الحد الفاصل: دورة حياة الدعاية الانيقة والبذيئة

مسلم عباس

2019-07-24 06:04

هل سمعت يوماً عن مفهوم للدعاية اسمه "الدعاية البذيئة" او "الدعاية الانيقة"، قد لا تجد في القواميس عنواناً كهذا، لكن الدعاية السياسية في جوهرها هي فن التاثير بالرأي العام عبر استخدام أساليب متعددة، تصل الى استخدام التضليل او التزوير، او الهبوط بمستوى الخطاب عبر كلمات يصعب على رجل الشارع نطقها، في مقابلها تستخدم بعض الأجهزة الدعائية لغة عالية لا تجدها الا في كتب الفلاسفة، هذين النوعين، الخطاب البذيء والانيق يوجد منهما الكثير في العراق وبنسب متفاوتة.

في البدء كانت الساحة للخطاب السياسي الانيق، الأحزاب الإسلامية التي حكمت العراق بعد الاحتلال الأمريكي اعتمدت شخصياتها على خطابات أخلاقية الى حد بعيد، على اعتبار انها تنطلق من خلفية دينية تدعو لتكوين انسان أخلاقي متزن، كما ارتبط الخطاب بنوع من التنظير المفرط والتحذلق اللغوي حتى باتت علامة فارقة للكثير من الشخصيات السياسية، باعَ ساسة الدعاية الانيقة سقف توقعات عالٍ جدا، حتى ظن الناس انهم يستعيدون حكومة الامام علي عليه السلام، وخرجوا في وقفات تضامنية مع الحكام الجدد ورددوا شعارات "علي وياك علي، نريد قائد جعفري".

مرت سنوات ولم تتحقق أحلام عودة "عدالة الامام علي عليه السلام"، كسرت الكثير من الجدران التي بنيت خلال فترة معارضة حكم حزب البعث "العلماني"، وشيئا فشيئاً انهار السقف على بعض المقدسات وأصبحت من الماضي، لم يعد الوضع يحتمل، فالناس يريدون الواقع لا الشعارات، والزمن كفيل بفرز الشعار عن الواقع، لذلك فان عدم تطبيق النظريات المنطوقة على لسان السياسيين الإسلاميين انعكست سلبياً عليهم وعلى خطابهم، وانقلب الناس كارهين أي شيء تنظيري ويطلبون خطاباً جديداً يتناسب ما يحتاجونه من خدمات واصلاحات يحتاجها البلد.

في هذه المرحلة برز مجموعة من النواب الذين خرجوا من الصندوق بخطاب شعبوي لا يَمّت للتقليدية السياسية بأي صلة، بل ينفي ما دونه وما فوقه، يدعي ارتباطه بهموم الشارع مستبدلاً ثوب الاناقة بخطاب شعبوي استشعر حاجة الناس للشتيمة، باعتبارها حالة نفسية للتخلص من الضغوطات في حالة العجز التام عن تغيير الواقع، وهنا كان الخطاب الجديد متناغما تماماً مع حديث الشارع، مع إضافة شيء من البذاءة، التي حمل اصحابها مجموعة من الممارسات:

1- تكون الشتائم لديهم بضاعة مسموحة وفي اقصى حدودها.

2- يستخدم السياسي المنصات الاجتماعية لتروج خطابه، لامتناع بعض المؤسسات الإعلامية من نقل احاديثه التي تغلب عليها الشتيمة.

3- يحاول اضحاك الناس، ويعتبر نفسه كوميديا، ولا يهم ان تهجم على أناس وتسبب بجرح مشاعرهم.

4- اذا كانت معايير الشجاعة عند السياسي الانيق هي تقديس الطائفة والمذهب، فالسياسي البذيء يقدم نفسه على انه اشجع شجعان العراق، لكونه استطاع اطلاق الشتائم دون خوف.

5- اذا كان السياسي الانيق يقترب من مفهوم الفيلسوف الجالس في صومعته ولا يعرف من الواقع شيء، فالسياسي البذيء يقترب من المهرج، واذا تحسنت حالته يقترب العاملين في الصحافة الصفراء.

6- تحميل الدين كل النكبات التي تعرضت لها البلاد، والتناسي المقصود لدور الأحزاب العلمانية في تدمير البنية الاجتماعية للبلد.

ما بين الخطابين هناك حقيقة واحدة، انهما يعتمدان على الشعارات، والتلاعب بالكلام لا اكثر، بينما عرف الشعب اكذوبة "العلمانية البعثية" وشعاراتها بعد سنوات من سيطرتها على الحكم، استطاعت الشعارات الإسلامية ان توفر البديل، وبنفس الطريقة يركب بعض السياسيين موجة الشعارات المضادة للاسلامين لكن بالشعارات فقط من دون مشروع، انها تحمل الخطاب فقط، ورغم عدم نكراننا لأهمية الخطاب لكن سياسة أحوال الناس اكثر من ذلك، فالأهم في البرلماني والمسؤول التنفيذي على حد سواء هو استطلاع حاجات الناس الأكثر الحاحاً، وعرضها على مجلس النواب او مجلس الوزراء والإصرار على تنفيذها بأي وسيلة كانت، فهي بالنهاية وظيفته، وما نشهده اليوم من انقلاب كبير على طريقة خطاب الأحزاب الإسلامية لا يقدم البديل الحقيقي بقدر ما يستغل نقمة الناس من اجل الحصول على مكاسب سياسية.

وما تشترك به "الدعاية الانيقة" السابقة، و"الدعاية البذيئة" الصاعدة، هو غياب الرؤية والمشروع الحقيقي لاعادة ترميم الوطن، في الغالب يستخدمون الخطاب للتستر على غياب المشروع وشراء الوقت بالكلمات، وتقلب الأيام سيكشف مرة أخرى ان الخطاب لا يغني ولا يسمن من جوع، لكنهم سيلجؤون الى أحزاب لا تملك مشروعا جديدا بل خطابا جديدا، هكذا هي دائرة الأيام في العراق، منذ سيطرة البعث على مقاليد الحكم وحتى الان.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا