إقتصاديات الثقافة
د. عبد الحسين شعبان
2020-01-30 06:11
ثمة أسئلة أخذت تطرح نفسها بإلحاح في السنوات الأخيرة مفادها ما هي العلاقة بين الثقافة والتنمية؟ وهل يمكن للثقافة أن تدرّ اقتصادياً على المجتمع؟ وهل تقود الثقافة التنمية أم العكس هو الصحيح؟ وبعد ذلك ما هي أبرز الاستثمارات الثقافية في اقتصاديات العالم اليوم من سياحة وسينما وفنون وتواصل بين الشعوب والمجتمعات والبلدان؟ وأين موقع بلداننا العربية من ذلك في ظل العصر الرقمي ومجتمع المعرفة والذكاء الاصطناعي؟
وعلى الرغم من أن جميع الدساتير العربية تتضمّن نصوصاً تؤكد على أهمية "رعاية الدولة للثقافة" التي هي "حق لكل مواطن"، لكن ما هو سائد في الغالب أن الثقافة ووزارتها تعتبر أدنى مستوى مما يطلق عليه الوزارات السيادية التي يجري الصراع عليها أحياناً في بعض البلدان بين الكتل المتنافسة، مثل وزارات الداخلية والدفاع والمالية والنفط وغيرها.
ولعلّ فكرة "الرعاية" تجعل السلطة الحاكمة تتحكّم في الثقافة لاعتبارات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو آيديولوجية قومية أو دينية أو طائفية أو غيرها، بفعل محاولة توظيفها بما يخدم مصالحها ويعزز من موقعها ونفوذها، في حين أن الثقافة مقترنة بالمعرفة من حيث إنتاجها ونقلها ونشرها وتعميمها، تلك التي ينبغي أن تكون في متناول المجتمع، وقد كان العرب تاريخياً يعلون من شأن الثقافة والمثقف والأديب والكاتب، إلى أن تفكّكت الدولة العربية وانحدرت وعاشت الأمة فترة مظلمة من تاريخها، فصار ينظر إلى الثقافة كرأس حاجة ليس إلّا ، أو ترفاً غير منتج، بل لا علاقة له بالإنتاج.
وقد برزت أهمية اقتصاديات الثقافة في ربع القرن الماضي على نحو واسع ترافقاً مع الطور الجديد للثورة العلمية - التقنية والطفرة الرقمية " الديجيتل" وتكنولوجيا الاتصالات والمواصلات، حيث أصبح للثقافة دور محوري في عملية الاقتصاد، بالضد من الاعتقاد الذي كان سائداً، بل مهيمناً، لسنوات طويلة من أن الثقافة بشكل عام لا مردود مادي يذكر منها، في حين أن الثقافة إذا انتشرت في مجالات الحياة المختلفة، فإنها ستؤثر على التنمية بجميع مجالاتها وهو ما نطلق عليه "التنمية المستدامة"، أي " توسيع خيارات الناس" ويمكن ملاحظة ذلك من خلال نشر الوعي الثقافي بشكل عام والثقافة الاجتماعية بشكل خاص وكيف يمكن أن تؤدي دوراً إيجابياً على مجمل عملية التنمية، بل على مجموع الحياة العامة بترشيد استخدام الموارد وتقليص النفقات في القطاعات المختلفة ورفع الشعور بالمسؤولية، لاسيّما في ظل السلوك الثقافي المدني والمتحضّر.
وعي ثقافي
وإذا ما تكرّس الوعي الثقافي والفهم الحضاري لدور الثقافة فإن ذلك ينعكس إيجاباً على احترام النظام العام والوقت والذوق العام ومعايير الجمال والحُسن وقيم السلام والعدل والتسامح والخير واحترام الآخر، بما يؤثر على الاقتصاد والتنمية وذلك من خلال تكاملها مع الثقافة، عبر العلاقة التبادلية التفاعلية، وإذا كان الاقتصاد محورياً في عملية التنمية، فإن لا تنمية حقيقية دون الثقافة بما فيها ثقافة اقتصادية، أو بمعزل عنها، وهكذا تنشأ العلاقة المتداخلة والمتعاشقة بينهما والتي لا يمكن فصلها.
والثقافة لا يمكنها أن تحقّق آمالها وطموحاتها وتواكب الجديد وتواجه تحدّيات العصر دون دعم مالي، فالمال هو العمود الفقري للثقافة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك في ظل اقتصاد متخلّف، بل تحتاج المسألة إلى اقتصاد متطوّر وعصري يستجيب لحاجات الثقافة، لاسيّما توفير الأموال لدعمها مجتمعياً واستثمارياً من جهة، والمساهمة في عملية التنمية من جهة أخرى ، بما فيها إيجاد فرص عمل وتقليص مستوى البطالة من خلال السياحة الثقافية المتنوّعة أو عبر السينما أو المسرح أو مراكز الترفيه الثقافية المختلفة أو المعارض الفنية والمؤتمرات الثقافية وكل ما له علاقة بالفن والأدب.
وهكذا كلّما تعزّزت الثقافة اغتنت التنمية، والعكس صحيح من خلال الأدوات والوسائل بما يعلي من شأن الاثنين معاً، ناهيك عن جذب فرص عمل جديدة، وتوظيف الابتكار والتطوير والتجديد من خلال العرض والتسويق والتشويق للمنتج الثقافي والاقتصادي، بما يعكس ثقافات الشعوب وحضاراتها المختلفة، وهناك اليوم من يضع التواصل بين البشر وتبادل المصالح في المقدمة تحت عنوان "مختلفون بلا خلافات" تعبيراً عن هويّات متنوّعة بهدف تحقيق التكامل والتفاعل والتعاون، من خلال التفكير والسلوك للمجتمعات المختلفة بما فيها من تاريخ وفنون وآثار ولغات وفولكلور.
وكل ذلك يجري في عملية اقتصادية متراكبة،بما فيها من لقاءات وعلاقات عامة وتسوية المشكلات والخلافات وفتح آفاق تعاون جديد في المجالات المختلفة ، وهكذا تتفاعل سياقات الثقافي بالتنموي من خلال المنافع المتبادلة، علماً بأن الاقتصاد هو التعبير المكثّف عن السياسة، وهو المؤثر الأكبر فيها وهو الملهم للثقافة أيضاً، وأحد معاييرها تمايزاً وتواصلاً، ذلك أن امتلاك وسائل المعرفة واستثمارها بكفاءة عالية من خلال دمج المهارات والتقانة المتطورة، إضافة إلى تنمية الموارد الثقافية وتحويلها إلى موارد اقتصادية يمكن أن ترتكز على تجربة تنسجم مع العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي أو ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة.