تعرف على..! "معلومات استثنائية" عن خفايا الصحافة الاستقصائية
دلال العكيلي
2016-05-14 12:17
ليست الصحافة الاستقصائية تغطية عادية لخبر ما، فهي كشف أمور خفية للجمهور إما اخفاها عمدا شخص ذو منصب في السلطة، أو اختفت صدفة خلف رُكام فوضوي من الحقائق والظروف التي اصبح من الصعب فهمها، وتتطلب استخدام مصادر معلومات ووثائق سرية وعلنية، لذا يقدم لكم مركز النبأ الوثائقي معلومات مهمة وشاملة حول الصحافة الاستقصائية وخباياها في العالم.
مفهوم الصحافة الاستقصائية
تعتمد التغطية الإخبارية التقليدية بصورة عامة وأحيانا كليا على مواد ومعلومات وفرها آخرون (في الشرطة والحكومات والشركات العامة والخاصة.. الخ) وتعتمد على جمع ردود فعل متعددة حيالها، وعلى العكس من ذلك تعتمد التغطية الاستقصائية على مواد جُمعت بمبادرة شخصية من الصحفي ولهذا فإنها تسمى أحيانا كثيرة "تغطية المشروع".
"تغطية المشروع" أو الصحافة الاستقصائية ليسا فقط الاسمين اللذين يطلقان على هذا النوع من الصحافة، فأحيانا يتم استخدام مصطلح "تغطية القضايا المتعلقة بالخدمات العامة" بالتبادل مع مصطلح "الصحافة الاستقصائية" فتقارير القضايا المتعلقة بالخدمات العامة تقارير استقصائية بطبيعتها حيث إنها تتطلب البحث العميق للوصول إلى نتائج تهم وتؤثر على المجتمع، وكذلك فإن الصحافة الاستقصائية دائماً تخدم الجمهور من خلال الكشف عن معلومات مهمة.
ويمكن القول هنا بان الصحافة الاستقصائية هي ذلك النوع من الصحافة الأكثر إرضاء وإثارة وهي ايضا الأكثر تطلبا فيما يتعلق بالوقت والعمل الجاد، وغالبا ما تتمخض التقارير الاخبارية عن تغييرات حقيقية تؤثر على حياة الناس والتي قد تشتمل في بعض الاحيان على تعديل للقوانين وتقديم المعتدين إلى العدالة وتصحيح أخطاء.
وفي الوقت الذي يصبح فيه من المهم كشف الفساد الحكومي وفضح تزوير الانتخابات مثلا، فإن الصحافة الاستقصائية تتجاوز حدود الكتابة بساطة عن هذه القضايا، انها طريقة في التفكير ومنهجاً وأسلوبا تتبعه الصحافة في العالم.
النشأة والتطور
ظهرت الصحافة الاستقصائية مع بداية تطور مفهوم ودور الصحافة في المجتمع واتجاهها في التركيز والتحري عن قضايا معينة تحدث في المجتمع، خاصة جوانب الانحراف والفساد ولهذا ظهر نوع جديد من التغطية الصحفية سمى بالصحافة الاستقصائية Investigative Journalism وسمى محررو هذا اللون بـ: Muck Rekers أو المنقبون عن الفساد. وقد أطُلق هذا الاسم على مجموعة الصحفيين الذين قادوا حملات صحيفة مهمة ضد الفساد خاصة عام 1901، حين أدى التوسع الصناعي السريع بعد الحرب الأهلية إلى الكثير من أنواع الظلم وكانت الاحتكارات موضع قلق عام، وراي فيها بعض المراقبين تحالفا غير سديد بين التجارة والسياسة.
واعتمد هؤلاء الصحفيين الملقبين بالمنقبين عن الفساد في حركتهم الصحفية على نشر التحقيقات الصحفية الكاشفة المبنية على وثائق رسمية وخاضعة لمراقبة الخبراء، وبرزت حركة المنقبين عن الفساد كقوة مهمة عام 1906، ثم بلغت قمة النجاح عام 1911 ، ثم تبددت عام 1912 حيث بدأ الجمهور يبتعد عنها، وكذلك تعرضت الصحف لكثرة الضغوط المالية، مما أدى إلى اختفاء هذا اللون من الصحافة.
ولكن يرجع إلى هذا النوع من الصحافة الفضل في العديد من الإصلاحات التي تمت في المجتمع الغربي، ومع مطلع السبعينيات من القرن العشرين بدأت الصحف الأمريكية بشكل متزايد في تشجيع المحررين ذوى الخبرة على التحرر من القصص الروتينية حتى يستطيعوا معالجة القضايا والموضوعات ذات المغذى التي تتطلب وقتا أكثر وخبرة، حيث لعب المراسلون أدوارا حاسمة في كشف ما يُعرف فيما بعد بأخطر فضيحة
في فترة ما بعد الحرب الثانية حيث تابع الصحفيون في واشنطن قرائن خلفتها سرقة في مبنى للمكاتب في "ووترجيت" وواصلوا تحرياتهم إلى أن أوصلتهم تحرياتهم إلى البيت الأبيض، وقد دفعت التقارير الأخبارية الخاصة بالسرقة، الكونجرس الأمريكي إلى بدء تحقيقات أدت في نهاية الأمر إلى استقالة الرئيس الأمريكي،"ريتشارد نيكسون"من منصبه بعد إدانته هو وكبار معاونيه عام1974، وأشهر المحررين الذين قاموا بالتغطية الاستقصائية، كلا من Bbwood ‘Ward Cary Bernstein ‘ بجريدة الـ Washington Post.
انتشرت الصحافة الاستقصائية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة السبعينات من القرن العشرين لأسباب متعددة منها:
الدعم المالي الذي حصلت عليه الصحافة في أوائل السبعينات، إذا كان التخطيط لذلك قد بدأ منذ عام 1968 بشكل غير منتظم، وأصبح هناك منظمة أو صندوق مستقل هو Fund Of Investigative Journalism، يموله المؤسسات والأفراد، وقد نجح هذا الصندوق في تمويل أكثر من 60 مشروع تغطية استقصائية خلال الفترة من سبتمبر عام 1971 وحتى سبتمبر 1973، كشفت عن أوجه نشاط قابلة للمناقشة تتصل بالأوضاع المريبة في النشاط الاقتصادي والحياة السياسية، وعن فساد الحكومة.
وفي عام 1976 تأسس اتحاد المندوبين والمحررين الاستقصائيين " IRE" Investigative Reporters & Editors كجماعة صحفية لا تهدف إلى الربح، وذلك على يد مجموعة من المحررين الاستقصائيين بهدف تشجيع الصحافة الاستقصائية وتنميتها, وخطط لتطوير مركز للموارد يضع خدمات ونشرة إخبارية عن الموضوعات الاستقصائية إلى جانب دليل للخبراء وبعض الخدمات الأخرى, ومع نهاية عام 1976 شكلت الجماعة فريق عمل صحفي بقيادة محرر جريدة Newsday الشهير Robert Green لإجراء تغطية استقصائية عن الجرائم التي أدت إلى اغتيالBallston محرر جريدة Arizona Republic الذي كان يقوم باستقصاء نشاط الجريمة المنظمة في ولايته, أريزونا، حيث وضعت قنبلة في سيارته، ومنذ ذلك الوقت يتعرض الصحفيون المنقبون عن الفساد للخطر من أجل تعزيز الشفافية والحكم المسئول والتصرف المشترك والحد من الفساد، وقد اغتيل ثمانية وستون صحفيا عام 2001ويرجع سبب اغتيال خمسة عشر صحفيا منهم إلى أعمال استقصاء عن قضايا الفساد وهذا رقم ينذر بالخطر.
وتستخدم الصحافة الاستقصائية الآن بشكل متسع في مجالات كشف الفساد في المجتمع وتقديم الرؤية الاستقصائية الشاملة التي لا تستطيع أن تقدمها وسائل الإعلام الأخرى، وقد صاحب هذا نموا متزايدا في توظيف الحاسبات الإليكترونية لأغراض تصنيف المعلومات والبيانات الكثيرة التي يحصل المحررون الاستقصائيون عليها، وتحليلها بشكل يساعدهم على الوصول إلى خلاصات كمية دقيقة وقد ساعد على ذلك انتشار استخدام المؤسسات الحكومية والمؤسسات الخاصة للمحاسبات الإليكترونية في تخزين المعلومات وتصنيفها واسترجاعها مما أتاح إمكانية الحصول عليها بنفقات قليلة أو بدون نفقات على الإطلاق.
ورغم النجاح الذي حققته الصحافة الاستقصائية خلال السنوات السابقة في الولايات المتحدة الأمريكية وتفجيرها لأخطر فضيحة أمريكية "ووترجيت" إلا أن الوضع قد تغير بعد انقضاء ثلاثة عقود على هذا الإنجاز، فلم تعد الصحافة الاستقصائية النجم الأكثر تألقا في أمريكا، ففي الوقت الذي ظلت فيه الصحافة تفخر بما قامت به خلال سنوات ما بعد ووترجيت، بدأت تنتشر موجة من التشاؤم حول الأوضاع الصحفية في الولايات المتحدة الأمريكية، نظرا للتوسع في تركيز وسائل الإعلام في عدد قليل من الشركات الضخمة، والاتجاه إلى إدخال الإثارة في التغطية الإخبارية مما استنزف النشاط الذي تتطلبه عمليات الاستقصاء في الميدان الصحفي, بجانب ضغوط إدارة الأعمال التي تعوق القيام بنشاطات صحيفة استقصائية.
فمثل هذه النشاطات تتطلب تخصيص أوقات طويلة وموارد بشرية ومالية كبيرة، كما أن احتمال تسبب التقارير الصحفية في دعاوى قضائية مكلفة يقلق المؤسسات الصحفية في دعم حملات الاستقصاء ‘ولكن هذه العوامل لم تؤثر على عدد التقارير الاستقصائية التي تم نشرها خلال العامين الماضيين في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد نشرت صحف المدن الرئيسية تقارير كشفت عن حالات فساد، وظلم، وسوء إدارة.
أخلاقيات الصحافة الاستقصائية
يقول براء الخطيب وهو كاتب وروائي مصري أن الصحفيين الاستقصائيين تعرضوا الى انتقادات كبيرة حول "المعايير الأخلاقية" التي يجب الالتزام بها وحول "شرعية" الجهات التي تمولهم وتمول حملاتهم الصحفية ولا بد من الحرص على أن تكون "جهات التمويل" هذه "علنية" و"ليست ذات أغراض مشبوهة" وغرضها الأساسي هو "التخلص من الفساد والفاسدين" في أي مكان من العالم و"عدم الكيل بمكيالين" وأن تتمتع بـ"شفافية" حقيقية، ولما كانت "الصحافة الاستقصائية" تهدف في الأساس إلى حماية المجتمع وتحذيره من المخاطر التي تحيط به، مع إيجاد المعالجات التي تهم صانع القرار ، فهي رديف أساسي في مكافحة الفساد، وإحدى ثمار الحرية الصحفية في النظم الديمقراطية، والنظم التي تعمل على الوصول إلى درجة مرتفعة من الحكم العادل عبر "حرية التعبير" التي تكفلها النظم الديمقراطية المحترمة التي تحترم نفسها أولا قبل أن تحترم شعوبها.
ويقول سيلفيو وايزبورد أن معظم المناقشات التي دارت بين خبراء الإعلام في السنوات الأخيرة حول أخلاقيات الصحافة الاستقصائية تركزت على المنهجية، اي ، هل هناك اي أسلوب صالح للكشف عن التصرفات الخاطئة؟, هل يعتبر اللجوء إلى الخداع شرعيا عندما يهدف الصحفيون إلى قول الحقيقة؟, هل يمكن تبرير اللجوء إلى أسلوب معين إذا كانت ظروف العمل وصعوبات الحصول على المعلومات تستدعى ذلك؟, هل يجوز للصحفيين استعمال هويات مزيفة من أجل الوصول إلى معلومات.
ويبرز بالنسبة إلى هذه النقطة "أساليب الحصول على المعلومات" عامل مهم يجب أخذه في الاعتبار، وهو أن الجمهور يبدو أقل رغبة من الصحفيين في قبول اي سلوك كان للكشف عن التصرفات الخاطئة، فقد أظهرت استطلاعات الرأي داخل المجتمع الأمريكي أن الناس ينظرون بعين الريبة إلى عمليات انتهاك الخصوصية مهما كانت أهمية اي قضية إخبارية لهم ويظهر ذلك بوضوح كبير في دول عديدة حين تهبط مصداقية الصحافة إلى أدنى درجة لها. ولا تقتصر القضايا الأخلاقية في الصحافة الاستقصائية على أساليب الحصول على المعلومات
فالفساد كما يقول ألاسدير سوذرلاند يشكل أيضا قضية أخلاقية مهمة أخرى في الصحافة ويشمل أشكالا متنوعة من الممارسات تتراوح بين قبول الصحفيين للرشاوى أو امتناعهم عن نشر تقارير معنية، أو دفع هم أموالا لمصادر المعلومات، ويشير إلى أن هذه القضايا غير الأخلاقية في الصحافة منتشرة في جميع أنحاء العالم خاصة في جنوب شرق أوروبا وأميركا اللاتينية والدول النامية.
كما تؤكد الدراسة الميدانية التي قام بها الاتحاد الدولي للعلاقات العامة إلى عدم وجود منطقة في العالم تتمتع بمناعة ضد هذه الممارسات الفاسدة في وسائل الإعلام،
وقد تم نشر الدراسة خلال شهر يوليو عام 2002 وقد تم جمع الدراسة من 242 أخصائيا في العلاقات العامة والاتصالات من اربع وخمسين دولة معظمهم من أصحاب الوظائف الكبيرة في مؤسسات استشارية محلية أو دولية، وقد أدلوا بمعلومات عن رؤيتهم لماهية الأشخاص الذين يحددون فحوى المقالات الصحفية. كشفت الدراسة الميدانية أن 63% من الذين شملهم الاستطلاع في شرق أوروبا يعتقدون أن الصحفيين يتلقون الرشوة نظير محتوى المقالات الصحفية وهذا الأمر شائع في بلدانهم، في حين أن حوالى40% ممن شملهم الاستطلاع في أوروبا الجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط يعتقدون أن المحتوى يتأثر بالرشوة بشكل عام.
كما ظهرت في السنوات الأخيرة الكثير من الانتقادات الموجهة إلى وسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأميركية بأنها لا تقوم بدورها في كشف الانحرافات والفساد وسوء استغلال السلطة، وإن الفساد يضرب بجذوره في الكثير من المؤسسات الأميركية لكن وسائل الإعلام لا تستطيع الكشف عن ذلك نتيجة لسيطرة الشركات متعددة الجنسية على وسائل الإعلام والتأثير المباشر على التغطية التي تقوم بها وسائل الإعلام وظهر ذلك واضحا في فضيحة شركة، إنرون ، وما تبعها من وجود روابط لا أخلاقية بين الصحفيين الماديين والشركات كان من نتائجها، تغطية نشاط الشركة دون أية انتقادات.
وكان "إيروين ستلزر المحرر في صحيفتي ويكلى ستاندرد الأميركية وصانداي تايمز اللندنية قد اثنى في نوفمبر عام 2001 على شركة إنرون لأنها تقود حرب التنافس، ثم كشف علانية ارتباطه بـإنرون، وبوليم كريستول رئيس تحرير الويكلي ستاندارد ولم يصرح ستلرز عن المبلغ الذى كان يقبضه نظير عمله مع الشركة، إلا أنه قد كشف عن تلقى كريستول أكثر من مائة ألف دولار أميركي نظير عمله كمستشار للشركة، ولمكافحة مثل هذه النشاطات الفاسدة بدأت بعض مجموعات وسائل الإعلام، إلزام الصحفيين بمعايير أخلاقية ففي روسيا يوزع اتحاد الصحافة بطاقات صحفية فقط على مؤسسات الإعلام والصحفيين الذين يتبنون نظامه السل وكى الرسمي الذي يدين ممارسات الفساد ويؤمن باستقلال التحرير.
مراحل العمل الاستقصائي
1- نكتشفُ موضوعاً: كثيراً ما يسأل الإعلاميون المبتدئون: «كيف نختار قصة لنستقصيها؟» فكثيراً ما يجدون صعوبة في العثور على واحدة من تلك القصص. تتمثل إحدى هذه الطرق في مراقبة وسائل الإعلام. فبشكل عام، من الأفكار الجيدة مراقبة قطاع إعلامي معين، كي تستطيع البدء بتحديد أنماطه، فتدرك، بذلك، متى يحدث أمرٌ غير عادي، وتتمثل طريقة أخرى في انتباهك لما يتغير في بيئتك، وأن لا تعتبر التغير أمراً عاديّاً.
بدأ الإعلامي البلجيكي العظيم كريس دو ستوب Chris de Stoop استقصاءً بالاستماع إلى شكاوى الناس وأخيراً، لا تبحث فقط عن أفعالٍ خاطئة، فكثيرا ما يكون أكثر صعوبة أن تقوم بتغطية أفضل حول شيء يجري بشكل صحيح – كفهم موهبة جديدة، أو مشروع تطوير حقق أهدافه، أو شركة تخلق ثروة ووظائف.
2- نطرح فرضيَّةً لنستقصيها: يتذمر الإعلاميون دائماً من أن المحررين يرفضون أفكارهم القصصية العظيمة، من المؤكد أن ذلك يحصل ولكن ما يرفضه المحرر، في الأغلب، ليس قصة على الإطلاق، بل دعوة لمصيبة – تحقيقاً خُطِّط له بشكل سيء وسوف يصرف مالاً ووقتاً لنتيجة مشكوك فيها. وهم محقون في ذلك.
مزايا الاستقصاء القائم على الفرضية:
أ- يمنحكَ أسلوب الفرضية شيئاً لتتحقق منه، بدلاً من محاولة كشف سرٍّ ما. الناس لا يكشفون أسرارهم بلا سبب وجيه. وهم أكثر استعداداً لتأكيد المعلومات التي بحوزتك لأن الناس يكرهون الكذب. فالفرضية كُمتنكَ من أن تسألَ سؤالا محددا لكي تؤكدَ شيئا ما. وهي تضعكَ أيضاً في موقف المُنفتح على اكتشاف وجود أكثر مما هو موجود في القصة التي اعتقدت أنه موجود فيها في البداية، لأنك مستعدٌّ لقبول وجود حقائق أبعد مما ظننت أنها موجودة عندما بدأت العمل الاستقصائي
ب-تزيد الفرضية فُرصك في اكتشاف أسرار. إن كثيراً مما ندعوه «أسراراً » هو، بكل بساطة، حقائق لم يسأل أحدٌ عنها أبداً. للفرضية أثر نفسي يجعلك أكثر حساسيّة واستشعاراً للمادة، بحيث تستطيع أن تسأل تلك الأسئلة بطريقة واضحة. فكما قال المُستقصي الفرنسي إدوي بلينل Edwy Plenel ، “إذا أردت العثور على شيء، عليك البحث عنه.”
ج-الفرضية تجعل إدارة مشروعك أكثر سهولة. بعد أن تكون قد عرَّفت وحددت ما تبحث عنه، وأين تبدأ البحث عنه، تستطيع تقدير الزمن الذي تتطلبه خطوات الاستقصاء الأوليّة. تلك هي الخطوة الأولى للتعامل مع الاستقصاء كمشروع تستطيع إدارته. وسوف نعود إلى هذه النقطة في نهاية هذا الفصل.
د-الفرضيَّاتُ أدواتٌ تستطيع استخدامها مراراً وتكراراً. عندما تعمل ضمن طريقة منهجية، ستشعر قطعا أن مهنتك تتغير. وأكثر أهمية من ذلك، ستتغير أنت. فلن تحتاج بعد ذلك شخصاً يقول لك ما عليك فعله. وسوف ترى ما يجب فعله لمواجهة بعض فوضى ومعاناة هذا العالم، وستكون قادراً على تحقيق نتيجة عبر لفت أنظار الرأي العام والمسؤولين. ألم تصبح صحفياً لأجل ذلك في المقام الأول؟.
ه-عملياً، تضمن الفرضية أنك ستسلّم قصة، وليس فقط كمية من المعلومات. تذكر أن المحرّرين يريدون ضمان الحصول على قصة لينشروها بعد صرف فترة زمنية محددة واستثمار موارد محددة من خلال عملك الاستقصائي. والفرضيّة تستطيع أن تزيد فرصة الوصول إلى تلك النتيجة بشكل أكبر. إنها كُمتِّنُكَ من توقّع حدٍّ أدنى لعملك وحدٍّ أقصى، وبالمثل توقع الأسوأ.
3- نسعى إلى الحصول على معلومات مصدر علني لنتحقق من الفرضيَّة، أنواع المصادر “العلنية”؟, في العالم المعاصر، المصادرُ العلنيةُ لا نهاية لها، وهي تشمل: المعلومات التي نُشرت في أي وسيلة إعلامية يسهل الوصول إليها بحرية. وعادة ما يمكن الوصول إلى هذه المعلومات في مكتبة عامة أو في أرشيف الوسيلة الإعلامية المعنيَّة؟.
- الأخبار(الصحف، المجلات، التلفزيون، الراديو، الإنترنت).
- منشورات متخصصة تخص الاتحادات، الأحزاب السياسية، النقابات، إلخ).
- المنشورات الأكاديمية من دراسات وأبحاث.
- وسائل إعلام مشتركة متخصصة (مثل منتديات مستخدمي الإنترنت،المحللين الماليين، نشرات أو مجلات النقابات، مجموعات الاحتجاج، إلخ).
إستراتيجية المصادر العلنية للاستقصاء
ما تعنيه المصادر العلنية لمنهجنا الاستقصائي هو التالي: بدلاً من السعي إلى مصادر تَعِدُنا بمدخل إلى أسرار، فإننا نستخرج من حقائق متوفرة لنا ما قد يكون سرا. وتبدو العملية كلها كالتالي:
أ- نبدأ ببضعة مؤشرات حقائق.
ب-تجعل الحقائق التي لا نعرفها فرضيّات.
ج-نسعى إلى تأكيد فرضيّتنا من مصادر علنية.
د-نسأل أشخاصاً يمكنهم إكمال المعلومات التي عثرنا عليها في مصادر علنية.
ه-نسعى إلى جمع مصادر بشرية
توجد المعلومات الأكثر إثارة عادة في ذاكرة وعقول الناس وليس في المصادر العلنية. فكيف نعثر على هؤلاء الناس؟، كيف نجعلهم يقولون لنا ما يعرفونه؟, لا تقلِّل من قيمة هذه المهارات. فليس كل شخص يملكها، وعملُكَ كصحافي مُستقصٍ سوف يطورها إلى درجة عالية.
ولكن، لا تُسئ استخدامها أيضاً, ولا تنْسَ أبداً أنك قد تؤذي، كصحفي، بعض الناس في مشاعرهم، في أرزاقهم، وحتى في سلامتهم الشخصية. تأكد أن لا تؤذيهم لمجرد أنهم كانوا على درجة من السذاجة في تعاملهم معك وكلامهم إليك.
- رسم خريطة للمصدر
تتلخص الطريقة التي يستعملها معظم الإعلاميين التقليديين العاملين في مجال الأخبار ومتابعة ارتداداتها في العثور على شخص قادر على أن يوفر لهم اقتباسات يستطيعون استعمالها في إعداد تقاريرهم. غالبا ما يجدونهم من خلال قيامهم بقراءة أول قصة نُشرت حول موضوع معين، والتقاط أسماء الأشخاص المُستشهَدِ بهم فيها، والاتصال بهم. مثلُ هذه المصادر قد تتلقى مئات المكالمات في يوم واحد.
فهل سيقولون شيئاً جديداً للمُتَّصِل المائة، هذا إذا رفعوا سمَّاعة الهاتف أصلاً؟ كلا. ولذا، لماذا لا يتم البحث عن شخص آخر لم يقم أحدٌ بطرح أسئلة عليه؟ سيزوِّدُكَ مصدرُكَ العلني بقائمة من الأسماء الأكثر أهمية لتتصل بهم. وعلى سبيل المثال، لتستقصي شركةً فقد تبدأ بقراءة تقاريرَ مُحلِّلين ماليين تصف وضع الشركة ووضع أقوى الشركات المنافسة لها,
بعد ذلك، تحدَّث مع ا لُحلملين، ومن ثمَّ مع المنافسين, من خلالهم، ومن خلال وسائل الإعلام التي تغطي عالم الصناعة والمال، أعثر على أشخاص تركوا الشركة، إما لوظائفَ أخرى، أو للتقاعد وجد سيمور هيرش العديد من مصادره عن المخابرات المركزية الأمريكية من خلال تتبع إعلانات التقاعد ومن خلال هذه المصادر، اعثر على أناس لا يزالون في الشركة ويرغبون في الكلام. ننصحك أن ترسم خريطةَ مصادر بسيطة بأسرع ما تستطيع. فالخريطة تمثيل مرئي لكل الناس المنخرطين، أو الذين قد ينخرطون، مباشرة في قصَّتك. تبدو الخريطة مثل البيوت في قرية يعرف كل واحد من أهلها كل واحد آخر، والقرية هي المكان الذي تدور فيه أحداث القصة.
- إعْطِ المصادرَ أسباباً لتتكلم قد يكون عند الناس الذين لديهم حقائق أو قصص ليرووها أسبابً قويَّةً لعدم إجابتهم عن أسئلتك. فبمعنىً عام، هم لا يعرفون إن كنتَ مُحترفاً ومسؤولاً ومُنصِفاً وعديد من الإعلاميين ليسوا كذلك وحتى إن كُنت كذلك، فإنهم لا يستطيعون تقييد ما سوف تفعله بمعلوماتهم التي يعتبرونها قيِّمة.
وأخيراً، قد يؤدي استخدامك للمعلومات إلى الإضرار بمهنهم أو علاقاتهم أو حتى سلامتهم الجسديَّة.
- الاتصالات الأولى: التحضير والدعوة
التحضير للقاء
القيام بالاتصال
مكان اللقاء
- بَدْءُ العلاقة: أهداف وأدوار
في عالم الأخبار، كثيراً ما تكون العلاقات مع المصادر شبيهة بعلاقة تدوم لليلة واحدة تترك شريك الغرام مستاءً وهذا الأمر صحيح بخاصة في مشهد كارثة، حيث يصل كثير من الإعلاميين، فيقلبون كل شيء في الموقع، ومن ثمّ يغادرون بعد أن يكونوا قد علَّقوا على سوء الطعام والشراب المحليين وسوء تصرف الناس.
طبعاً، لا يحاول المُستقصون أن يكونوا عشَّاقاً مثاليين. ولكن المصادر تسعى دائماً إلى علاقات مستقرة طويلة الأمد. ولذا، فإن بداية العلاقة لحظة مفتاحيَّة، تعَرِّفُ عموماً ما سيلحقُ؟.
5- نجمع المعلومات، نُنظمها – كي يكون سهلاً تفحُّصَها، وتأليفها في قصة وتدقيقها
يتطور البحث الاستقصائي إلى مادةً أكثر بكثير مما تنتجه تغطية الأخبار التقليدية، ويجب أن تكون هذه المادة مُنظمة بفاعلية على أسس مستمرة.
وهذا العمل التنظيمي هو جزءٌ من عملية منهجية للكتابة والنشر. فأنتَ لا تقوم بالبحث، ثمَّ تُنظِّم، ثمَّ تكتب. بدلاً من ذلك، أنت تُنظِّمُ وأنت تبحثُ، وهذا التنظيم يُجَهِّزُ الأرضية لعمليَّة الكتابة إن لم تأخذ الوقت الكافي لتنظِّم، سوف تحتاج، في النهاية، إلى ضِعف الوقت لتكمل المشروع (وذلك حدٌّ أدنى(، وسوف يكون عملك صعباً عند كتابة القصة وشرحها والدفاع عنها. إلى جانب ذلك، لن تحظى بالمتعة، لأنك ستكون قلقاً طوال الوقت وغير مُنظم ومتوتراً ومحبطاً ولذا، إليك بعض الخطوات السهلة التي يمكن أن تجعلها جزءا من روتين خاص بك.
بناء قاعدة معلومات
1-إجمع الوثائق.
2-راجع الوثيقة كي تُقيّمَ محتوياتها.
3-إعْطِ كل وثيقة عنواناً أو رقماً.
4- ضع الوثائق في ملفاتها.
5-راجع الوثائق دوريَّاً.
6-نَقِّلْ الوثائق بين الملفات.
7-إذا كانت الوثائق حسَّاسة، جهِّز نسخاً احتياطية منها واحتفظ بها في مكان ليس بيتكَ أو مكتبك.
تنظيم المعلومات: عَمَلُ ملفٍّ أساس
إقامة صلات بين الملفات
بِجَعْلِكَ وثائِقَكَ أسهل على الجمع والتتبع والمراجعة، تجعلُ من السهل على عقلك إقامة صلات بين المعلومات. وسوف تلاحظ بالتأكيد أن المعلومات تثير أسئلة لم تتم الإجابة عنها. إذاً يُخبركَ أرشيفك بنوع المعلومات التي يحتاجها ليكتمل. وسوف تُصبح أيضاً أكثرَ حساسية للمعلومات الجديدة التي لها علاقة بفرضيَّتك، ولذا ستصل إلى اكتشافات غير متوقعة.
6- نضع المعلومات بترتيب سرديٍّ ونؤلِّفُ القصَّةَ
لا تُشبهُ كتابةُ قصةٍ استقصائيةٍ كتابةَ قصةٍ إخبارية. فيصبح المطلوب مهاراتٌ مختلفة وقواعدُ مختلفةٌ لا تشملها كتابة الأخبار، أي استخدام قواعد السرد بطرق أكثر تعقيداً. فعلى الإعلامي أن يقوم، في الوقت نفسه، باستخدام عناصر الكتابة القصصيَّة وتجنُّب كتابة قصة خيالية. وأخيراً، تدخلُ حالتك العاطفية.
عناصر اسلوب البحث الاستقصائي
أ-لا تكن مُمِلاًّ وتذكَّر أن الأسلوب البسيط يمكن أن يُكتب بطريقة تجعله أكثر تعقيدا. أما الأسلوب المُعقَّد فمن الصعب أن يُبَسَّط.
ب-خَطَرُ الشَكِّ يُعَامَلُ معظمُ الإعلاميين كتوابع أو كمستضعفين من قبل مصادرهم من أصحاب الثروة أو النفوذ. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل بعضَ الإعلاميين يفقدون الثقة بأنفسهم أو بعملهم. وكثير من الناس يصبحون صحافيين لمجرد أن يقابلوا أشخاصا يعتقدون أنهم أكثر إثارة ونشاطاً وأهمية منهم.
ج-كن قاسياً، وليس مقززاً يمكن للتوتر الذي يخلقه إجراء استقصاء وإنهاؤه، أن يقود إلى الإرهاق والإحباط والغضب. وكل هذه تقود إلى خطرِ أن يتبنَّى الإعلامي لهجةً عدوانيةً مُهينة كآلية دفاع عن النفس، ولكنها تشير إلى ضعف عند المشاهد والمُستهدف بالاستقصاء، وإلى سوء نيَّة إذا رُفعت على الإعلامي قضيّّة تشويه سمعة في محكمة.
7- نقوم بمراقبة النوعيَّة لنتأكد من أن القصة صحيحة
لقد قُمتَ ببحث حول القصة، ونظّمتها وكتبتها. والآن دعنا نتأكد من أننا قمنا بما قمنا بة بشكل صحيح قبل أن تنشر أو تذاع. وهذا الأمر يشمل مراقبة النوعيّة، أو بتعابير تكنيكية، «التدقيق في الحقائق .
في جميع أنحاء العالم، تشمل أفضل فرق الاستقصاء شخصاً – مُحرِّراً أو حتى مُدَقِّقَ حقائقَ متفرِّغاً – وظيفته أن يُرشد عملية التأكد من أن استقصاءً ما قد نُفِّذ وأُلِّفَ بشكل كامل. في حال أنجز التحقيق بالتعاون من شبكة أريج فإن الشبكة توفر لكل مستقصٍ مشرفاً يقوم بهذه المهام للتأكد من أن المنتج النهائي يضاهي بجودته أفضل الممارسات العالمية المقبولة. وتُوجدُ أربعةُ مكونات لعملية التدقيق هي:
- الأولُ هو التأكد من أنك، في الحقيقة، تروي قصة حقيقية – ليس فقط قصة تكون فيها كل حقيقة صحيحة. بل قصة تضيفُ حقائقُها شيئاً إلى حقيقة أكبر. فإذا كان تفسير بديلُ يعني أكثر مما يعنيه تعليلُكَ، فثمةَ أمرٌ خطأٌ في عملكَ. -بعد ذلك، تتأكد من أنك تعرف مصدر أو مصادر كل ما يؤكد حقائق القصة. -وأثناء عملية التحقيق من مصادرك، دُحتِّدُ الأخطاءَ الموجودةَ في الحقائق المُعيَّنَة وتُصححها. - وفي الوقت نفسه، تُزيلُ الضجة العاطفية من قصتك – الإهانات غير المبررة، العدوان أو العداء الذي شق طريقه إلى سردِكَ حين كنت مرهقا أو محبطاً أو خائفاً.
8- ننشرُ القصة، وندعمُها وندافعُ عنها
والآن سوف تنشرُها بطريقةٍ تثيرُ أكثر ردود فعل ممكنة وحراكا. - إضمنْ أن القصةَ مُحرَّرَةٌ بشكل جيد. فقد يُدمِّرُ المحررون غير الخبراء بالاستقصاء أثر قصة بقَصِّ الحقائق الخاطئة. فكن مستعدَّاً للقتال لما هو مهمٌّ، وللتنازل عمّا ليس مهمَّاً.
- إضمنْ أن القصة مُوضَّحةٌ فوتوغرافيَّاً وبيانياً بشكل ملائم. فالصور أو الرسوم البيانيَّة الضعيفة أو الغائبة ستجعل القصةَ عصيَّةً على الفهم وأقلَّ جاذبيَّةً.
- إضمنْ أن تحملَ القصةُ عناوينَ جيدةً. - لا تدعْ مُحرِّرَاً يكتب عنواناً يسيء تمثيل عملك أو يُعلنَ شيئاً ليس في القصة.
- قاتل لتحصَلَ على الحد الأقصى من لفت الانتباه والمكان الأفضل في وسيلة الإعلام لقصَّتك.
كيف تنجز البحث الاستقصائي بسرعة؟
يفترض معظم الصحفيين أن إعداد تقرير استقصائي وكتابته من المهام الصحفية الصعبة، التي تستهلك كمًّا كبيرًا من الوقت، إلا أن الصحفي المتخصص في مجال الصحافة الاستقصائية وأحد أهم صحفييها على مستوى العالم "مارك لي هانتر" لديه بعض المفاتيح والأدوات التي تجعل الصحافة الاستقصائية غير مهدرة للوقت.
في ورشة عمل عقدت لأكبر تجمع للإعلاميين العلميين بالعالم، ، حاول هانتر أن يلخص أهم السبل والأدوات التي يستطيع بها الصحفي إنجاز تقريره الاستقصائي في أقل وقت ممكن.
"كونك في بلد نامٍ لا يعني أنه من الصعب عمل تحقيقات استقصائية بسبب ضعف الشفافية أو عراقيل إتاحة المعلومات" هكذا يرى هانتر أن الصحفي "عادة يجد معلومات أقل مما يطلب، غير أنها غالبا تكون أكثر مما توقع"، أي قد يجد معلومات كثيرة ربما لا تكون هي تلك التي راي أنه يحتاجها، إلا أن المعلومات المتاحة قد تفيد بشكل لم يكن بالتحديد ما خطط له الصحفي.
ويوضح هانتر أنه على الصحفي بداية أن يبدأ تحقيقه بفرضية، تمامًا كما يفعل الباحث عندما يبدأ بحثه العلمي، فيبدأ بتجميع معلومات مبدئية ثم يتأكد من صحتها، ومن ثم يبدأ في كتابة الفرضية فقط في ثلاثة أسطر مركزة ومحددة؛ ليبني على تلك الفرضية بحثه فيما بعد.
"لتجد شيئًا يجب أن تكون قد قررت البحث عنه"، ولتعرف عمَّ تبحث ابدأ بتفنيد فرضيتك، وضع منها مجموعة من الأسئلة، محددا ماذا حدث ومن تسبب فيما حدث، ثم ابدأ في الإجابة على أبسط تلك الأسئلة وأسهلها وأسرعها، واترك الأسئلة الصعبة للنهاية، "اطرق الأبواب المفتوحة أولاً، ولا تلجأ إلى المغلقة في البداية"، هكذا يوصّف هانتر الخطوات الأول.
يؤكد هانتر أنه عند جمع المعلومات يجب أن تتأكد أنك تجمع المعلومات التي تعضد فرضيتك أو تنفيها، لتحدد موضوع تحقيقك بشكل أدق، فقد تصبح فكرة التحقيق نفي الفرضية وليس التدليل والتأكيد على صحتها. Sci dev net))
المشهورون في الصحافة الاستقصائية
قبل قرن من الزمان صاغ رئيس الولايات المتحدة الأميركية الأسبق ثيودور روزفلت (1858-1919) عبارة muckraker"" التي تعني "الذي يشهّر في قضايا الفساد"، وقد دخلت العبارة منذئذ معجم اللغة الإنجليزية.
كان روزفلت يصف الدور الجديد الذي تؤديه الصحافة في المجتمع الأميركي، فقد شهدت تلك الفترة ولادة وسائل الإعلام، حيث كانت الصحف والمجلات تُباع في زوايا الشوارع ويقرؤها بشغف الأغنياء والفقراء على حد سواء.
وبالإضافة إلى تقديمهم الأخبار للجمهور، سلط الصحفيون الضوء على الظلم والاستغلال بشجاعة وبأساليب مبتكرة، فوصف الروائي والصحفي الأميركي آبتن سنكلير في روايته "الغابة"، واقع ظروف العمل الحقيقية في مصانع تعليب اللحوم بشيكاغو.
كما نشرت مجلة شعبية سلسلة مقالات كتبتها الصحفية الأميركية إيدا تاربيل، تفضح فيها الاحتكار الذي كانت تمارسه شركة "ستاندرد أويل" النفطية التي أسسها جون روكفلر. وقد أدت مقالاتها في وقت لاحق إلى تفكك إمبراطورية روكفلر النفطية. وقد عُرفت تاربيل بأنها من كبار الصحفيين "الكاشفين للفضائح".
الصحفية الأميركية إيدا تاربيل
كانت للبوادر الأولى لما نسميها اليوم "صحافة استقصائية" تأثير شديد على الديمقراطية. وبدأ "الصحفيون المشهِّرون" يتحدون بجرأة وبلا مواربة كل الذين يديرون دفة السلطة، ولم يكن هدفهم إحداث توازن بين آراء القوى المتسلطة وتلك الضعيفة في المجتمع، بل الكشف عن الحقائق المستجدة حول الانتهاكات التي يرتكبها السياسيون والصناعيون الأثرياء، مدفوعين بالإحساس ببشاعة الظلم ومتحركين بوحي من بوصلة أخلاقية واضحة المعالم نحو العالم من حولهم.
وكان لدى الصحفيين المشهرين صحفٌ لها صداها الواسع في السنوات الأولى من القرن العشرين. وفي عالم ما بعد الحربين العالميتين، ظهرت شركات العلاقات العامة وتعلمت الحكومات كيف تتعامل مع وسيلة اليوم الصحافة.
شهد القرن الأول من الديمقراطية في الغرب معركة مستمرة بين الصحافة الاستقصائية والمجموعات المتنفذة التي حاولت أن تدير الكيفية التي تصل بها المعلومات إلى الجمهور لكن وسائل الإعلام تغيرت، وكانت وتيرة بعض الحكومات في اللحاق بالتغيرات الجديدة بطيئة، وتطورت الكاميرات الصغيرة المحمولة باليد في الستينيات، مما أتاح للعديد من صانعي الأفلام الدخول إلى فيتنام، لينقلوا -للمرة الأولى- حقائق الصراع إلى بيوت الأميركيين. عندها، تعلمت حكومة الولايات المتحدة الدرس، وأدرجت الصحافة كجزء لا يتجزأ ضمن أعمالها خلال حرب الخليج عام 1991، في ما عرف بالصحافة المرافقة للآلات العسكرية “Embedded journalism” بهدف الإشراف على التقارير المرسلة من أرض المعركة.
ومع دخول شبكة الإنترنت كوسيلة إعلام جديدة واسعة، تمكنت مختلف الشرائح الاجتماعية من نشر وجهات نظرها حول مختلف القضايا، باعتبار هذه الشبكة منبرا يمكن الوصول إليه من أي مكان على كوكبنا.
لقد قلّصت تقنية الاتصالات من حجم العالم، وجلب الانبهارُ باللقطات الحية الحروبَ إلى بيوت الناس في بث مباشر، كما وُلدت نشرات أخبار تُبثُّ على مدار 24 ساعة، وأصبحت المعلومات المتضاربة متاحة في الهواتف الذكية.
مع هذا، فقد خبا بريق الاعتقاد الأولي بأن "ديمقراطية المعلومات" التي وفّرتها التقنية الجديدة ستعمل على تمكين الجمهور، وبدا غريبا أن العلاقة بين المتنفذين والمحكومين وبين الأغنياء والمستغَلين لا تتزعزع.
كانت الصحافة الاستقصائية إحدى ضحايا ثورة الاتصالات، إذ أغلقت وسائل الإعلام القديمة من مطبوعة ومتلفزة أقسام الاستقصاء بها بسبب فقدانها للجماهير. وكان ثمة شعورٌ متزايد باليأس من أن القيام بالبحث المضني الضروري لاستقصاء عمل شركات متعددة الجنسيات كتلك التي قام بها صحفيون من أمثال إيدا تاربيل حول شركة ستاندرد أويل قبل قرن من الزمان لن يصبح ممكنا، بل إن اثنتين من أكبر قصص العقد الأول من هذا القرن لم ترصدا من قبل وسائل الإعلام التقليدية ولا الحديثة، هما:
دوافع ونتائج ما أطلقت عليه الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب، والأزمة المالية العالمية عام 2008.
أصبح الصحفيون جزءا لا يتجزأ من ثقافة وأهداف المؤسسات التي يعملون بها، سواء أكانوا مراسلي حروب في أرض المعركة أو صحفيين اقتصاديين يستندون في معلوماتهم إلى البنوك، لكن آراءهم حيال القضايا العالمية هي أقرب إلى الهتاف منها إلى الرصد. فقد علّق مسؤول الرصد والرقابة بصحيفة نيويورك تايمز الأميركية على تغطية الصحيفة للحرب على العراق، بقوله "يوجد على أكتاف المحررين نياشين رتب عسكرية".
ويعزى أحد أسباب هذا الفشل إلى المشهد الإعلامي الجديد، فانهيار نشرات الأخبار والانهماك في تقديمها على مدار 24 ساعة لم يسمحا للمراسلين بالتحقق من الأخبار التي تقدم لهم، وكثيرا ما يُسمَح لشركات العلاقات العامة والحكومات بتشكيل أسلوب قراءة الأخبار عبر تحكمها في الإعلانات وتوقيت تقديمها وعدد مرات تكرارها.
وهناك مشكلة قديمة ظلت تراوح مكانها، وهي الارتباط الهيكلي للمراسلين بالمصادر الرسمية وعدم انفكاكهم عنها، حيث إنهم يحتاجون للوصول إلى مراكز القوى والنفوذ لاستقاء الأخبار من أجل الاستمرار في تغطياتهم، فكلما أتيح لهم الوصول إلى المعلومات بانتظام، تمكنوا من التحكم في تقاريرهم.
ومما يثلج الصدر ما شهد من انبعاث للصحافة الاستقصائية في السنوات القليلة الماضية بعد عقود عديدة من تدهورها، وذلك بفضل المؤسسات الخيرية الغنية والمؤسسات غير الربحية بدلا من وسائل الإعلام الرئيسية.
فمركز الصحافة الاستقصائية في لندن و"بروببليكا" في نيويورك، اعتمدا في تمويلهما بداية على التبرعات الخيرية القادمة من رجال أثرياء ونساء ثريات لم تعجبهم أحوال الصحافة الممولة تجاريا والعاجزة إلى حد كبير عن "قول الحقيقة للسلطة".
كمؤسسة صحفية عالمية، وقفت شبكة الجزيرة الإعلامية وحدها في ميدان الصحافة التي تواجه السلطة، وأسست وحدة التحقيقات الاستقصائية عام 2012، بعد جهود كبيرة بذلها كلايتون سويشر وفريق العمل الذي يقوده. وكانت بداية عمل الوحدة في التحقيق الإعلامي الاستقصائي بعد إجراء بحث مضنٍ في وثائق المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، ومن ثم الكشف عن أدلة دامغة تثبت وفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مسموما بمادة البولونيوم المشعة.
لدينا الآن فريق من 20 صحفيا متخصصا في صنع الأخبار عوضا عن نقلها وخلال العام الماضي، كشفنا عن دور فرق الموت في كينيا، ورُشح العمل لجائزة مرموقة هي جائزة الأكاديمية البريطانية لفنون الأفلام والتلفزيون "بافتا" (BAFTA)، وهي منظمة خيرية مقرها بالمملكة المتحدة، تقدم جوائز سنوية لتكريم الأعمال المبدعة في مجال السينما والتلفزيون والمهن التلفزيونية. نشرنا مئات الصفحات عن وثائق سرية لجواسيس من مختلف أنحاء العالم، واضعين هؤلاء العملاء الحكوميين تحت المساءلة. وفي العام 2015، أشادت كبريات المؤسسات الصحفية العالمية بالعمل الاستقصائي الاحترافي الرائد لشبكة الجزيرة، من بينها صحيفة ذي غارديان بالمملكة المتحدة، وصحيفة إلباييس الإسبانية، فضلا عن مئات الأعمدة التي نشرتها الصحف والمجلات العالمية والمواقع الصحفية الإلكترونية.
ما الذي يجعل الصحافة الاستقصائية مختلفة عن الأخبار التقليدية أو صناعة الوثائقي؟
1-المنهجية: الصحافة التقليدية تفاعلية، بمعنى أن بإمكان الصحفي تطوير القصة الإخبارية بسؤال سياسي عن رأيه في أحداث معينة. ويمكن لصحفيين آخرين استخدام ذلك الاقتباس، دون التشكيك في الحقيقة المستندة إلى التقرير الأول. بالمقابل، تستخدم الصحافة الاستقصائية "فرضية مبنية على رواية ما" تسعى لإثبات أن أي حقيقة يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة، مثل رجل الشرطة أو النيابة الذي سيحاول جمع البراهين ليدعم فرضيته. فإذا افترض الصحفي الاستقصائي أن (ع) يكذب أو أن (ع) فاسد، ولم يتمكن من إيجاد دلائل، يُلغى التحقيق.
2-الإطار الزمني: وهو إطار يتعزز بالطريقة التي تُجمع وتنشر بها المعلومات على فترات منتظمة، سواء في نشرات أخبار الساعة أو في الصحف اليومية أو في المجلات الأسبوعية. بالنسبة لأي تحقيق، لا يمكن نشر المعلومات حتى تكون كاملة ومبنية بدقة، ويمكن أن تستغرق التحقيقات الصحفية شهورا، وفي بعض الحالات، سنوات.
3- الرؤية: يفترض أن يكون التقرير الإخباري انعكاسا دقيقا للعالم. ويُطلَق على هذه العملية "تحري الدقة والموضوعية" ونشر التقارير حول "الحقائق".
لكن الصحافة الاستقصائية ترفض أن تقبل العالم كما هو، بل تعتقد أن ثمة خطأ ما في الحقائق المعطاة، وأن هدفها يتمثل في فضح الخداع والتزييف أو سوء السلوك من أجل انتقاده وبيان زيفه.
4-التوازُن: على الصحفي أن يتقبل الرواية الرسمية للقصة حتى لو كان رأيه يناقضها، أو "يوازنها" باستخدام تصريحات من مصادر أخرى. افتراض حسن النية بالمصادر الرسمية وارد، مع هذا، يتحدى الصحفي الاستقصائي صراحة الرواية الرسمية للقصة، ويرفض مبدأ التوازن، ويقدم حكمه على القصة استنادا إلى التقييم الدقيق للأدلة.
5-الأخلاقيات: يواجه الصحفيون الاستقصائيون أسئلة سياسة التحرير وهم يضمِّنون أساليب جمع الدلائل في تقاريرهم، حيث تعد تلك الوسائل غير أخلاقية في الصحافة التقليدية. فمن المفترض عادة ألا يكذب الصحفي، لكن لو كنا بحاجة إلى توظيف تدابير تنطوي على عملية خداع ما، كالتسجيلات السرية أو انتحال شخصية ما، فعلينا أن نضمن وجود جمهور قوي مهتم بالدفاع عن أعمالنا. فمبررنا الأخلاقي لاستخدام تلك الأساليب هو أنها الطريقة الوحيدة المتبقية لفضح المخالفات.
6-صناعة الأخبار: في التقارير التقليدية، تقاس الحقيقة أو دقة القصة الإخبارية بمدى مشابهتها لقصص نشرت أو بثت في ذلك الوقت. هناك اعتقاد بأن الأخبار "صالحة" إن شارك آخرون نشرها، لكن على القصة الاستقصائية أن تتحدى الحقائق المسلَّم بصحتها، وأن تعطِّل جدول الأخبار. ونحن نضع اسم الجزيرة كمصدر للتصريحات العالمية.
ما المهارات اللازمة للعمل كصحفي استقصائي؟
ثمة متَطلّب واحد، وهو أن يستشعر الصحفي ما يحدث في العالم من خلال البحث والاستقصاء في الأدلة المجزأة المتناثرة، وأن يتحلى بحسٍّ مرهف يجعله يتأهب لمعرفة الحقيقة عندما يلاحظ عدم اتساق بعض مكونات الأخبار، وهي الحاسة السادسة التي تثير غريزتك الصحفية وتحركها باتجاهٍ تشعر معه أن هناك خطبا ما في المعلومات التي يقدمها لك الآخرون.. إنه الاحساس بأن شخصا ما يدلي بمعلومات كاذبة أو يحاول إخفاء شيء هام.
مهنة الصحافة الاستقصائية مثيرة للتوتر لا الألق. أخبرني مرة أحد أبرز الصحفيين الاستقصائيين في ذي غارديان البريطانية ديفد لاي، أن على الصحفيين الاستقصائيين أن يكونوا "مستعدين نفسيا لتحمل العداء".
أما مدير مركز الصحافة الاستقصائية في لندن غافين ماكفادين، فقال إنه لا ينبغي للصحفي الاستقصائي أن يكلف نفسه عناء التفكير في الحصول على دعوة لدخول البيت الأبيض أو مقر الحكومة البريطانية في 10 داوننغ ستريت.
إن مهمتنا هي تحدي السلطة لا مغازلتها، أما إن كان هدفك أن تكون لامعا، فاعمل مراسلا في صحافة المشاهير.
الصحافة الاستقصائية ليست صحافة التسريبات
"استلام أحد الملفات من أحد المصادر الرسمية ذي النفوذ، ثم إعادة كتابته ونشره في اليوم ذاته لا يقع في خانة الصحافة الاستقصائية، كما عبّر كابلن، مدير شبكة الصحافة الاستقصائية العالمية وكاتب الصحافة الاستقصائية العالمية: استراتيجيات الدعم، وهو تقرير يعرض 106 من المؤسسات الصحفية الاستقصائية غير القابلة للربح حول العالم. ويُعدّ كدليل للممارسات المستدامة ويقدّم استمارة بيانات تغوص عميقاً في تمويل هذه المنظمات التي لا تبغي الربح، بالإضافة إلى الشرح حول هيكليتها.
الصحافة الاستقصائية ليست صحافة التخصص
“يعتقد بعض الصحفيين أن كلّ الصحافة الجيدة هي صحافة استقصائية،” بحسب كابلن إلاّ أن الصحافة الاستقصائية تتطلّب المزيد من البحث بعمق. “يقوم صحفيو التخصص باستخدام التقنيات الاستقصائية، إلاّ أن ذلك لا يدفع الاثنان إلى الترادف في المعنى والمضمون”، كما أكّد كابلن.
الصحافة الاستقصائية ليست صحافة ناقدة
تأخذ التحقيقات الاستقصائية الكثير من الوقت، فتتطلب أسابيع أو أشهر أو حتى سنوات من الممكن أن تتضمّن الصحافة الاستقصائية الكثير من عناصر النقد وإن قمت بكتابة مقال ما يتطلّب منك المزيد من البحث والتنقيب والنقد فإن ذلك لا يعني أنّك قدمت عملاً استقصائياً.
الصحافة الاستقصائية ليست التغطية الصحفية المختصّة بالجرائم والفساد
تعريف الصحافة الاستقصائية كصحافة الجرائم والفساد يحدّ من نطاق السبق الصحفي، على الرغم من اعتقاد كابلن أن هناك بعض التقاطع في هاتين الفئتين. وبحسب قوله: “لكن الصحافة الاستقصائية الجيّدة تركّز على مواضيع التعليم، واستغلال السلطة، والتهافت على الأموال، وقصص الأعمال الرائعة. ولمجرد تغطية الصحفي المختص لمواضيع الجرائم والفساد وملاحقة آخر تطوّراتها، فذلك لا يعني أنه يستخدم أدوات الصحافة الاستقصائية.
الصحافة الاستقصائية في الوطن العربي
لا تقتصِـر علامات دخول العرب إلى عصْـر الحداثة على توطين التكنولوجيا والسيْـطرة على العلوم واللُّـغات، وإنما تشمَـل أيضا إيجاد المؤسسات العصرية، وفي مقدِّمتها البرلمانات والقضاء المستقل والصحافة الحرّة. ومن أركان حرية الصحافة، أن يكون الإعلاميون قادرين على تقصِّـي المعلومات والوصول إلى مصادِرها، كي ينشُـروا تحقيقات تُمِـيط اللِّـثام عن حقائق مستورة وتُطْـلع الرأي العام عليها، من دون تعريض أنفُـسهم للمساءلة الأمنية أو الملاحقة القضائية. واذا كان هذا اللون الصحفي الذي دخل حديثا غرف التحرير بمنطقتنا العربية فانه قطع شوطا طويلا من أثبات الوجود والنجاح الفاعل في ساحات عربية متعددة.
تقول رنا الصباغ المديرة التنفيذية لشبكة أريج المتخصصة في الصحافة الاستقصائية أنه لا يزال هناك طريق طويل أمام العالم العربي قبل أن تصبح الأخبار المعمّـقة والمصمَّـمة للوصول إلى الحقيقة أو حتى الوقائع في أفضل أحوالها، جزءاً لا يتجزّأ من الممارسات اليومية في غُـرف الأخبار العربية. وسردت الصباغ نماذج للصحافة الاستقصائية العربية ففي مصر طلب أحد المحامين من النائب العام مُـقاضاة الحكومة بتُـهمة الإهْـمال، بعد أن كشفت منى العراقي خَبايا سوء إدارة نفايات المستشفيات والمافيات التي تقف وراءها، من خلال فيلم وثائقي تلفزيوني.
أما زميلاها هشام علاّم ودارين فرغلي، فأثارا ضجّـة رسمية وشعبية، حين وثَّـقا التَـلوُّث الذي تُـسبّبه مياه الصَّـرف غيْر المعالَجة، الناتجة عن مصنع سكَّـر حكومي، لبعض أجزاء من نهر النيل، والتهديد الذي يشكِّله لصحة وحياة أكثر من 220000 من السكان. وبعد نشْـر تحقيقهما في المصري اليوم، استدعى مجلس الشعب وزير الصحة لمساءلته عن ذلك الإهمال، بينما رفع عشرات السكان دعاوى قضائية للحصول على تعويضات.وفي سوريا، أزالت جرّافات حكومية، جبال القُـمامة من موقع كان يُـعدّ أكبر مكبٍّ للنفايات قُـرب العاصمة دمشق، بهدف منع انتشار الأمراض المُـعدية والتخفيف من حدّة تلوُّث الهواء. جاء ذلك بعد أيام من نشْـر تحقيق لخالد موسى وبراء بوشي، اللّـذان عمِـلا معاً لمدة ثلاثة أشهر، لكشْـف أساليب إساءة المُـقاول واستغلاله في تطبيق التعاقُـد مع البلدية.
وفي اليمن، شكّـلت الحكومة لجْـنةً للنَّـظر في مؤسسة صحية، كان قد كشفها وديع العبسي، أحد الصحفيين المحليين، حول عدد من المستشفيات بسبب سوء تشغيل أو تعطُّـل أو غياب حارقات النفايات الطبية فيها. كذلك، استضافت عدة إذاعات محلية الصحفية سهير جرادات، بعد أن نشرت تحقيقا حول عائلات أردنية ترغم بناتها المتزوِّجات حديثاً، إلى الخضوع لفحْـص العُـذرية، لأنهن لم ينزِفن في ليلة الدّخلة، في مخالفة واضحة للقانون ولتعاليم الدِّين وحقوق الإنسان. وفي الأردن, قدّم 15 يتيماً شكاوى لدى المركز الوطني لحقوق الإنسان بعد تحقيق أجراه الصحفيان المستقلان مجدولين علان وعماد الرواشدة حول الإساءات الجسدية, النفسية والجنسية في عدد من دور الأيتام الأردنية. وتم تحويل بعض تلك الشكاوى إلى النائب العام.
وفي تحقيق آخر حول المعوقات القانونية والمهنية التي تقف حائلاً أمام الوصول إلى الوثائق العامة بموجب قانون "حق الوصول إلى المعلومات" الأردني, سجّلت الصحافية مجدولين علاّن شكوى ضد دائرة الأراضي والمساحة الأردنية لمنعها من الحصول على معلومات حول بيع أراضٍ أميرية لمستثمرين. وكانت تلك أول قضية من نوعها لدى محكمة العدل العليا, فيما يتعلق بانعدام إمكانية الحصول على المعلومات بخلاف القانون الذي سن عام2007. وفي العراق الذي يمزّقه العنف وثّق صحافيون محليون أساليب القاعدة ووسائل مجموعات مسلحة مشبوهة أخرى في تجنيد مئات من الأطفال للانخراط في أعمال قتالية أو تنفيذ هجمات انتحارية, فضلا عن تحقيقات حول إخضاع الإناث في مناطق كردية للختان.
وفي البحرين كشفت الصحفية هناء بوحجّي عن الإساءات التي يتعرض لها عمال وعاملات منازل من الوافدين بعد توثيق عدد من حالات سوء المعاملة التي تتراوح بين حرمانهم من الأجور الشهرية والمضايقات الجنسية والجسدية من قبل أرباب عمل يستغلون مواطن الضعف القانونية.
ان التطور الحاصل في علوم الاعلام والصحافة وتعقد المشكلات الانسانية مضافا لها حالة التنافس الاعلامي بين وسائل الاعلام المختلفة يقود دوما الى ابتكار صيغ أعلامية جديدة(و الصحافة الأستقصائية واحدة من هذه الصيغ) من شانها تساعد في كشف الحقائق وتخدم المجتمعات باسلوب صحافي مستندا الى حرفية وصدقية العمل باتخاذ خطوات لا تغفل اي طرف من اطراف القصة الاخبارية سواء كانت تتعلق بجوانب اجتماعية او سياسية او اقتصادية بشرط ان لا يغفل الجانب القانوني في هذا الاطار.
الصحافة الاستقصائية في العراق
في العراق ظهرت شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج)، هي أول شبكة للصحافة الاستقصائية في العراق، تأسست بجهود نخبة من الصحفيين الاستقصائيين المحترفين في 9 ايار مايو عام 2011. وعملت منذ تأسيسها على توفير الدعم التحريري والمالي والاستشاري للصحفيين الاستقصائيين العراقيين، لانجاز تحقيقات معمقة تستند الى البحث عن الحقائق الموثقة والمدعومة بالمصادر المتعددة وثيقة الصلة بالموضوع قيد الكشف.
مهمة نيريج الرئيسية، اضافة الى انجاز التحقيقات الاستقصائية المعمقة، تحسين مهارات الاستقصائيين العراقيين والعمل على نشر ثقافة التقصي في الصحافة العراقية، لتكون اداة رقابية تشخص الاخطاء وتتابع قضايا الفساد المالي والاداري، وتؤشر الانحرافات والاخطاء في السلوك الرسمي والمدني والانتهاكات التي ترتكب تجاه شرائح متعددة من المجتمع العراقي.
وتعمل نيريج في هذا السياق، على مساعدة الصحفيين الاستقصائيين في العراق على اختيار تحقيقات معمقة تتناول قضايا الفساد المالي والاداري والانتهاكات المجتمعية تجاه المرأة والطفل والشرائح الضعيفة في مجتمع يشهد تحولا كبيرا مثل العراق، والعمل على استكمال الفرضيات الخاصة بتحقيقات الصحفيين الاستقصائيين وتمويل كلف التحقيقات المالية من ترجمة وثائق وتنقل واقامة وفحوصات مختبرية واستشارات وطباعة واتصالات وسائر العمليات التي يتطلبها انجاز تحقيق استقصائي معمق.
فضلا عن هذا، تأخذ نيريج على عاتقها متابعة كل مراحل انجاز التحقيق الاستقصائي من خلال الاشراف المباشر على التحقيق أولا بأول، والمساعدة على استكمال هيكل التحقيق ومراجعته لمرات متعددة وصولا الى تحريره بشكل نهائي ونشره في وسائل الاعلام العراقية والعربية وترجمته للنشر باللغتين الكردية والانكليزية.
وتعمل نيريج ايضا، من خلال خططها السنوية ونصف السنوية، على توفير فرص تدريب داخل العراق وخارجه للصحفيين الاستقصائيين العراقيين، وتأهيل عدد من الصحفيين المتميزين لالحقاهم مستقبلا بعمل شبكة نيريج كمشرفين او مدربين.
نيريج عملت منذ اليوم الاول على تأسيسها، على ترسيخ ثقافة استقصائية محترفة في كل مفاصل العمل الصحفي في العراق، وتتطلع الى تبني نمط استقصائي متفرد يكون اداة لكشف المستور واظهار حقائق تساهم في تحقيق تحول ايجابي في المجتمع العراقي.
وتقدم نيريج للصحفي العراقي مجموعة من الخدمات لاستكمال اي تحقيق معمق يستند الى منهجية محترفة وقائم على كشف الحقائق للجمهور. ومن هذه الخدمات:-
1- تكاليف التنقل والاقامة وغيرها من المصاريف الضرورية للقاء المصادر او زيارة المواقع المطلوبة للتقصي الميداني.
2- تكاليف الحصول على الوثائق ودخول قواعد البيانات العراقية والعربية والعالمية.
3- أجور المشرفين على التحقيقات الاستقصائية.
4- اجور خبير قانوني لتقييم التحقيق من الناحية القانونية والتأكد من خلوه من أي تجاوزات قانونية قبل نشره في وسائل الاعلام المتعددة.
5- توفير الدعم القانوني للصحفي في حال تعرضه الى أي مسألة قانونية بعد نشر التحقيق.
6- ترجمة التحقيق الى اللغتين الكردية والانكليزية وبالعكس.
7- العمل على نشر التحقيق في وسائل الاعلام العراقية والعربية والعالمية وفي موقع نيريج.
8- مساعدة الصحفيين الاستقصائيين على تقديم تحقيقاتهم الى المسابقات العراقية والعربية والعالمية.
9- فضلا عن هذا، تقدم نيريج للصحفي المتقصي مكأفاة نشر تتراوح بين 500 الى 750 دولارا تسلم بعد اسبوعين من تاريخ النشر.(7)
نماذج عن الصحافة الاستقصائية
-أطباء يتحولون إلى سماسرة لصالح مؤسسات علاجية في الصين وألمانيا.. وأخرون يسهلون سفر الخلايا الجذعية للحفظ في بنوك خارجية (اريج)
- عوائق تنفيذية وإمكانيات ضعيفة تحبط “مقاطعة بضائع المستوطنات (قدس)
- شاطئ بيروت بقعة غريبة ونفايات وأبقار نافقة (الجديد)
- أطفال سوريا.. الجنود الأرخص في ساحات القتال (الحل)
- البطاقة الوطنية بين قبول الاكثرية واستنكار الاقلية (واع)
...................................................................................
المصادر: موسوعة ويكيبيديا + وكالات