الكاتب الذي لا يتثائب
محمد علي جواد تقي
2023-11-14 07:22
إنها لمُتعة كبيرة أن يرى الكاتب أفكاره أمامه حيّة تنبض بالكلمات المعبّرة والجميلة، قد تحولت من صورة ذهنية لا يستشعرها إلا هو، الى صورة واقعية يتحسسها الآخرون.
والمُتعة الأخرى؛ في استشعار القارئ بوجود همومه وطموحاته في قالب فني وعلمي رصين، وقد حظيت باهتمام كاتب صحفي ينشر في اصدار ورقي، او الكتروني، كما يغمُر البعض شعورٌ بالزهو وهو يرى صورته منشورة في موقع الكتروني شهير، او على شاشة التلفاز.
وبين هذه المُتعة وتلك، ثمة نقطة التقاء المُتعتين تنتج لنا وهجاً معرفياً يضيئ لمسارات الوعي واليقظة والكشف عن حقائق اساسية في الحياة، مثل؛ الايمان، والحرية، والتضحية، وتحمل المسؤولية، وهكذا تتوفر علاقة تكاملية بين الكاتب ومخاطبه، وهذا يصدق بالدرجة الاولى على الكتابة الصحفية ذات الاستمرارية في النشر، ومواكبة الاحداث، وايضاً؛ على الكتابة الأدبية المشتملة على المواد الأدبية المعروفة، من شعر، وقصة، ونثر، وخاطرة، فيجد الاثنان أنهما في قارب واحد يشقّان طريقهما نحو الاهداف السامية في الحياة.
الألم والأمل
الألم من سنن الحياة، وفي احيان، من لوازمه، فالانسان نفسه لن يرى نور الحياة في ولادته إلا بتجرع أمه غصص الألم، ولن يتخلص من غدة خطيرة داخل جسمه إلا بعملية جراحية مؤلمة يكون فيها المبضع سيد الموقف.
وهكذا مسيرة الحياة والكفاح لكسب لقمة العيش، بل وحتى لتحقيق غايات سامية مثل، طلب العلم، والحرية، والعيش الكريم، فهي لن تتوفر إلا بعد تذوق مرارة الفشل في الجولات الأولى، وأحيانا التعرض لليأس ومشاعر سلبية قاتلة يحتاج معها جرعات أمل وحياة، وحزمة من المشاعر الايجابية تنقله من لحظته المأزومة الى آفاق المستقبل، ولعل هذا يبلور أحد اهم أدوار الكاتب الناجح في تحويل الألم إلى أمل، والمرارة إلى حلاوة، ليس بالوعود المعسولة والأحلام الوردية، وإنما باستنهاض الهمم للتغيير الذاتي، مع المساعدة على توفير الأدوات مثل؛ الإيمان والأخلاق والقيم الإنسانية.
وبالقدر الذي يشعر القارئ بتسامي الكاتب على همومه الخاصة، وتفضيل المصلحة العامة على خاصته، فأن المهمة الصعبة آنفة الذكر تحظى بنسبة اكبر من النجاح، لأن ببساطة؛ الكاتب احد أفراد المجتمع، بل الملاحظ أنه يعيش الحالة دون المتوسطة في التدرج الطبقي، فهو مثل الكثيرين يصعب عليه تكوين ثروة من خلال عمله الفكري البحت يحسن بها مستواه المعيشي، بما يعني انه على طول يكافح على مسارين؛ وضعه المعيشي المترنح، و وضع المجتمع و مكابدته المشاكل المعيشية والازمات الثقافية المحتاجة بشدة لاقتراحات عملية لحلها، وهي بحد ذاتها ليست بالمهمة السهلة عندما تتقاطع هذه الاقتراحات مع مصالح حزبية وفئوية منتشرة بشكل سرطاني في بعض أجهزة الدولة.
لا ينضب
انه سؤال جميل وجدير؛ من أين يأتي الكاتب بكل هذه الأفكار ويحولها إلى مقالات تنشر بين يوم وآخر؟ وهل يمكن تصور يوما نجد فيه نضوب افكار كاتب ما؟
بلى؛ يمكن تصور هذا، لأن الأفكار ليست حكراً على أحد عندما تفتقد لجذوة الشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين، هذه الجذوة المتقدة في الذهن، وقبلها في القلب هي التي تنتج الأفكار والحلول والبدائل لما هو افضل، بينما البرود في المشاعر أمام ظواهر سلبية و واقع سيئ، مع شرود بالأفكار بعيدا عن الواقع نحو الأماني، او رسم واقع بديل غريب عن الثقافة السائدة، هو الذي يدفع صاحبها لاستشعار الملل واليأس مما يكتب ويقول بما يشبه "حوار الطرشان"!
اعرف كتاباً انطلقوا رساليين-بما تعنيه الكلمة- ثم صاروا نرجسيين، يخشون على أفكارهم وأسمائهم اكثر من خشيتهم على مستقبل شعبهم، كما اعرف – ويعرف معي جمهور القراء- كتاباً قارعوا المحن، وتحدوا الصعاب ليستمروا بالعطاء الثرّ حتى مماتهم، فخلفوا افكاراً عميقة وواقعية، ومانزال نرى اهتمام شباب اليوم بمؤلفاتهم ونتاجاتهم التي رأت النور قبل أن يروا هم نور الحياة بسنوات طوال.
الكاتب الذي لا تنضب أفكاره ولا يتثائب هو من لا يفقد شعور الفخر والاعتزاز بدور الخفير على عقائد الناس وهويتهم وحقوقهم، متحدياً في سبيل هذا كل العقبات والمنغّصات، فهو في حالة اليقظة الدائمة، يفيض على جمهوره من اليقظة والوعي الكثير ليكونوا مؤهلين للمشاركة الواثقة في صنع القرار وتقرير المصير، ومن ثمّ المشاركة بانفسهم في معالجة ما يعانوه من مشاكل و ازمات.