نموذج الإقناع في الإعلانات بين التضليل والاقناع

شبكة النبأ

2024-04-16 05:07

مَن يُحاول الإقناع لا يفعل ذلك خفيةً؛ فالإعلان يمارس تأثيره بوضوح تحت ضوء شمس ساطع لا يرحم. روسر ريفز «الواقعية في الإعلانات» (١٩٦١)

نظنُّ جميعًا أننا على دراية بآلية عمل الإعلان، فلا يوجد بها ما هو شديد البراعة أو الخصوصية، بل هي في الحقيقة آلية في غاية البساطة. وفي رأيي فإن هذا هو ما يصيبنا بغضب شديد كلما سمعنا عن الرواتب الضخمة التي يتقاضاها رجال الإعلانات واستمتاعهم دومًا بحفلات الغداء الباذخة؛ وهذا لأننا نرى أنهم يتقاضَوْن أموالًا مقابل عملٍ تافِهٍ.

ومنطلق الإعلان في الغالب هو رغبة شركة في إقناعنا بشراء منتجها، وأنا أقول «في الغالب»؛ لأننا نشاهد بين الحين والآخر الحكومات وهي تعلن عن أمور تريد منَّا أن نقوم بها، ولكنني في هذا الكتاب لن أتناول سوى الإعلانات الخاصة بمنتجات أو خدمات ذات اسم تجاري ترغب الشركات في بيعها لنا.

يعود هذا الشكل الإعلاني؛ أي الإعلان عن سلع تجارية، إلى ما قبل ٢٥٠٠ عام على الأقل (فليتشر، ١٩٩٩)، غير أن التعامل معه على أنه ضمن نشاط مُمَنهج لعمليات البيع لم يتم على النحو الذي نعرفه إلا منذ نحو ١٠٠ عام فحسب. ويعود الفضل في ذلك النهج الجديد إلى سانت إلمو لويس، رجل مبيعات من شركة ناشونال كاش ريجستر؛ فمع نهايات القرن التاسع عشر وضع السيد لويس نهجًا للبائعين المتجوِّلين بين المنازل يتكون من أربع خطوات:

- الاستحواذ على «الانتباه».

- إثارة «الاهتمام».

- خلق «الرغبة».

- وأخيرًا، الفوز ﺑ «استجابة» عن طريق إتمام صفقة البيع.

أدَّى انتشار هذا النهج الذي يركِّز على أربعة عناصر (الانتباه، الاهتمام، الرغبة، الاستجابة) إلى بزوغ أول نموذج تطبيقي رسمي للإعلان (باري وهاورد، ١٩٩٠)، ولا يزال يؤمن الكثير من الشركات المُعلِنة في عصرنا أن صناعة الإعلان تقوم على أساس هذا النموذج.

ومِن ثَمَّ، وعودةً للحديث عمَّا تريد الشركة أن تَبِيعه، تكمن الخطوة الأولى في تلك العملية في التفكير في الرسالة أو الاقتراح الذي قد يغيِّر معتقداتنا بخصوص المنتج المعروض ويدفعنا لشرائه. من الضروري أن تكون تلك الرسالة قادرةً على إقناعنا بأن المنتج المعروض أجود، أو أفضل، أو أحدث، أو أذكى، أو أكثر إثارة من منتجات المنافسين، وأنا على يقين من فهمكم لهذه النقطة تحديدًا. تستنبط الشركة تلك الرسالة بالتعاون مع وكالة الإعلان، ولدى اطمئنان الجميع بأن الرسالة تتضمن جميع المميزات التي يتَّسم بها المنتج المعروض، يتوجهون إلى مجموعة أكثر أهمية داخل وكالة الإعلان ويُطلَق عليها اسم «الفريق الإبداعي» (لا بد أن هذا الفريق على قدْر بالِغ من الأهمية؛ لأنه، مثلما تمَّ عرضُه في المسلسل الأمريكي «رجال مجانين»، يحصل على مبالغ مالية كبيرة مقابلَ مجرد التواجد في المكان وتقديم القليل جدًّا من العمل).

يبتكر هذا الفريق فكرةً إبداعيةً لتسويغ ما تحصل عليه الوكالة من العميل من مبالغ كبيرة (وأتمنَّى أن تعذروا سخريتي؛ فلقد عملتُ في صناعة الإعلان لفترةٍ طويلةٍ «جدًّا»). لا توجد أي علاقة بين تلك الفكرة الإبداعية وما يتم الإعلان عنه، وفي بعض الأحيان لا توجد أي علاقة بينها وبين الرسالة التي ترغب الشركة في توصيلها. على أي حال، ما يهمُّ هو أنه لدى شعور الجميع بالسعادة بتلك الفكرة الإبداعية، يمكنهم بسهولة استنباط الرسالة منها، وعليه يُصبِح الإعلان جاهزًا للعرض؛ ومِن ثَمَّ يتمُّ عرض الإعلان على شاشة التليفزيون أو بأي جريدة أو أي وسيلة إعلامية أخرى، وفور إتمام هذه الخطوة، يجلسون منتظرين النتائج … أمرٌ بسيط.

هذه فكرة تقليدية جدًّا لدرجةٍ قد تجعلكم تتساءلون عن السبب وراء تأليفي لكتابٍ كاملٍ عنها، بل إن كلود هوبكينز -وهو أحد رُوَّاد صناعة الإعلان- ألَّف كتابًا عام ١٩٢٣ في هذا الموضوع، وقد أكَّد أن «صناعة الإعلان التي كانت في وقت من الأوقات نوعًا من المُقامَرة، أصبحتْ بمثابة مشاريع تجارية آمنة» (هوبكينز، ١٩٩٨). نظر «هوبكينز» إلى البيع عن طريق الإعلان باعتباره عملية عقلانية قائمة على المعلومات، ولا مجال فيها للهَزْل أو الخروج عن المألوف.

ولكن، وعلى غرار المشاريع التجارية كافة، وفَوْر ابتكارك لشيءٍ ما، سيَظهَر شخص ما فجأةً لتقييم ما ابتكرتَه. وفي هذه الحالة، كان هذا الشخص هو دانيال ستارك، وكان تقييمه قائمًا على عرض نسخة من جريدةٍ ما على الناس تحتوي على إعلانٍ بداخلها، وسؤال الناس إذا كانوا قد قرءوا الإعلان، ثم سؤالهم عمَّا «لاحظوه» بشأنه. كان القصد من نظام ستارك صاحب نظام «القراءة والملاحظة» هو إيضاح إلى أي مدًى أصبح دفعنا للانتباه للإعلان أكثر أهمية بكثير.

ولحلِّ معضلة عدم الانتباه، قرَّر القائمون على وسائل الإعلام في عشرينيات القرن العشرين تعيين خبراء لكتابة إعلانات لعملائهم، وهنا أُجدِّد القول بأن هذا الأمر لم يكن يمثل فكرةً جديدةً تمامًا. تأمل على سبيل المثال ما ذكره ريتشارد أديسون في كتاب «تاتلر»:

تكمن عظمة فن كتابة الإعلانات في اكتشاف الطريقة المناسبة لجذب انتباه القارئ، التي بدونها يمكن أن يمرَّ على القارئ شيء جيد دون أن يلاحظه. (فليتشر، ١٩٩٩)

ربما تشعرون بالدهشة عندما تعلمون أن أديسون لم يَقُلْ هذا الكلام في عشرينيات القرن العشرين أو التاسع عشر، بل قاله في عام ١٧١٠؛ أي قبلَ ثلاثة قرونٍ مَضَتْ. وبعدَها بقليل، قال صمويل جونسون الشهير:

في هذه الأيام هناك الكثير من الإعلانات التي لا تَلقَى اهتمام الناس إلا ما ندر؛ ولذا صار من الضروري أن تجذب انتباه الناس من خلال وعودٍ هائلة، وعن طريق الإبداع، يُصبِح بعضُها فائقًا والبعض الآخَر مثيرًا للشَّفَقة. (فليتشر، ١٩٩٩)

والآن يمكنكم ملاحظة الدور الذي يلعبه الفريق الإبداعي بالجلوس طيلة اليوم دون بذل كثير جهد. لطالما كانت الإعلانات التي لا تُقرَأ بعناية -أو بعبارة أخرى، تلك التي لا يُلتَفَت إليها كثيرًا- مشكلةً كبيرةً بالنسبة للشركات المُعلِنة، ولطالما كان «الإبداع» (الذي يتمثَّل في الفكرة المبتكرة التي يَخرُج بها الفريق الإبداعي) هو الحل الأكيد.

بطبيعة الحال، لم يكن يمثِّل هذا مشكلةً كبيرةً عندما كانت الإعلانات تقتصر على الجرائد فقط. وقد حدث تغيير في كل شيء نتيجة بزوغ عصر التليفزيون التجاري في الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف خمسينيات القرن العشرين؛ ففجأة وبدون مقدمات، صارت ميزانيات صناعة الإعلان تجارةً كبيرة، وصارت وكالات الإعلانات التي تُصمِّم وتُنتج تلك الإعلانات مشاريعَ تجاريةً ضخمة. أدى التليفزيون التجاري -الذي أتى بالسينما إلى غرف معيشتنا- إلى حدوث ثورة عارمة في الفُرَص الإبداعية التي أُتيحت لوكالات الإعلانات؛ ومِن ثَمَّ صار دفع الناس إلى الانتباه للإعلانات فجأةً هو مصبَّ اهتمام «الجميع».

حسنًا، كان لا بد أن يحدث هذا؛ فقد كان التليفزيون التجاري يتَّسم بتكلفةٍ باهظة، وقد ظهر في الأساس بهدف تحقيق عائد من الإعلانات؛ ولذا كان لِزَامًا أن يعرض هذا التليفزيون شيئًا ما يتميَّز بالاختلاف. كان ما عرضه ذلك التليفزيون هو أن يصاحب عرض الرسالة موسيقى وحركة ودراما ومشاهير، وهي أمور أصبحت مألوفة لنا في أيامنا هذه. عندما ظهر التليفزيون التجاري لأول مرة، الْتَفَّ الناس حول أجهزة التليفزيون وهم في أعلى درجات الانتباه، مثلما يكون حال الأطفال اليوم الذين لم يَسبِق لهم مشاهدة التليفزيون من قبلُ. شهدتْ صناعة الإعلان نجاحًا تحقَّق بينَ عَشِيَّة وضحاها، وحصلتِ الشركات التي استثمرت أموالها في تلك الصناعة على أرباح خيالية. وبطبيعة الحال، لم يَدُمِ افتتاننا بالجهاز ذي الشاشة الصغيرة طويلًا، وهو ما زاد من أهمية دَوْر الإبداع.

ولكنَّ النجاح السريع لإعلانات التليفزيون يعني أنه قد نجح في جذب انتباه جميع الفئات ممن يرغبون في ركوب هذه الموجة الناجحة، وكان مِن بينهم علماء ومتخصصون في علم النفس ممن يعتقدون أن بإمكانهم صنع إعلان أكثر إقناعًا عن طريق مخاطبة تطلعاتنا من خلاله؛ ومِن ثَمَّ فقد أثاروا اهتمام العامة ممن لا يهتمون بالمال الممكن تحقيقه من خلال الإعلانات التليفزيونية، بل يهتمون بالأخلاقيات التي قد يقدِّمها لنا، ولم يكن هناك مفرٌّ مِن المُواجَهَة.

ما تسبَّب في هذه المواجهة هو مجموعة كانت تركِّز على ما أُطلق عليه «أبحاث التعليل» التي كان يرأسها عالِم النفس إيرنست ديشتر. حاولتْ هذه المجموعة من الباحثين تحليل سلوك العميل من خلال دراسة جوانب متعدِّدة؛ منها الرمز والاستعارة والعقل الباطن بمنظور فرويد. كانت النتيجة التي توصلوا إليها هي كتابًا نشره مدير قسم الأبحاث بجريدة «شيكاجو تريبيون» بيير مارتينو عام ١٩٥٧. أتاح مارتينو الفرصة أمام كل المُعلِنين لإقناع الناس بشراء منتجاتهم ليس فقط عن طريق تقديم احتياجات عملية فعلية، ولكن أيضًا عن طريق استخدام الاحتياجات العاطفية الخاصة والكامنة؛ تلك الاحتياجات التي لم يكن الناس على وَعْي حتى بأنهم يمتلكونها في الكثير من الأحيان.

أدَّت أنشطة القائمين على أبحاث التعليل إلى نشر كتابٍ كتبه فانس باكارد وهو صحفي، وصار كتاب باكارد «المُقْنِعون المُستَتِرون» من أفضل الكتب مبيعًا، وسرعان ما حقَّق رواجًا، ولا يزال يحقق رواجًا إلى يومنا هذا. في الفقرة الافتتاحية كتب باكارد يقول:

هذا الكتاب بمثابة محاولة لكشف مجال جديد وغير مألوف وغريب على الحياة الحديثة، وهو عن الطريقة التي بها يتم التأثير علينا والتلاعب بنا -بما يفوق إدراكنا- في حياتنا اليومية. هذه الجهود تحدث بشكل عام تحت مستوى وَعْيِنا؛ ومِن ثَمَّ غالبًا ما تكون الرسائل التي تحرِّكنا «خفيةً». (باكارد، ١٩٥٧)

كان موضوع باكارد يتمركز حول استغلال شركات الإعلان الأمريكية بلا خجلٍ الأساليبَ التي قدَّمها مارتينو من أجْل أن تَبِيع لنا منتجات لم نكن نريدها فعليًّا. وصف باكارد أبحاث التعليل التي من خلالها تسبر هذه الشركات أغوار أدمغتنا بأنها «عمل ضد الإنسانية»: في الواقع، هذا امتهان لحقوقنا كآدميين.

فقد وصف باكارد مارتينو وديشتر بأهم نصيرين لأبحاث التعليل هذه، ولكنه ربط ضمنيًّا مجال صناعة الإعلان بأكمله بتلك المؤامرة المفترضة على إرادتنا. لخَّص المشكلة التي طرحها اقتباس نقله عن ديفيد أوجيلفي:

شعرتُ بالدهشة عندما اكتشفتُ أن الكثير من المُعلِنين … يعتقدون أن المرأة يمكن إقناعها بالمنطق والجَدَل كي تفضِّل شراء علامة تجارية على أخرى، حتى عندما تتطابق العلامتان التجاريتان من الناحية الفنية. كلما زاد التشابه بين المنتجات، تضاءل الدَّوْر الذي يَلعَبه المنطق في المُفاضَلة بين العلامات التجارية. (باكارد، ١٩٥٧)

شعر باكارد أن التلاعب بمشاعر العميل من جانب المُعلِنين بمثابة استغلال فيه ظلم له، ولكن من العجيب أنَّ ذلك لم يكن السبب وراء التأثير الكبير الذي حقَّقه الكتاب. في الفصل الرابع من الكتاب، أشار باكارد إلى بحث كشف عن سبب اختيار شخص ما لطراز معيَّن من السيارات على نحو متكرر، وكيف أنه تحت تأثير التنويم المغناطيسي «استطاع تكرار إعلانٍ قرأه منذ ما يزيد عن عشرين عامًا كلمة بكلمة» (باكارد، ١٩٥٧). وبعد أن أثار مخاوفنا بشأن ضعفنا أمام كلٍّ من الإعلانات وأساليب التلاعب بالعقول بما فيها التنويم المغناطيسي، يشير باكارد إلى تجربة نشرتْها صحيفة «صنداي تايمز» اللندنية. تمَّت هذه التجربة في سينما نيوجيرسي وتضمَّنتْ صورًا لآيس كريم تم عرضها «تحت عتبة الإحساس» (أي تحت مستوى الإدراك الواعي). وكانت النتيجة «زيادة ملحوظة وغير قابلة للتفسير في مبيعات الآيس كريم» (باكارد، ١٩٥٧). هذه التجربة كانت تمثِّل أول إعلان على مستوى اللاوعي يُنشَر على نطاق واسع.

نعلم الآن أن زيادة مبيعات الآيس كريم كانت بسبب المناخ شديد الحرارة، ونعلم كذلك أنه تم الخلط بين تقرير باكارد وتجربة ثانية قدَّمها جيمس فيكيري في السنة نفسها، حيث عُرضت فيها بسرعة ٠٫٣ ملِّي ثانية جملتا «اشرب كوكاكولا» و«جوعان؟ تناول فشارًا»، وقيل إن نسبة الاستهلاك لهذين المُنتَجَين زادت بنسبة ١٨٪ و٥٩٪ على التوالي.

اعترف فيما بعد «فيكيري» بأنها كانت حيلةً دعائيةً من شركته الجديدة سابليمينال بروجكشن كومباني (نشر في «بويسي» ٢٠٠٢). كما نعلم أيضًا من واقع خبراتنا أن الدعاية الخفية - وهي رسائل تُعرض بمعدل تكرار يقل عن ٤٠ ملِّي ثانية تقريبًا - ليس لها أي قوة تأثير على تصرفاتنا، وبالطبع ليس بإمكانها تحقيق تأثير على المدى الطويل على اختياراتنا للعلامات التجارية. ولكن، كما ذكرتُ سابقًا، سادتْ تلك الفكرة، وهي لا تزال سائدة حتى يومنا هذا. وبالرغم من حظر الدعاية الخفية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة منذ عام ١٩٥٨، فإن فترة انتخابات الولايات المتحدة عام ٢٠٠٠ قد شهدتِ انشغال الصحف بإعلان تليفزيوني قام به مرشح الحزب الجمهوري آنذاك (جورج دبليو بوش) مستهدِفًا به مرشَّح الحزب الديمقراطي (آل جور)، وزُعِم أن كلمة «فأر» دُسَّت في الإعلان لتوصيل رسالة خفية (هيث، ٢٠٠١).

عودةً بالزمن إلى الوراء، وبالتحديد إلى عام ١٩٥٧، كان لكتاب باكارد تأثير هائل على صناعة الإعلان. تزامن ذلك مع انتشار نظريات المؤامرة الملتصقة بالشيوعية، وليس من المستغرب في ذلك الوقت أن كانت هناك محاولات مضنية من جانب القائمين على صناعة الإعلان لدحض ما كان يُظن أن باكارد قد كشفه. أوضح روسر ريفز، رئيس مجلس إدارة وكالة تيد بيتس للإعلان، ورجل صناعة الإعلان الأكثر تأثيرًا داخل الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحقبة، آراءه في كتابه «الواقعية في الإعلانات»، وقد ذكر في فصل يحمل اسم «خدعة فرويدية» ما يلي:

… مَن يحاول الإقناع لا يفعل ذلك خفية؛ فالإعلان يمارس تأثيره بوضوح تحت ضوء شمس ساطع لا يرحم. (ريفز، ١٩٦١)

كان «ريفز» يؤمن إيمانًا قويًّا بضرورة التحلِّي بالأمانة في صناعة الإعلان، وكان إيمانه هذا نابعًا من الاعتقاد واسع النطاق بين عموم القائمين على صناعة الإعلان بأنهم جميعًا يَسعَوْن سعْيًا حثيثًا وراء ممارسة نوعٍ صادقٍ من تجارة إرسال رسائل مقنعة لعامة الناس، وأنه لا وجود لأي خداع في عملهم. بحلول عام ١٩٩٩، ذكر أحد رجال صناعة الإعلان في كتاب «زمن الإعلان» أن صناعة الإعلان لا تَخرُج عن كونها «تواصلًا أحاديَّ الاتجاه: ابتكار وإرسال الرسائل» (دنكان وموريارتي، ١٩٩٩). فأيُّ خطأ في هذا؟

بالطبع، ابتكار وإرسال الرسائل هما وجهان لعملة واحدة. وبالطريقة نفسها التي ركَّز بها القائمون على صناعة الإعلان على جذب انتباهنا حتى نهاية خمسينيات القرن العشرين، انصبَّ تركيز القائمين على صناعة الإعلان في ستينيات القرن العشرين وما بعدها على هدفٍ آخَر، وهو جَعْلُنا «نتذكر» الشيء الذي انتبهنا إليه.

كان ريفز يعي جيدًا مدى أهمية هذا الأمر، فقد ذكر في كتابه أن «المستهلك غالبًا ما يتذكر شيئًا واحدًا فقط من الإعلان؛ كأن يتذكر ادِّعاءً قويًّا واحدًا أو مفهومًا قويًّا واحدًا» (ريفز، ١٩٦١). وللتغلُّب على هذه المشكلة، ابتكر ريفز «وعد البيع الفريد» وهو «الشيء الوحيد الذي سيدفع الناس لشراء منتجك»، وما زال «وعد البيع الفريد» مستخدمًا في جميع شركات التسويق الرائدة، ولكن، وعلى الرغم من استمرار استخدام هذا الأسلوب، صار اسم روسر ريفز طيَّ النسيان هذه الأيام متقهقرًا خَلْف اسمٍ أكثر شهرة بكثير وهو جوردون براون.

يقول البعض إن جوردون براون قد صار الاسم الأكثر تأثيرًا في تاريخ الإعلان، ولا يعود السبب في هذه الشهرة إلى صُنعه أو كتابته للإعلانات أو إدارته لإحدى وكالات الإعلان، ولكن لأنه شارك في تأسيس شركة الأبحاث البريطانية ميلوارد براون. كان نظام تتبُّع إعلانات شركة ميلوارد براون مسئولًا عن نشر استخدام «التوعية بالإعلان عن طريق الأسماء التجارية» وهي أداة بحثية يتم استخدامها في تقييم فعالية الإعلان على مستوى العالم.

ولكن كيف حدث هذا؟ لقد اقتنع جوردون براون بأن التذكُّر العفوي الحقيقي للإعلان لم يَعُد ذا قيمة كبيرة في عالمٍ صارت أركانه تَصدَح بصناعة الإعلان. وبعيدًا عن أي أمرٍ آخَر، صار الناس أكثر عُرْضة للكثير من الإعلانات إلى حدٍّ صار مِن الصَّعْب معه تذكُّرها جميعًا مرةً واحدة؛ لذلك طرح براون سؤالًا أكثر دقة للتأكيد على التذكُّر إذ قال: «نحن نعرض قائمة من العلامات التجارية ونسأل الناس: أيٌّ من تلك العلامات التجارية رأيتموها تُعرَض على شاشة التليفزيون مؤخرًا؟» (براون، ١٩٨٥). صاحَبَ تقييمَ التوعية بالإعلان عن طريق العلامات التجارية سؤالٌ كان يُطرَح على الناس بخصوص بعض التفاصيل التي يتذكرونها من الإعلان. والجمع بين هذين المقياسين، حفَّز على تشكُّل رؤية مبسطة أخرى لفعالية الإعلان، فعلى سبيل المثال، يصف براون الإعلان الذي يفشل في الحصول على نسبة تذكُّر عالية بأنه «كارثة»، ويصف الإعلان الذي ينجح في الحصول على نسبة تذكُّر عالية بكلمة «انتصار» (براون، ١٩٨٥). وكانت النتيجة بكل تأكيد أن صار الإبداع الذي وُجد في الأساس من أجل جذْب انتباهنا للإعلان مطلبًا أساسيًّا جنبًا إلى جنبٍ مع دفعنا لتذكُّر الرسالةِ وجزءٍ من الإعلان الذي عرض تلك الرسالة.

إذن هذا هو نموذج الإقناع، واقتباسًا من معظم القائمين على صناعة الإعلان، فإن الإعلان يتمحور حول توصيل رسائل بسيطة ومقنعة ومنطقية قد تؤدي بدورها إلى تغيير مفاهيمنا وتدفعنا إلى شراء المنتج. يكمن الإبداع في دفعنا إلى الانتباه إلى تلك الرسائل، حيث يؤدي ارتفاع درجة الانتباه إلى نسبة تذكُّر أكبر. يرتبط الإبداع أيضًا بوضع شيء بارعٍ أو استثنائي في الإعلان؛ لأن هذا الأمر سيؤدي إلى زيادة فُرَص التذكُّر ولو جزءًا واحدًا من الإعلان. لا يوجد مكان لخدعةٍ ما، أو حيلةٍ بارعة، أو حتى تلاعب، فكل الأمور واضحة وجلية تحت أنظار الجميع.

إن كان هذا هو الحال -بمعنى أنَّ صناعة الإعلان تحاول توصيل رسالة بسيطة ومقنعة، وأنَّ كل ما يحاول الإبداع فعله هو أن يجعلنا ننتبه إلى هذه الرسالة ونتذكرها- فإننا كعامة الناس بمقدورنا ألَّا نُلقِيَ للإعلان بالًا لأننا إذا نسينا أو اخترنا أن نتجاهل رسالة الإعلان، فلن يكون لهذا الإعلان أدنى تأثير علينا.

ولكني أُومِن بأن نموذج الإقناع هذا مضلِّل، لا أقول إن الإعلان غير قادر البتة على إقناعنا؛ لأنه يستطيع أن يفعل ذلك في بعض الأحيان، ولكنْ إنْ كان هذا هو كل ما يفعله الإعلان في واقع الأمر، فإننا نستطيع أن ننعت إعلان شركة أو تو «عديم الرسالة» بالفشل، وكذلك الحال بالنسبة للإعلان المذكور في دراسة الحالة التالية عن السيارة رينو كليو.

* مقتطف من كتاب: (إغواء العقل الباطن: سيكولوجية التأثير العاطفي في الدعاية والإعلان)، لمؤلفه: روبرت هيث، ترجمة محمد عثمان خليفة، نشر مؤسسة هنداوي

ذات صلة

بين موت الغرب ونهضة الشرقالبنية الحجاجية.. خطبة الزهراء (ع) مثالامتى يحق للمواطن المشاركة في القرارات الحكومية؟الإدارة الأمريكية الجديدة وتصوّرات الصدام والتوتر والوفاقالحياة المشتركة في الشرق الأوسط