دور المنظمات غير الحكومية في صناعة الوعي

د. علاء إبراهيم محمود الحسيني

2024-05-13 06:02

 تلعب المنظمات غير الحكومية شأنها في ذلك شأن العديد من الجهات دوراً محورياً في تكوين أو التأثير بالرأي العام، لذا هي تتحمل مسؤولية أخلاقية ووطنية كبرى في صناعة الوعي الشعبي بخطورة التحديات التي تواجه الدولة والشعب، وفي إنضاج الرؤية الشاملة بالتصدي لما تقدم وفق أسس قوامها الإيمان المطلق بالجماهير وبدورها المحوري في الحياة العامة.

 فالمنظمات غير الحكومية هيئات مدنية قوامها العمل التطوعي الهادف إلى التغيير الإيجابي على جميع الأصعدة، ويمثل الرأي العام واحداً من أهم الوظائف التي تطلع بها المنظمات غير الحكومية لصناعة التأثير الإيجابي الهادف إلى التغيير الحقيقي في جودة الحياة، لذا تعد وظيفة صناعة الرأي العام أو التأثير فيه أو توجيهه الميدان الأنسب لتحقيق الغاية المتقدمة، فهو يمثل رأي الأغلبية أو عبارة عن تعبير واعي يمثل رأي لمجموعة كبيرة من الناس فيما يعتقدون انه الصواب والخيار السليم في مسألة محددة تهم الجميع، على ان يكون هذا التعبير ناجم عن قناعة تلقائية أو نفسية وجدانية أو داخلية وليس من الإملاء الخارجي إزاء حالة أو موقف أو رأي معين أو اقتراح سواء كان ذو طابع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو أمني أو إنساني.

وليس بالضرورة ان يمثل الرأي العام رأي جميع الناس بلا استثناء بل قد يمثل مواقف لنسبة معينة من المجتمع، بعبارة أخرى هو يمثل الحكم الاجتماعي على حالة أو موقف، ويشترط فيه ان يكون رأياً واعياً ينطلق من الأفراد والجمعيات ويعبر عما يعتقدون أو يؤمنون به أو يرونه صحيحاً ينشأ بالغالب عن مناقشة عامة يغلب فيها العقل والمنطق على العاطفة والاستعجال، إذن هو رأي سائد في وقت محدد ومكان معين حين يحتدم النقاش والجدل وتتعارض الآراء وتتعدد الاتجاهات.

 ومن نافلة القول أن هنالك جملة من العوامل التي تؤثر في الرأي العام أهمها:

1- السمات الاجتماعية المتأصلة أو الوراثية: تفخر المجتمعات غالباً بإرثها الحضاري أو الإنساني الذي يمثل هويتها الثقافية ومن شأن هذه الهوية التأثير المباشر أو غير المباشر على خيارات الأفراد بل وحتى الجماعة فيما يعرف بالوعي الجمعي.

2- الانتماء السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديني: لكل دولة وبموجب دستورها هوية اقتصادية واجتماعية وثقافية محددة فالبعض يتبنى النظام الاقتصادي الحر أو الرأسمالي أو الاشتراكي وكذا الأمر بالنسبة للهوية أو الفلسفة الاجتماعية هل هي قائمة على التضامن أم غيره من النظريات الاجتماعية، ولكل ما تقدم تأثير مباشر على الرأي العام وتوجهاته في الحاضر أو المستقبل.

3- البيئة المحيطة بالمجتمع والأفراد: لاسيما ان علمنا ان العيش المنعزل يعد ضرباً من الخيال بالنسبة للمجتمع والفرد، ومن الحقائق التي لاتقبل النقاش ان التأثير التدريجي يأخذ طريقه إلى اللبنات المكومة للمجتمع من فرد وأسرة ومؤسسات أكبر كالعشيرة أو القبيلة حتى المدينة، وكل ما تقدم يتأثر بالبيئة المحيطة وما تفضي إليه من ممارسات فردية أو جماعية وما تحدثه من متغيرات ثقافية عميقة بكل تجلياتها.

4- السمات الذاتية للفرد: وهي الأخرى تمثل عاملا مؤثرا في تكوين أو نضج الرأي فمستوى التعليم والصحة والتنشئة وغيرها من شأنها ان تترك أثراً مستقبلياً قابلاً للقياس في شخصية الفرد.

5- وسائل الإعلام: سواءً منها المرئية والمقروءة والمسموعة والتي تلعب الدور الأبرز في تكوين أو تحريك أو التأثير في الرأي العام، ومن أهم مقومات تأثيرها المقصود بالاتجاه الإيجابي (الاستقلال، المهنية، الموضوعية) فكلما اقتربنا من هذه المحددات أكثر كلما كان الدور المنشود أوضح وأنجع.

6- النقاش الاجتماعي: فبعض النظم تسمح بفتح باب للنقاش والتكامل بين الأفراد لاسيما العادات الثقافية التي تتمثل في التجمعات الصغيرة كالأسرية إلى المتوسطة على مستوى المؤسسات الاجتماعية إلى تلك الأعم والأشمل المتمثلة بالمنظمات الرديفة أو غير الرسمية التي تماثل الهيئات العامة، والتي تديرها منظمات المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية.

والرأي العام له مستويات فقد يكون على المستوى (المحلي) وقد يكون على المستوى (الوطني) وقد يرتقي إلى أن يكون على المستوى (الدولي) أو (العالمي)، وقد يكون هذا الرأي صريحاً مصرحاً به على رؤوس الأشهاد، وتارة أخرى يكون كامنا في النفوس لا يظهر إلا بصورة تصرفات أو انطباعات تستفاد من عمل أو امتناع عن عمل كمقاطعة سلعة أو بضاعة أو جهة أو فئة، ويتبلور كل ما تقدم في النقاشات الخاصة والجلسات غير العلنية.

 ويبرز عندنا في هذا الصدد دور المنظمات غير الحكومية على المستوى المحلي إلى العالمي والتي يمكنها ان تتصدى لإدارة وقيادة الحوار الاجتماعي ايذاناً بالعمل الواعي الساعي إلى التأثير التراكمي في الوعي الفردي أو الجمعي للأفراد الأمر الذي من شأنه ان يحقق انتقاله حقيقية لرأي عام مؤثر.

وللرأي العام أثر مباشر في شرعية السلطة ويمثل ضمانة أكيدة لحماية الحقوق والحريات الفردية فالشرعية تتمثل في اعتقاد غالبية المجتمع السياسي بمشروعية طريقة الوصول إلى السلطة واتفاق هذه الطريقة مع المبدأ الديمقراطي الذي يحتكم إلى إرادة الشعب في الوصول إلى سدة الحكم، بمعنى آخر هي اعتقاد أو إيمان غالبية المجتمع إيماناً راسخاً بان السلطة تمثلهم ونتجت عن خيارهم الحر المباشر وتأتي أعمالها في ضوء ما رسموه من قواعد قانونية تمثل العقد الأساسي بين الحاكم وأفراد الشعب، وإلا فقدت المسوغ الذي يبرر طاعتها والتزام أحكام القواعد القانونية الصادر عنها، فالشرعية ترتبط أشد الارتباط باحترام الحقوق والحريات الفردية والجماعية وبالتالي تأخذ المنظمات غير الحكومية دورها الطبيعي في الآتي:

1- تهيئة الرأي العام وتعبئته باتجاه احترام الحقوق والحريات.

2- صنع رأي عام معارض للسياسات والقرارات التي تنتهك الحقوق والحريات.

3- مناقشة السياسات والقرارات العامة وبيان حيثياتها وأثارها للرأي العام والإسهام المباشر في نقل المعلومات وتعزيز حق الأفراد في تلقي المعلومة.

4- إمكانية الاستفادة من الوسائل التقنية والتكنلوجية الحديثة في صنع الرأي العام على المستوى الالكتروني لاسيما بالاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي التي تتيح جواً عاماً صالحاً للنقاش العام.

5- يمكن لمنظمات المجتمع المدني ان تلعب دوراً في ترشيد الأداء الحكومي وتصويب القرارات العامة وتقييم النجاح من عدمه.

6- يمكن للمنظمات غير الحكومية ان تقدم رؤية مستقبلية وافية لصانع القرار العام، كما يمكنها ان تسهم في دراسة المشكلات العامة وتحديد الأسباب والمقترحات التي يمكنها ان تحد من تفاقم الإشكاليات 

7- أنشطة المنظمات غير الحكومية في مجال تحريك الرأي العام من شأنها ان تحقق الشفافية والمساءلة، وان تعزز النزاهة في المعاملات العامة وتجاوز الأخطاء والمساهمة في تصويبها وتجاوز الأزمات ومنع تفاقم أثارها.

8- يمكن للمنظمات غير الحكومية ان تسهم في التأسيس لمجتمع أكثر انسجاماً وتفاهماً على المستوى الفردي والجمعي بتعزيز الروح الإيجابية في التصدي إلى الشأن العام بنحو من التواصل الفاعل.

وتلعب بعض العوامل دوراً اساسياً في تكوين رأي عام على المستوى الواقعي أو الالكتروني منها:

1- المستوى التعليمي بالنسبة للمتلقين، وبصدد هذه النقطة يعد الدفاع عن الحق في التعليم والقضاء على أمية القراءة والكتابة وكذا الأمية الإلكترونية ممهد لفتح الباب واسعاً باتجاه التأسيس لتأثير متوقع للرأي العام على مسار الدولة وسلطاتها العامة.

2- إتاحة شبكات الاتصال والتواصل للجميع وبلا قيود، ويعضد ما تقدم الإقرار بحق الفرد والجماعة في سرية الاتصالات واحترام الحق في الخصوصية وتقديس الحق في تلقي أو نقل المعلومات وحق الأفراد في شفافية السلطات العامة ونزاهتها.

3- المصداقية فحين يكون النقاش بين الأفراد والهيئات المهتمة بالحقوق والحريات قائماً على أسس من الصدق والأمانة والموضوعية يكون النقاش حقيقيا ومنتجا، بيد ان التدخلات السياسية (والمصالح الفئوية أو الحزبية الضيقة) وحتى الخارجية من شأنها ان تنحرف بالنقاش عن مساره الطبيعي.

4- يمثل النقاش العام الذي تديره المنظمات غير الحكومية فرصة مؤاتية للتحسين في كل الميادين حتى على مستوى الفرد والمجتمع ونقطة الشرع بهذا النقاش برأيي التعريف بالحقوق والحريات الأساسية للفرد والأسرة والمجتمع التي أقرتها الوثائق الدستورية وإعلانات حقوق الإنسان وما تسالمت عليه النواميس الإنسانية.

5- أخيراً ان المنظمات غير الحكومية لا يمكنها لوحدها ان تنهض بالمسؤولية المتقدمة بل الأمر بحاجة إلى ان تعضدها بعض الجهات ومنها:

‌أ- الصحافة والإعلام الحر: القادر على التقصي والكشف الموضوعي عن الحقائق وان يكون صدى للشعب وهمومه وتطلعاته.

‌ب- الأحزاب السياسية التي تعضد المنظمات غير الحكومية في مهمتها السامية بالانتصار لمبدأ شرعية السلطة ومشروعية القرارات العامة.

‌ج- جماعات الضغط: سواء منها الدينية أو الاجتماعية والتي تلعب دوراً حاسماً في ترشيد الرأي العام وتوجيهه.

‌د- مراكز الأبحاث أو الدراسات العلمية التي تمثل جهة ضاغطة لمواجهة التحديات واقتراح الحلول.

ونذكر ان المهمة الكبيرة المتقدمة تكتنفها بالحقيقة والواقع بعض الصعوبات التي تحد من دور المنظمات غير الحكومية في تبوء مركز القيادة في التأثير بالرأي العام وصناعة التغيير منها، قلة التشريعات العراقية التي تعالج دور المنظمات في تقفي أثر الحقائق وإتاحة الفرصة أمامها لتكون شريكاً في مكافحة الفساد الإداري والمالي أو في رسم السياسات، أو في قياس أثر القرارات العامة، وضعف التنسيق مع دوائر الدولة والقطاع العام لإطلاع المنظمات غير الحكومية بالشراكة مع تلك الجهات في دراسة الإشكاليات واقتراح البدائل والحلول، والأهم من كل ما تقدم غياب الوعي الجماهيري بمحورية دور المنظمات غير الحكومية.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2024

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

كيف تتخلص من الفخ الدنيوي؟مركز آدم ناقش الحق في الخصوصية الجينيةماهي فدك ولماذا انتزعت من السيدة الزهراء (ع)؟أسباب فوز دونالد ترامب والتداعيات المحتملةتجربة المسفرين العراقيين وتجربة اللاجئين اللبنانيين