الرأي العام واستراتيجية التلاعب بالشعوب
مصطفى ملا هذال
2021-01-03 04:50
جميعنا نلاحظ مدى اهتمام رؤوساء الدول والزعماء بالخطابات والمؤتمرات الأسبوعية، التي يعززون فيها مكانتهم ويوضحون المستجدات في أفكارهم، لادامة التواصل مع جمهورهم الداخلي والخارجي.
يجري وعبر هذه الخطابات التركيز على بعض النقاط التي تخدم السياسة المرحلية وتجاهل الكثير من الأمور التي قد تغير قناعات بعض الأشخاص في حال سماعها بظل ظروف معينة يصعب السيطرة بها على الرأي العام.
ويعرف الرأي العام بأنه (الرأي السائد بين أغلبية الشعب الواعية فى فترة معينة بالنسبة لقضية أو أكثر، يحتدم فـيها الجدل والنقاش وتمس مصالح هذه الأغلبية أو قيمها الإنسانية الأساسية مسًا مباشرًا).
كثيرا ما تُثار التساؤلات حول كيفية تغيرر قناعة شعب ما برئيس دولة او زعيم حزب بعدما تم اختياره بطريقة الانتخاب المباشر من قبل الجماهير، اذ تقوم فئات واسعة بالخروج ضده والتنديد بساياته وافكاره، فتأخد حدة الغضب بالتصاعد لتصل الى مرحلة المطالبة بسجنه.
تستخدم الأنظمة الحاكمة العديد من الأساليب للتأثير في رأي الأغلبية لاسيما في المجتمعات التي تشهد إضطرابات متعددة، وتقلبات مستمرة، ولم يتوقف هذا التأثير على مدى وعي الشعب ونباهته، بل يعتمد على قوة الأسلوب المؤثر لتغيير قناعات الشعب وتحويله من رأي الى آخر مختلف عنه بالتمام، واقرب الأمثلة على ذلك هو الشعب الألماني عندما اعتنق النازية وسار مع هتلر لغزو العالم هل كان جاهلا؟، وهل الشعب الأمريكي الذي يجري التلاعب به من الساسة لا يحظى بتعليم جيد؟
ومن بين الأمثلة على استخدام هذا الأسلوب ما جرى في الولايات المتحدة سنة 1916، بعد أن نجح الرئيس ويلسون في انتخابات الرئاسة الأمريكية، بشعار «ويلسون أبقانا بعيدًا عن الحرب»، بينما نلاحظ عامة الشعب يفضلون السلام ويكرهون الحرب ولا يحبذون الدخول بها حفاظا على الأرواح.
وبعد العمل الجاد على تغيير القناعات حدثت المفارقة، وانساق الشعب الرافض نفسه وراء رغبة ويسلون الذي كسب الانتخابات بدعوته للسلام، ويقول نعوم تشومسكي عن هذا الحدث في كتاب السيطرة على الإعلام، "أنشأت الإدارة الأمريكية لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها «لجنة كريل»، تمكنت وخلال ستة أشهر من تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم هيستيريا الحرب، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وإنقاذ العالم في الحرب العالمية الأولى".
ويوضح تشومسكي ما قامت به اللجنة التي استخدمت ضمن وسائلها، فبركة قصص عن مذابح يرتكبها الألمان، واتضح أن هذه القصص من اختراع وزارة الدعاية البريطانية التي كانت تستهدف توجيه فكر معظم دول العالم.
كما انها عمدت الى اتباع أسلوب آخر لتحقيق ما تصبو اليه لزيادة رقعة التأثير/ من اجل ذلك طرحت فكرة «رجال الدقائق الأربعة»، وهو جيش مكون من 75 ألف متطوع، يلقون خطبا وطنية تثير الحماسة في الأماكن العامة لمدة أربع دقائق فقط، كي لا تتجاوز الخطبة فترة الانتباه، التي كانت تقدر آنذاك بأربع دقائق.
لا يمكن حصر الأمثلة على أساليب التلاعب بالرأي العام وتوجيهه حيث يريد المنتفعون منه، فبين عامي 1950 و1954 انتشرت حمى التخويف من الشيوعية التي اطلق عليها مصطلح (الذعر الأحمر) بالولايات المتحدة، بقيادة السيناتور جو مكارثي، الذي استغل حمى الانتقام من الشيوعيين، وقاد اتهامات التخوين والعمالة تجاه المعارضين.
ولا يحتاج الامر مزيدا من الأدلة لتوجيه الضربات القاسية بل اقتصر على وصف أي شخص أو أشخاص بأنهم شيوعيون، ليتم التنكيل بهم وفصلهم من أعمالهم وحبسهم وملاحقتهم وطالت الاتهامات شخصيات بوزارة الخارجية والبيت الأبيض، ووزارة الخزانة إبان حكم الرئيس الجمهوري إيزنهاور، الامر الذي قاد الى تكوين حالة من الخوف والشك في جميع أنحاء البلاد، اضف الى ذلك عدم استطاعة أحد الوقوف أمام مكارثي خوفًا من وصفه بأنه خائن!
ونتيجة لهذه طريقة التعامل ظهر الى ارض الواقع مصطلح «المكارثية» لوصف حالة اتهام وتخوين المعارضين دون أدلة وخلق أجواء الذعر من معارضة النظام بحجة الخوف على الوطن وحمايته من الأعداء.
ولم تكن دوافع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 تخرج عن هذا الإطار فبعد ترويج أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل تشكل خطورة كبيرة على العالم، والتأكيد مرارا على هذه النقطة لاقناع الرأي العام الأمريكي بأن الحرب ضرورة ملحة من الضروريات لحفظ الامن العالمي ومنع المحاولات التي تعمل على تهديده، بينما اتضح العكس تماما، بعد ان وضعت الحرب اوزارها وتبين ان ادعاء وجود الأسلحة كان اكذوبة واضحة ولا تركن لاي سبب حقيقي.
ومن بين أساليب التأثير على الرأي العام هو استخدام العقلانية الحقيقية لتقديم الأفكار، اذ يتبع هذا الأسلوب لنشر ألافكار التي يصعب تقبلها، اذ يقوم موجهها بدمجها مع الخطاب الهادئ الذي يقوم على ترسيخ روح العزة في النفوس والتذكير بالمكانة التي يحتلها الشعب دون غيرها.
فالمذبحة الرواندية عام 1994 التي قُتل فيها حوالي 800 ألف شخص من أمثلة هذا الأسلوب إذ تم توظيف وسائل الإعلام وحثها على نشر الكراهية، واستباحة دماء عرقية التوتسي، وحدث ذلك عبر تكرار جملة «التخلص من الصراصير»، ويستخدم مُروجوا الكراهية مصطلحات حيوانية في دعايتهم لنزع الصفة الانسانية عن الضحايا، لتهيئة الجماهير نفسيا لاستهدافهم وعدم التعاطف معهم.
صفحات قليلة لا يمكنها حصر الاحداث العالمية التي تؤكد قوة الإعلام والأساليب الأخرى على تغيير الرأي العام، والتلاعب بعقلية الافراد وتشكيلها حسب الاهواء وتوجهات قادة الشعوب.
اذ يمكن التوصل الى حقيقة ملموسة مفادها ان العقول البشرية يمكن استخدامها كالعجين الذي نصنع منه اشكالا فنية وتحفية متنوعة، تجسيدا لما يدور في مخيلة الفنان او صاحب الشغف بهذه الاعمال، ووفقا لهذه المرونة يتم التعامل من قبل أصحاب القرار السياسي لتلوين الأفكار وتوجيهها حسب ما تقتضيه مصالحهم القائمة على تحقيق المنافع الشخصية وبما يعود عليهم بالفائدة الآنية.