العامة والخاصة ورشد الحكم، والقضاء على الفساد والحد من المشكلات بمختلف صورها لاسيما آفة الاستبداد.
فهي لا تسعى إلى الوصول إلى السلطة عدا الأحزاب السياسية بل تهدف إلى التأثير الإيجابي في السلطة ويكون لها برامج عمل وهياكل تنظيمية وتسهم في تحقيق التنمية، والبعض منها يوصف بالمنظمات ذات النفع العام كالنقابات والاتحادات والنوادي التي تسهم في تنظيم ممارسة مهنة معينة وتمثيل من ينتمي إلى هذه المهنة، وبالنتيجة هي تحقق النفع من خلال الدور التنظيمي إضافة إلى إسهاماتها في الشأن العام والسعي إلى تحقيق المصلحة العامة.
وتلعب المنظمات الأهلية المكونة للمجتمع المدني في عالمنا المعاصر دوراً كبيراً ومن شأنه التأثير في الأحداث العالمية، ومما لا شك فيه أنها قادرة على التغيير الإيجابي ان تضافرت جهودها وتم التنسيق في العمل فيما بينها، فمن شأن هذه الكيانات ان تدعم الحقوق وتعمل على صيانة الحريات لاسيما حرية الرأي والتعبير، والحق في التجمع السلمي والاجتماع أو العمل الجماعي من خلال الجمعيات أو المنظمات، كما توفر مجهوداتها اليومية ضمانة للناشطين في مجال حقوق الإنسان بل لها التأثير المباشر في إقرار الحماية القانونية لعملهم.
يشار إلى ان الكثير منها حول العالم تشترك في العمل الرسمي التشريعي أو التنفيذي على نحو ما أو تملك الأدوات التي تقود إلى قول كلمتها في أعمال الهيئات العامة النظامية، على سبيل المثال يمكن للصحف العالمية ان تغير سياسة حكومات أو لعلها تطيح بها بمجرد إلفات النظر إلى ملف يهم أو يحرك الرأي العام، ويكون للعديد من المنظمات حضوراً مؤثراً في هيئة الأمم المتحدة والأجهزة الملحقة بها، والعديد منها تحمل صفة المراقب في مجلس حقوق الإنسان وتؤخذ تقاريرها وملاحظاتها بنظر الاعتبار عند إعداد الإحاطة التي يتقدم بها الأمين العام أو ممثله إلى مجلس الأمن.
ولما كانت الحقوق والحريات مترابطة وهي تحمل المعنى العالمي الذي يتعالى على المعنى المحلي أو الوطني لكونها ترتبط بالجانب الإنساني، فلا تقبل التجزئة أو التبعيض وانه يتعين العمل على تعزيزها وصيانتها بشكل عادل ومنصف وتقر للجميع بغض النظر عن الحدود الوطنية، وما تقدم يقع في صلب وظيفة مكونات المجتمع المدني والتي تعد وبحق كيانات حضارية وثقافية تواجدها وفاعليتها تؤشر مدى الوعي لدى الشعب والقابضين على السلطة على حد سواء.
ويبرز إلى الواجهة مسؤولية الحكومات والدول والمنظمات الدولية والإقليمية في حماية الحقوق والحريات وجزء من هذه المهمة يتمثل في فسح المجال أمام المنظمات غير الحكومية لتأخذ دورها المحوري في دعم وتعزيز الحقوق والحريات، ونشير إلى أن هذه المنظمات تعمل على نحو متعدد المجالات لضمان ما تقدم فتارة تتولى هي بنفسها صيانة الحق أو الحرية كالتدريب الذي تقدمه لبعض فئات المجتمع لتمكينها من النهوض بدورها الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، وتارة تقوم بدور المراقب والمتتبع للسياسات والقرارات الرسمية التي لها مساس بالحق أو الحرية فتشخص الصالح منها وتعمل على دعم تنفيذه بأسرع ما يمكن وتحدد ما كان يخرج عن هذه الغاية لتبدأ إزاءه رحلة مقاومة قد تصل بها إلى إعلان مقاومة طغيان السلطة.
ونعتقد ان هذه المنظمات تحقق الغاية التشريعية من إقرار المشرع الدستوري للحقوق والحريات فعلى سبيل المثال حين يشير الدستور العراقي النافذ للعام 2005 في المادة (38) إلى حرية الرأي والتعبير بكل الوسائل يلوح في الأفق دور المنظمات الحكومية، بوصفها جزء لا يتجزأ من ضمير الأمة والشعب والمعبر الحقيقي عن التطلعات والضامن والمتصدي الأول للانحراف في استعمال السلطة أياً كان مصدره أو مستواه، وعلى الصعيد العالمي أيضاً إجراء مقتضى الحقوق والحريات التي أقرت في الإعلانات العالمية لا يتم على الوجه الأسنى إلا بتدخل المنظمات غير الحكومية بوصفها المحرك الحقيقي للرأي العام والمسؤولية عن إنضاج التفكير العام والنقاش العام والضمير العام.
ولا يغيب عن الذهن أن هذه المنظمات تلعب دوراً رقابياً مؤثراً من شأنه تصويب العمل العام وتعزيز المساءلة والحكم الرشيد ومنع الانتهاكات من خلال عملها اليومي في الرصد والتحري والتوثيق والتصدي، وبعبارة أخرى يمكن لها ان تكون عاملاً مساعداً لمنع الانتهاكات من خلال التدابير الاحترازية التي تنهض بها، ومنها التوعية والتي تصل من خلالها إلى تشخيص المشكلات واقتراح الحلول، وكذلك تبادل الخبرات والمعارف والتدريب والتأهيل وتعزيز قيم النزاهة والعدالة والمساواة والتصدي الإعلامي المباشر للانحرافات قبل وقوعها أو بعده.
كما يكون لها دور قمع التعدي ان وقع بانتهاج أكثر من سبيل من شأنه التصدي لما تقدم إذ يمكن ان تتصدى من خلال أدوات المقاومة السلمية كالتظاهر والعصيان المدني أو ما سواها من الأدوات كما يمكن لها التصدي بالوسائل الرسمية ومنها إثارة الطعون والاعتراضات الإدارية أو القضائية والسعي إلى تحريك المسؤولية السياسية للحكومة أو البرلمان.
ومما تقدم نجد ان المنظمات غير الحكومية تنهض بدور محوري وأساسي في مناصرة الحقوق والحريات والانتصار للمظلومية ومقارعة الانتهاكات ويتلخص دورها في العديد من الفعاليات السابق الإشارة إليها بالإضافة إلى:
أ- رفع الوعي الشعبي: لاسيما إزاء القضايا المصيرية، حيث تنشط بعقد الندوات والملتقيات والمؤتمرات والحوارات الوطنية التي تستهدف التركيز على القضايا المصيرية والتحولات الكبرى وكذلك الشأن العام.
ب- دورها في التوثيق: حيث تمتلك العديد منها ارشيفاً يتضمن ما تم رصده من المخالفات وتعمد إلى تقديمه إلى الجهات ذات العلاقة ومنها المنظمات العالمية كمنظمة العفو الدولية أو الصليب الأحمر أو الأجهزة الحقوقية الملحقة بالأمم المتحدة، والعديد منها تفتح باب الرصد والإبلاغ عن الانتهاكات عبر الكثير من الوسائل التي تمتاز بالمرونة والفاعلية.
ج- تقديم الدعم المباشر: إذ تجتهد الكثير من المنظمات بتفريق المساعدات الإنسانية على الفئات الأكثر حاجة إليها لاسيما في أوقات النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية وتستهدف الكثير منها الأسر والأفراد ممن هم بحاجة ماسة لمثل هذه المساعدات المنقذة للحياة.
د- بناء القدرات: إذ تنشط الكثير من المنظمات في بناء قدرات الجيل الناشئ ليتمكن من خوض غمار الحياة في مجالات العمل والتدريب وتوفير فرص تغيير الحياة النمطية، بهدف التأثير الإيجابي على أسلوب التفكير والعيش بما من شأنه ان يحقق الكرامة الإنسانية.
ولابد من التأكيد ان مسؤولية الهيئات العامة بتمكين المنظمات غير الحكومية وظيفة أسس لها الدستور العراقي بالمادة (39) والتي تنص على ((أولاً: حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية، أو الانضمام إليها مكفولة، وينظم ذلك بقانون. ثانياً: لا يجوز إجبار أحد على الانضمام إلى أي حزب أو جمعية أو جهة سياسية، أو إجباره على الاستمرار في العضوية فيها)) وتضيف المادة (45) الفقرة (أولاً: تحرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني، ودعمها وتطويرها واستقلاليتها، بما ينسجم مع الوسائل السلمية لتحقيق الأهداف المشروعة لها، وينظم ذلك بقانون).
وتضيف المادة الرابعة من قانون المنظمات غير الحكومية رقم (12) لسنة 2008 أن (لكل شخص عراقي طبيعي أو معنوي حق تأسيس منظمة غير حكومية أو الانتماء إليها أو الانسحاب منها وفق أحكام هذا القانون)، بمعنى ان تلك الهيئات مطالبة بالسعي الجاد إلى دعم عمل هذه الجهات الأهلية وعدم التدخل السلبي في نطاق عملها بأي شكل من الأشكال فمن المخاطر المتوقعة إزاء الهيئات غير الحكومية:
1- القوانين الفضفاضة التي تحتمل التفسير الواسع والتأويل غير المتناسب بما يفسح المجال أمام الجهات الحكومية لتقييد حرية المنظمات غير الحكومية، أو على الأقل تحديد مساحة عملها بما يتنافى مع الاستقلال والحياد الذي تنعم به.
2- إساءة استعمال حق التقاضي أو التعسف باستعمال الحق بالتقاضي بإقامة الدعاوى إزاء المنظمات غير الحكومية بغرض إسكاتها تحت طائلة التشهير أو القذف ما يتطلب من المشرع ان يعدل قانون المنظمات غير الحكومية رقم 12 لسنة 2008 بإيراد بند يتضمن حصانة المنظمات وأعضائها من المحاكمات المنحازة أو الدعاوى الكيدية أو التي تتصل بحرية الرأي والتعبير، والأمر ذاته مطلوب بالنسبة لباقي التشكيلات المدنية كالمؤسسات الإعلامية والنقابات والاتحادات والمنظمات المهنية والنوادي الاجتماعية والرياضية.
3- التعسف في استعمال سلطة الحكومة الرقابية بحجة منع التمويل الأجنبي أو إخضاع المنظمات غير الحكومية للرقابة المباشرة من قبل بعض الجهات الرسمية، بما من شأنه كتم صوت هذه الكيانات ويفترض بالحكومة ان تمارس ما تقدم في ضوء المعايير المناسبة والتي تتفق مع الشرعة الدولية التي أسست لها الأمم المتحدة.
4- افتقاد منظمات المجتمع المدني للحماية الحقيقية إزاء الشركات التجارية التي تمارس بالغالب أدواراً غير متناسبة مع الغاية من خدماتها فعلى سبيل المثال تمثل الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي في الكثير من الأحيان عائقاً يحول دون قيام هذه مجتمع مدني حرّ وتعوق المنظمات غير الحكومية من أن تقوم بوظيفتها الإنسانية والوطنية كخط صد دون الاستبداد والتعسف والانحراف أياً كان مصدره أو شكله أو طابعه، أضف لما تمثله بعض التطبيقات التي تحمل معنى التجسس وجمع البيانات والمعلومات بشكل سري عن المنظمات وأنشطتها من خطر فعلي عليها.