أنا والقراء: محنة الكتابة والتأويل
ابراهيم العبادي
2022-12-08 06:04
في معرض حديثه عن بدايات شغفه بالدراسات الفلسفية المعمقة، كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل بول ريكور (1913- 2006) عما يسميه حاجته الى السبر الحر للأسئلة المحرجة التي تقف عند حدود التفكير، حيث درب نفسه في مملكة الأفكار كما يقول ليخرج لنا بعد مخاض عمر طويل كتبا عديدة، كان بينها كتابه عن (صراع التأويلات) وهو محصول للصراع الفكري والفلسفي والنقدي والمنهجي، الذي تأسس عليه الفكر الغربي منذ منتصف القرن الثامن عشر، وهو صراع يقوم على حرية الفكر والتفكير كما يقول مترجمه الدكتور منذر عياشي (2005).
يشهد عالم الكتابة والقراءة صراع أفكار ومجادلات تأويل واختلافات فهم على نطاق واسع، اذ تتفاوت مستويات الفهم والإدراك بين البشر عموما، وما يخرج من عالم الكتابة إلى عالم استهلاكها - حيث تحتشد ّ عقول القراء- يصبح ملكا مشاعا، رغم أنه ملكية (فكرية) خاصة، فالكاتب -اي كاتب - يكتب معبراً عن رأيه وفهمه وتأويله ووساوسه وغاياته، انه يسوق منتجا للجمهور بهذه التوليفة من (الاهداف)، قاصدا المشاركة والتفاعل في فهم الواقع وتحسينه أو تغييره والتنبؤ بالمستقبل وترصينه.
الكتابة فكر ونظر، وسرد وبوح، وفهم وتجميع واجتزاء، وابداع وتقليد ونسخ، واحيانا خداع وتضليل وتعمية وتسويق، ليس الكتاب على سواء، كما ليس القراء على مسطرة فهم واحدة، غير أن الطريف في الأمر، أن النص، أي نص، مهما كان متينا أو عميقا أو مسطحا أو ضحلا، لا يبقى على عذريته لحظة وقوعه على بيد القراء، بل يعاد الالتحام به، فيتفاعل مع منظوماتهم وقبلياتهم وهواجسهم ومخاوفهم وامانيهم ورغباتهم، محصلة ذلك ما يظهر من إشادات أو ارتياح، أو قلق أو رفض، أو نقد أو شتيمة، بل يصل رد الفعل احيانا إلى الثأر والانتقام.
الكاتب في محنة مع جمهور قرائه، والجمهور في محنة مع افهامهم وادراكاتهم، حيث تتعدد طبقات الفهم والإدراك. بدهي أن الكتابة في الشأن الفكري والسياسي الـعـراقـي، تستلزم اعترافا باتساع مديات الاخــتــلاف والــقــبــول، مــع أو ضــد، كثيرون لا يستطيعون الخروج من عالم الثنائيات الأثير، ثمة قارئ يحاكم نواياك، يعزوها إلى ما يتخيل من مصالح وأهـداف، وقارىء يشاركك الرأي ويقبل جزءا ويعارض آخر، وقارئ يشتمك لأنك ويقبل جزء تضغط على الجانب الذي يريده مسكوتا عنه، وأنت تكشفه وتجعله عاريا، الحقيقة لا تقبل التغليف، إنها عارية على كل حال، قارئ آخر عميق الفهم يلتقط ثيمات الكتابة ويتطابق معك في الفكرة أو قد يعارضها، من حيث إنها لا تتسق مع منظومته الفكرية وولاءاته السياسية، التصنيف حاضر دوما، لا يفهمك القارئ إلا بعد أن يصنفك، من أنت؟ من أي اتجاه فكري؟ ماذا تريد من بضاعتك المعروضة؟ التصنيف هو أسهل طرق استجلاء الحقيقة.
لكن يبقى جزء من جبل الجليد المغمور بالماء، يصعب اكتشافه إلا بالتأويل، تأويل الكلام، تفكيك النص، هنا تتجسد محنة الكتابة والكاتب، الفكر النقدي مكروه، ثقافة النقد فقدت أطرها وأخلاقياتها وصارت ابتذالا وابتزازا في عصر حرب الكل ضد الكل، كما يقول توماس هوبز، المجتمع يمور في صراعات سياسية وهوياتية وحزبية ومناطقية، والتعبير عن الرأي في زمن الصراعات ضرب من المقامرة، فأنت لا تدري ِ أي خسارة ستواجهها إن لم يأت الرأي موافقا لما يرغب به الجمهور، التفكير بالرغبات والاماني هو السائد thinking Wishfull ,وكل جمهور له أيديولوجيته وانحيازاته ومصالحه، في الصراعات والنزاعات لامجال للحقيقة إن لم تكن موافقة كليا أو جزئيا لما يرغب به الجمهور، يشتمك أحدهم لأنه يظن أنك مسست السياج الارثوذكسي الـذي يتحصن به، يعتبره خطا أحمر، يمتدحك آخر لأنك كنت جريئا وناقدا وشجاعا، ويغريك بأن الشجاعة الأدبية هي ما يميز الكاتب الجاد صاحب المبادئ، يريدك آخر أن تظل حصينا بقلعتك الأيديولوجية، فاذا نقدت عيوب الماضي وعلل الحاضر، قالوا عنك هذا ليس من منظومتنا الفكرية، ولا ينتمي إلى اصالتنا التاريخية، بل هو الخروج عن المسطرة التي صممها وصنعها رجالات عهد ماض.
خذ مثالا على ذلك، اذا كتبت عن إعادة النظر في مفاهيم ذات جذور فكرية -عقدية، لضرورات ملحة يقتضيها واقع المجتمع والدولة، صرت متأثرا بالموجة الثقافية الجديدة، وفقدت إصالتك وتصنيفك (الاسلامي)، اذا دعوت لقراءة متبصرة بالواقع الاسلامي، وحاولت أن تتفلت من الخطاب الرسمي المتخشب الصلب، صرت مشاركا في الحرب الناعمة، التي يشنها المستكبرون على المستضعفين المقاومين!
إذا قلت إن الجمود على خيارات بعينها ليس ضرورة أو فريضة أو التزاما بجانب الصواب، إنما اجتهاد في مقابله ألـف اجتهاد ونظر، قالوا ليس من حق العقول المرتابة ان تفكر في قبال عقول متيقنة، أنت اذن مجبور أن تعيش في مزرعة تفكر بدورك ولا تتجاوزه، المزرعة تدار وفق الأدوار، وظيفتك التعبئة وحماية أمن المزرعة من اعداء الخارج، لا عليك بما يحصل من صراعات ومشاجرات وتنافس داخل حدود المـزرعـة، دع النظام يسير كما هو كائن، لا وقت لدينا لسماع ما ينبغي أن يكون، الوقت لا يسمح بضياع الجهد للتجديد والتجريب واعادة التفكير، عندما يهزل النظام داخل المزرعة، وتتضعضع إدارتها، وتصبح عاجزة عن حماية ذاتها، كن انت أول استشهادي يذود عن حماها، فالموت من أجل المثل العليا أسهل من الحياة مع العقل الناقد الحر، الأخير يعلمك النهوض والحياة بحرية، والأول يريدك أن تموت على يقين فهو حريص على آخرتك لا على حياتك. إنه يريد إدخالك الجنة بشروطه.
اما الاسئلة المحرجة التي تقف عند ابواب التفكير كما يقول ريكور فهي مؤجلة عند هذا الصنف من القراء، أو إنها مكبوتة، بل قد لا يفكر بها مطلقا، السؤال بداية المعرفة، وإعـادة التذكير بالأسئلة وفق منظورات جديدة معرفة مستأنفة متجددة، هو لا وقت لديه لهذا النمط من الاسئلة والأجوبة، انه مكلف بإداء دوره في مزرعة الحيوان الكبرى ولا شيء أكثر.