هويَّة الإنسان السياسيَّة بوصفه مواطنًا
أ. د. عبد الجبار الرفاعي
2025-07-13 03:22
هوية الإنسان السياسيَّة بوصفه مواطنا بمعنى، وبمعنى آخر هوية الإنسان السياسيّة بوصفه "رعية"، ووصف السلطان براعي الرعية، الشائع في دولة الخلافة. الإنسان بوصفه مواطنا هو الذي يحدد اليوم هوية دولة المواطنة الحديثة، ويضفي توصيف هويته طابعا حاسما على توصيف هويتها. كل تشريع، وكل قرار، وكل موقف يتخذ في إطار توصيف المواطن، ينبغي أن يكون معياره الأساس هو الانتماء للوطن. وكل ما لا يمت بصلة إلى الوطن، بوصفه وطنا يحتضن الجميع، يفترض ألا يكون مكونا في بنية ماهية دولة المواطنة الحديثة.
هذه الدولة تتأسس على المواطنة الدستوريَّة، والقانون، والقيم التي تتناغم معه، والصرامة العادلة في تطبيقه على الجميع من دون استثناء.
لا يمكن بناء دولة المواطنة الحديثة بأخلاق الفضيلة، الأخلاق ليست بديلًا عن القانون، ولا تغني عن معطيات العلوم والمعارف الحديثة في تنظيم الدولة وإدارة مؤسساتها وصياغة سياساتها. الرهان على التديّن أو الفضائل الفرديّة لا يبني الدولة، ولا يحميها، ولا يمنع الفساد. مشكلات إدارة الدولة لا تعالج بالشعارات، بل بتوظيف معارف متخصصة، وخبرات علميّة، وتدبير عقلاني لواقع مركب، يتطلب امتلاك أدوات الدولة الحديثة، لا منطق الرغبات والتمنيات. لا تقاس الكفاءة السياسيّة والإداريّة بدرجة التقوى، ولا تستمدّ أهليّة الحكم من طهارة الروح أو الانتماء الاعتقادي، بل تقاس بالكفاءة، والخبرة، والقدرة على إدارة مؤسسات الدولة، وخدمة المصلحة العامة، والإخلاص للوطن، وتحمل المسؤولية تجاه المواطنين.
بناء الدولة الحديثة يتطلب وعيًا سياسيًا، وإدراكًا عميقًا لبنيتها، ومعرفةً بمنطق إدارتها، والاعتماد على العلوم والمعارف والخبرات المتخصصة، لا على معايير التدين الفردي أو الانتماء العقدي. التقوى وطهارة القلب يمكن أن تثريا الضمير الأخلاقي، وتُسْهِمَا في ترسيخ الالتزام بالقانون، لكنهما ليسا شرطًا لبناء دولة المواطنة، ولا يُعدان أساسًا في ترسيخ نظام سياسي حديث.
غياب التقوى لا يحول من دون قيام دولة تصان فيها الحقوق والحريات، ما دام هناك قانون عادل، وقيم منسجمة معه، وصرامة في تطبيقه على الجميع من دون تمييز. دولة المواطنة تقوم على مبادئ العدالة، والمساواة، وسيادة القانون.
لذلك، نجد كثيرًا من الدول غير المسلمة تتفوق في كفاءة مؤسساتها، وتسودها الثقة، ويتوفر موظفوها على قدرٍ عالٍ من المهنيَّة، يؤدون أعمالهم بإخلاص، ويحترمون القانون، من دون أن يُعرف عن بعضهم أيّ انتماء ديني. في تلك الدول، يتحقق للإنسان أن يكون مواطنًا كاملًا، تُصان كرامته، وتحترم حقوقه، من دون أن يُسأل عن دينه أو مذهبه أو قوميته.
لم تتأسس دولة المواطنة الحديثة على الدين بوصفه أيديولوجيا سياسيّة، بل تأسست على منظومة الحقوق والحريات، وسيادة القانون. قوانينها تصون المساواة بين المواطنين جميعًا، وتكفل تطبيقها بلا تمييز، بغض النظر عن دين المواطن، أو معتقده، أو جنسه، أو لونه، كما تكفل للمواطن الحق في أن يكون مختلفًا. الجميع متساوون في الانتماء للوطن، وكل مَن يكتسب جنسية الدولة، ويتبنى قوانينها، يمتلك النصاب الكامل في الحقوق والواجبات، ويتمتع بفرص متكافئة، ويُعامَل بصفته مواطنًا، لا بصفته الدينيّة أو الطائفيّة أو القوميّة.
المواطنة في الدولة الحديثة لا تكون ناقصة، ولا تمنح للمواطنين بدرجات متفاوتة، بل تبنى على مبدأ الشراكة الكاملة في الانتماء والمسؤولية، ضمن عقد قانوني يحدده الدستور، لا الأيديولوجيات أو الأعراق أو الأديان.
لا يمكن أن يسهم في بناء دولة المواطنة مَن لا يؤمن بالوطن بوصفه كيانًا سياسيًا يحتضن الجميع، وطنًا تتوحد فيه الهويات المتنوعة في إطار مشترك، وتلتقي على هوية جامعة، لا تلغي التنوع، بل تنظمه في إطار الانتماء المشترك، والعيش معًا على أرض واحدة، يولد فيها المعنى العام للكرامة والحرية والمساواة، وتصان فيها الحقوق، ويتشارك الجميع مسؤولية حماية المصير. الهوية الوطنيَّة لا تلغي الهوية الدينيَّة، ولا الاعتقاديَّة، ولا المذهبيّة، ولا القوميّة، ولا الثقافيّة، ولا أية هوية فرعيّة أخرى، بل تتكامل معها، وتثريها، وتتعايش جميعًا في إطار ميثاق وطني جامع، يتسع للوحدة في فضاء الاختلاف، ويستوعب التعدد لتنوع لا يتحوّل إلى نزاع.
الهوية الوطنيّة هي القاعدة التي تتفرّع عنها سائر الهويات، وتنتظم في سياقها، وتتحدّد وفق مقتضياتها، غرس هذا الفهم وترسيخه يستلزم إعادة النظر في أنظمة التربية والتعليم، بدءًا من المراحل الأساسية حتى التعليم العالي، لتنشئة الإنسان على أن هويته الوطنية في الدولة الحديثة هي التي تمثل الانتماء الأول، قبل كل انتماء آخر. من دون وعي يكرّس الانتماء للوطن، لا يمكن بناء دولة وطنيّة حديثة، تحترم التعدد، وتنهض على مبدأ المواطنة، وتكفل المساواة في الكرامة والحقوق لجميع المواطنين بلا استثناء.
صعود الهويات الطائفية واستقطابها الحاد في الألفيّة الجديدة يعيق تشكّل الهوية الوطنيّة في بلادنا وغيرها، ويعمل على تفشي اضطرابات الهوية، ويجعل من العسير تنمية الوعي السياسي بضرورة الدولة الحديثة. لا يمكن بناء الدولة الوطنيّة الحديثة وفقًا لحدود أيديولوجيا عقائديّة لا تتسع لرؤية إنسان في الوطن خارج رؤيتها، أو وفقًا لمنظور طائفي أو قومي مغلق.
كل محاولة لتقديم الهوية الاعتقادية، أو القومية، أو الطائفية على الهوية الوطنية، تجهض مشروع الدولة الحديثة، وتعيد إنتاج الانقسام، وتقوّض إمكان قيام دولة جامعة، يحتضن فيها الوطن أبناءه جميعًا، ويوفر لهم الأمن والعدالة والمساواة.
الدولة الوطنية لا تنهض على الانتماءات الفرعية، بل تتأسس على ميثاق جامع يحتضن الخصوصيات الثقافية والدينية، لكنه لا يسمح لها بأن تتقدم على الوحدة الوطنية، ولا أن تستثمر في تفتيت أسس الدولة المدنية، أو تهديد عقدها الاجتماعي.
مفهوم "مسلم" الذي تتأسس عليه الدولة الدينيّة، يختلف عن مفهوم "مواطن" الذي تتأسس عليه الدولة الحديثة. المفهومان ينتميان إلى سياقين متغايرين، ويتحدثان لغتين مختلفتين، لا يلتقيان في رؤيتهما للعالم، ولا في شبكة دلالات كل منهما.
الدولة الدينيّة تستند إلى التفسير الكلامي والفقهي للدين، الذي يصنّف الناس إلى مراتب وفئات، ويمنح كلًّا منهم موقعًا في تراتبيَّة الراعي والرعية، وفق نظام هرمي. أما دولة المواطنة الحديثة، فتقوم على القانون والحقوق والحريات، وتتأسس على مبدأ المواطنة، لا على الانتماء الديني أو الطائفي أو العرقي. لا تسأل الفرد عن إيمانه، ولا تحاكم ضميره، ولا تمنح امتيازًا لانتمائه الديني، بل تقوم على عقد اجتماعي تصونه القوانين، وتضبطه المؤسسات، وتكفل فيه الحرية والعدالة والمساواة لجميع المواطنين.
لا راعٍ فيها ولا رعية، بل مواطنون أحرار، متساوون في الكرامة والحقوق والحريات، والمسؤوليات كلٌّ حسب إمكاناته ووظيفته. لا يُساءل أحد عن دينه أو معتقده أو مذهبه، أو قوميته. المواطنة تعني شراكة متكافئة في الانتماء إلى الوطن، يمتلك فيها كل فرد النصاب الكامل من المواطنة، بوصفه إنسانًا له الحق أن يُعامَل بالمساواة، وأن يكون مختلفًا، ومع ذلك تصان حريته، وتكفل كرامته، بلا تمييز ولا تفضيل.
المجتمع كائن مركب، متعدد، متنوع، عميق، تطفو على سطحه اختلافات لا تنتهي في الفهم والمصالح والمواقف. تحقيق العدالة فيه لا يعني معناها الفقهي، وانما يتطلب وعيًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا بالواقع، وتدبيرًا عقلانيًا لِما يسهم في صيانة حقوق الإنسان، وترسيخ سيادة القانون، وتكافؤ الفرص. مَن يفكر في بناء دولة مواطنة في مجتمعاتنا، وفق أفق الفكر السياسي الحديث، لا بد له من استيعاب مفهوم "المجتمع" بمعناه السياسي، الذي يتأسس على رؤية لدولة حديثة تقوم على المواطنة، لا على الانتماءات الموروثة.
المجتمع، بهذا المعنى، هو كيان سياسي يتوحد في إطار دولة واحدة، يعيش على أرض محددة، وينتظم تحت قانون واحد، حتى لو لم تتشارك مكوناته دينًا، أو مذهبًا، أو قومية، أو لغة، أو تراثًا مشتركًا. ما يجمع أفراد هذا المجتمع هو إرادة العيش المشترك، والتضامن في المصالح والمصائر، والالتزام بعقد اجتماعي ينظّم العلاقة بين الأفراد والدولة، على قاعدة المساواة القانونية الكاملة، والحقوق المتكافئة التي لا تختزل في جماعة بعينها، ولا تشاد على هويات ما قبل الدولة.
بعد كلام طويل، لم أجد عنده جوابًا، بل لجأ للتحدث بكلمات زئبقية، تتخفّى وراء ركام من الألفاظ المكررة، التي توحي بأنها تقول كل شيء، لكنها لا تقول شيئًا محددًا، ولا تفصح عن أي تصور واضح لدولة مواطنة حديثة، تضمن كرامة الإنسان، وحريته، ومساواته، وتكفل له الحق في أن يكون مختلفًا. تأملت في كلامه فلم أعثر فيه على جواب لأي سؤال من أسئلتي، كان حديثه غارقًا في التباس وغموض لغوي وفكري، يفتقر إلى أي تصور واضح يمكن أن نحتكم إليه في معنى الدولة، أو صورة نظام حديث يتناغم ومتطلبات حياة الإنسان في هذا العصر.