تتعدد اللغات بتنوع وظائفها وحقول تداولها

أ. د. عبد الجبار الرفاعي

2025-09-21 03:13

لا يعني الحضور الواسع للغة الإنجليزية اليوم تفوقها الذاتي على اللغات الأخرى، بل يعكس تمايز الوظائف، واختلاف الحقول التداولية، وتباين السياقات المعرفية والدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية التي نشأت وتطورت فيها اللغات، وتشكلت في فضائها طرائق تعبيرها ورؤيتها للعالم، وما فرضته الاحتياجات اللغوية للناطقين بها.

لكل لغة أفقها المعبر عن انعكاسها في شعور ولا شعور الناطقين بها، ورؤيتها للعالم، ومجالها التداولي الذي تتجلى فيه، وتبرع من خلاله، في أفق يستجيب لاحتياجات المجتمع الذي ولدت وتطورت في أحضانه.

إذا نظرنا إلى الواقع، نرى اللغة الأكثر تداولًا في ميادين المعرفة والعلوم والتكنولوجيا والسياسة والاقتصاد والمعاملات اليومية والآداب والفنون والثقافة، هي اللغة الإنجليزية، لما تمتلكه من قدرة على التعبير المباشر، وسهولة في النطق، وبساطة بناء الجملة، ومرونة توليد المعنى من غير فائض لفظي يشتت ذهن المتلقي. من العوامل الأساسية التي أسهمت في تسيد اللغة الإنجليزية، واتساع حضورها في تدوين العلوم والمعارف المتنوعة والقوانين والتشريعات والآداب والفنون، ذلك التراكم العلمي والمعرفي والتكنولوجي والحقوقي والفني والأدبي المتواصل. 

وما منحته لهذه اللغة الهيمنة الاستعمارية البريطانية التي امتدت من مطلع القرن السابع عشر إلى منتصف سبعينيات القرن العشرين، واستوعبت أكثر من ستين دولة في آسيا وأفريقيا والأمريكيتين وأوقيانوسيا. فرض الاستعمار البريطاني سيطرته على شبه القارة الهندية منذ أوائل القرن السابع عشر، وتحول الحكم المباشر للتاج البريطاني عام 1858، واستمر حتى استقلال الهند وباكستان عام 1947.

كما استعمرت بريطانيا مصر عام 1882، والسودان عام 1899، ونيجيريا عام 1901، وكينيا عام 1920، واستمر نفوذها في إفريقيا حتى استقلال زيمبابوي عام 1980. 

وفي الأمريكيتين، فقدت بريطانيا مستعمراتها الثلاث عشرة في أمريكا الشمالية عام 1783، لكنها احتفظت بجزر الكاريبي وكندا، التي ظلت تحت التاج البريطاني حتى إعلان سيادتها التامة عام 1982. أما في أوقيانوسيا، فقد بدأ استعمار أستراليا عام 1788، ونيوزيلندا عام 1840، واستمر وجودها في جزر المحيط الهادئ حتى السبعينيات. هذه الهيمنة الواسعة قبل الحرب العالمية الثانية، أفضت إلى تأسيس شبكة عالمية من المؤسسات العلمية، والأكاديمية، والسياسية، والاقتصادية، والقانونية، والشركات العملاقة، التي تبنت الإنجليزية بوصفها لغة رسمية، ومعيارًا للتشريع والمعرفة.

 بعد انحسار الاستعمار البريطاني، ورثت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، زعامة النظام العالمي، ومارست هيمنة قسرية وناعمة على مدى العقود التالية، من خلال قوتها العسكرية، وما تقوم به مؤسساتها الدولية، ونفوذها الاقتصادي، ومنتجات مصانعها الكبرى، وشركاتها المتسيدة في العالم، وما تنجزه مختبراتها التكنولوجية من اختراعات جديدة، ومنظومتها التعليمية وجامعاتها، ومراكز أبحاثها، وانتاجها الغزير من العلوم والمعارف المتنوعة. 

وأسهم كثيرًا في اتساع حضور الإنجليزية ما تنتجه هوليوود من أفلام سينمائية، إذ تتصدر أفلامها أعداد المشاهدين في مختلف أنحاء العالم. لذلك فرضت الإنجليزية حضورها بوصفها اللغة الأولى في البحث العلمي، والسياسة والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والقانون الدولي، ومجالات العلوم والتقنية الحديثة، والثقافة والاعلام، والآداب والفنون، والسينما، حتى غدت الإنجليزية اليوم لغة العولمة، نتيجة تراكم تاريخي طويل من الاستعمار لمختلف البلدان، وحضور سياسي واقتصادي وعلمي وتكنولوجي وثقافي وإعلامي وأدبي وفني وسينمائي.

ومما رسخ حضور الإنجليزية في الحقول كافة، كون أكثر الإنتاج العلمي والأدبي والفني العالمي بات يدون بها، وتضاعفت أعداد الجامعات والمراكز البحثية المتنوعة الناطقة بالإنجليزية في العالم، وثراء إمكانات هذه الجامعات والمراكز المالية والتكنولوجية المتقدمة، وحرصها على إنتاج مصطلحات دقيقة مواكبة للتقدم العلمي والتكنولوجي، وتفرغ مؤسسات لغوية لضبطها وتطويرها، وإنتاجها للمعاجم التخصصية المتجددة في القانون، والسياسة، والفلسفة والعلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية والتطبيقية والصرفة، والثقافة والآداب والفنون. فضلًا عن غزارة الترجمة من اللغة الإنجليزية وإليها، بكل اللغات في الأرض، فعزز ذلك كله حيوية هذه اللغة وتطورها وانتشارها في بلدان العالم المختلفة، وأخيرًا عملت شبكة الإنترنت العالمية على اتساع حضورها في العالم بوصفها اللغة الأولى لهذه الشبكة.

اللغة الإنجليزية تشكّلت في سياق معرفي وديني وثقافي ومجتمعي وسياسي واقتصادي مغاير، وتطورت في بيئة لغوية احتضنت تحولات العلم والتكنولوجيا الحديثة، فاكتسبت طابعًا أكثر تحديدًا، وصارت حمولتها للأحكام المسبقة أقل، وأكثر حيادًا في التعبير العلمي، والقانوني، وصارت أوفق في صياغة التشريعات، وأغنى في ما تفرضه لغة التكنولوجيا من تداول واسع للأرقام، والمعادلات الرياضية، والفيزيائية، والكيميائية، وأشباهها، ومن صرامة في تحديد المصطلحات وتعريفها، بعيدًا عن غزارة المرادفات، وتعدد المجازات وتنوع الكنايات. تستوعب الإنجليزية قواعد أقل تنوعًا واختلافًا وتعارضًا في الآراء والاجتهادات، وأشد ضبطًا في تحديد سياق الكلمات والجمل وتعريفها، وإن كانت الإنجليزية تفتقر إلى مضاهاة العربية في المرادفات، وغزارة المجازات، وتنوع الكنايات، لكنها استجابت بسهولة للحاجة إلى وضوح المعنى المراد بلا تردد بين احتمالات عديدة، وحسمه في المجالات المتنوعة لاستعماله. 

إزاء التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، تواجه اللغة العربية نقصًا واضحًا في المؤسسات والمراكز البحثية القادرة على مواكبة الواقع، وملاحقة التحولات العميقة التي تمس حياة الإنسان اليوم. ما يزال حضور هذه المؤسسات محدودًا، لا ينهض بوظيفته في بناء منظومة لغوية تعبّر عن المفاهيم الحديثة، وتترجم ما يواجهه الإنسان العربي من تحديات يومية، في مجالات الحياة المختلفة. تفتقر العربية إلى مؤسسات تمتلك رؤية علمية تستوعب الواقع، وتنتج مصطلحات علمية ومعرفية وتقنية وقانونية موحدة، تتناغم مع حاجات الناطقين بها، وتستجيب لإيقاع الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتخفف من تضارب الاصطلاحات، وتداخل المفاهيم. 

تعاني اللغة العربية من ضعف ملحوظ في حركة الترجمة، سواء منها إلى اللغات الأخرى أو من تلك اللغات إليها، مما يحد بشكل كبير من حضورها وتأثيرها في المشهد المعرفي والثقافي والأدبي العالمي. هذا الضعف يقلل من فرص انتشار الأفكار والإبداعات والآداب العربية على الساحة الدولية، ويعيق في الوقت ذاته استيعاب الأعمال الفلسفية والثقافية والأدبية العالمية باللغة العربية. 

نتيجة لذلك، تظل العربية بعيدة نسبيًا عن التفاعل الخلّاق مع اللغات الحيّة الأخرى، مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والاسبانية والصينية، التي تلعب دوراً رئيسياً في صياغة المعجم العلمي والفلسفي والثقافي والأدبي والسياسي والقانوني للإنسان في العصر الرقمي. هذا الانفصال يحد من إسهام العربية في الحوار الحضاري العالمي، ويقلل من قدرتها على التأثير في تشكيل الرؤى والمفاهيم التي تحدد ملامح هذا العصر. 

إضافة إلى ذلك، فإن قلة الترجمة تؤثر سلباً على إثراء المحتوى العربي في قاعدة بيانات الذكاء الاصطناعي (Database) للإنترنت، سواء في المجالات الأدبية، أو العلمية، أو الفلسفية، أو القانونية، مما يجعل اللغة العربية أقل قدرة على مواكبة التطورات المعرفية والثقافية المتسارعة في فضاء الذكاء الاصطناعي. ويعود هذا الوضع إلى عدة أسباب، منها نقص المترجمين المؤهلين، وضعف الدعم المؤسسي لمشاريع الترجمة، ومحدودية الاهتمام بتطوير استراتيجيات ترجمة شاملة تهدف إلى تعزيز مكانة العربية في الفضاء الرقمي.

تتميز اللغة العربية بثرائها الواسع، وتعددها الدلالي، وكثافة مجازها، وغلبة الشحنة العاطفية في بعض استعمالاتها، حتى غدت أفقًا للشعر، ومجالًا لتوليد الصور المتنوعة للخيال، ولغةً للمشاعر والوجدان. غير أن هذا الثراء الدلالي يقود أحيانًا إلى التباس في سياقات التشريع والتقنين، حيث تحتاج الأحكام إلى وضوح لا يحتمل التردد، وتحديد دقيق للمعنى المقصود. 

لذلك احتاجت العربية في موضوعات التشريع والتقنين إلى جهد كبير في التفسيرات والشروح، فنهضت علوم اللغة وعلوم التفسير بضبط المعنى، وتحديد المراد، والتمييز بين المقاصد العامة والدلالات المحتملة، كي لا تتحول سيولتها الدلالية إلى مدخل للاضطراب في فهم النصوص. 

غير أن هذا القصور لم يحجب ما تمتاز به العربية من براعة في إبداع الشعر، إذ تتدفق الصور والمعاني، وتتحرر طاقتها الرمزية، وما يبدعه الخيال من صور ومعانٍ لا تنفد. هكذا تكشف العربية عن وجهين متنوعين: وجه تشريعي يتطلب جهد العلماء في البيان والتفسير لتأمين الصرامة والوضوح، ووجه شعري يفيض بالصور والمعاني ويمنح الخيال والجمال مداه الأرحب. ولولا هذا الثراء لما احتلت العربية مقامها الفريد بين لغات العالم.

ذات صلة

محورية الإنسان في البناء الحضاري عند الإمام الشيرازيهل قيدت او عطلت مدونة الاحكام الشرعية صلاحية محكمة التمييز الاتحادية؟التسويف الدراسي.. فهم الأسباب وسبل التغلب عليه‏إشكالية الديمقراطية في العراق.. التحديات والمرتكزاتاقتصاد السوق الضرورة المغيبة