تقنية التهميش والنص الموازي .. مقاربة نقدية بلوغ النهر إنموذجاً

نبيل نعمة الجابري

2016-03-29 11:24

إنمازت قصيدة النثر العربية بالعديد من الخصائص والمحددات التي جعلت من غير الممكن إحالتها وإحالة بداياتها إلى الأنموذج الغربي شكلاً ومضموناً، كون الأنموذج الذي كُتبت فيه قصيدة النثر العربية خصوصاً منذ العقدين الماضيين وللآن لا يمكن توصيفه إلا بالفرادة، فرادة التصوير والتشكيل معاً، الأمر الذي جعلنا نعيد النظر فيما طرحته سوزان برنار، وإلى كل من نظّر وأنطلق من الفكرة المغلوطة أعلاه، فقصيدة النثر العربية اليوم لم تعد تابعاً في مرجعياتها بعد أن تخطّت حدود النص المتعارف عليه غربياً، كما وأنها لم تعد مجرد اشتراطات مفروضة بعد أن تجاوزت الممكن منها إلى غير الممكن، والمعقول إلى غير المعقول والبَعد إلى ما بعد البعد، وقد تجلى ذلك في الكثير من الكتابات الشعرية في النسق الثقافي العربي، والتي أسهمت لدى النقاد في التأسيس للكثير من الفرضيات والتقنيات الكتابية، ومنها فرضية التهميش بعد أن صارت ظاهرة تستحق التأمل والبحث والدراسة، ليس بوصفها سمة من سمات النص الجديد فقط، بل لأنها "عتبة تعدُّ من أهم العناصر الموجودة على حدود النص، داخله وخارجه في آن، تتصل به إتصالاً يجعلها تتداخل معه إلى حدِّ تبلغ فيه درجة من تعيين إستقلاليته، وتنفصلُ عنه إنفصالاً يسمحُ بأنتاج دلالة معينة". فالتهميش- كما هو متعارف عليه في البحث العلمي- الطرائق التي تُكتب وتُسجل بها القنوات المأخوذة منها، والاستشهاد بها في المتن، أي المصادر والمراجع في هوامش وحواشي الصفحات ، وفي الشعر هو (السعي نحو إضاءة معالم من متن القصيدة وقراءتها قراءة ذاتية، من خلال مستلات أو تعليقات أو إيضاحات تقدم في جانب القصيدة أو في أسفلها)، وللمتمعن في التعريف الأخير يجد أن الضرورة التي ينطلق منها الشاعر لاستعمال هذه التقنية تتأتى من الغموض الذي أتسمت به قصيدة النثر عبر مراحل كتاباتها السابقة على أيدي شعراء كانت لهم الريادة في التأسيس والاشتراط، منهم أدونيس وسليم بركات وآخرون.

ولكن هل نجح هؤلاء الشعراء في استعمال هذه التقنية؟، وهل استطاعوا أن يؤسسوا لمقاربة نستطيع من خلالها أن نحكم عتبة التهميش كنص مواز؟.

تذهب معظم الدراسات النقدية الحديثة إلى أحلال بنية الهامش محل المركز، أو المتن كمشروع بديل لاستنطاق الآخر ثقافياً وجغرافياً، وبما أن الغموض خصيصة من خصائص قصيدة النثر فأن ضرورة التهميش تكون مطلباً جوهرياً لتحقيق المزيد من تواشج التلقي بين ركني العملية الإبداعية (المبدع والمتلقي)، لتحقيق قدر اكبر من التوضيح وهذا ما لم نلمسه في كتابات كل من أدونيس وسليم بركات كونهما اعتمدا على الهامش الشعري في أستيلاد غموض مضاف إلى الغموض الموجود في النص ولم يسعيا للتقرب من المتلقي في سبيل إنتاج المعنى دون القصور على التأويل.

على خلاف ذلك نجدُ أن تجارب أبداعية لاحقة، أستطاعت أن تؤكد حضورها لتفعيل هذه التقنية وعلى المستويات كافة، الشكلية والمضمونية منها، الشاعر العراقي باسم فرات يسعى ما أمكنه لان يقرب من مساحة الفجوة بين المتلقي والنص في ديوانه بلوغ النهر من خلال الاعتماد على نتاج نص مواز للمتن الذي يكتبه، عبر استعمال الهامش كتقنية وخصيصة أنتروبولوجية، لأجل تحقيق غايتين مضافتين إلى همه الشعري، بأناسه اجتماعية/ثقافية عبر إيراده للعديد من التهميشات أسفل الكتابة أو أفراد مساحة خاصة لها في متن الكتابة.

حيث يقوم بفتح هامش سفلي في نص البراق يصل هيروشيما لا لأجل التعريف بمدينة هيروشيما فالمعرف لا يعرف، بل لإنتاج علاقة بين الموروث العربي الإسلامي وموروث الثقافة اليابانية، أسهاماً منه في ربط الممارسات والتمأثلات بين الثقافتين المتباعدتين زمكانياً، وهو بذلك يسهم إلى حد بعيد في خلق صوت شعري مصاحب يقابل أو يوازي صوت المتن من ناحية المعنى. كذلك يفعل في فتح هامش منفرد في متن الصفحة بنص (الهَنَمي في هيروشيما) حينما يتحدث عن تماثل مطابق بين الأسواق المسقفة في هيروشيما وبين الأسواق التي تشابهها في طريقة البناء والتشكيل لدينا، كذلك يفعل في نص (طلاوت تن كان خام) في حديثه عن القفة أو الزنبيل. بينما نجده في مكانات أخر يسعى لفتح هوامش يحاول ما أمكنه فيها أن يقرب من المعنى أو الوظيفة التي تمثل الإحالة، والتي في أغلبها الأعم تكون ثقافية كما يفعل في تهميشاته حينما يورد الحديث عن الآلهة والديانات والمعتقدات التي تمثل مشاهداته العينية بالبلاد التي كان يسكنها، نجد هذا كثيرا في نص (شروق أطول من التأريخ) والإضاءات المقدمة عن الـ(الشيفا) والـ(الشنتوية) والـ( والثالوث الهندوسي).

نجده أيضا يذهب إلى تسجيل مجموعة من الهوامش بنص (تقريظ باشو) في صفحة منفردة بمتن الورقة، وقد جاء بها الشاعر لتوضيح موقفه الشخصي ومشاهداته ومواقفه النفسية داخل النص الشعري حين يورد الحديث في الهامش عن (ماتسو باشو) الشاعر الياباني ومعلم الهايكو، وعن أحيقار الحكيم العراقي كرمزين متماثلين في الفكر والمعرفة مع فارق أن كلا منهما يمثل أثينية مختلفة عن الآخر، وهذا الأخير نجد يتكرر في أكثر من هامش كدالة يقابله في كل نص يحضر فيه شخصية تشبهه تماماً من مشاهدات الشاعر، وهنا تكمن دراية الشاعر في استحضار مثل تلك الشخصيات ومحاولة ربطه بمثيله.

أن التهميشات التي يُقدمها الشاعر هي بالاصل قراءة لنصه، وهي مقاربة شعرية تسمح للمتلقي أن يشعر بضرورة أنبثاق نص مواز يتجاوز المعروض الاصلي لمعرفة جديدة، وأحالة جديدة، وأنتاج جديد، يبقى للناقد كشف ما لم يستطع الشاعر أن يكشفه في نصّه الذي أسهم اللاشعور لا محالة في أقامته، ملتقطاً الكثير من اسقاطات الذات المنتجة في فتح عتبة تأولية محفزة على أنتاج المعنى.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي